big bang galaxy

إحدى صِفات الله في المسيحيَّة أنَّهُ مَوجود بذاتهِ، فهو عِلَّة الوُجود الأولى الذي لا عِلَّةَ لهُ. تتعرَّض هذه الصِّفة كغَيرِها من الصِّفات الأُخرى عن وُجود الله، للتَّشكيك من المُلحِدين. سوف نُقَدِّم في المَقال التَّالي دِفاعاً عن هذه الصِّفة وعن ضَرورَة وُجود خالِق لهذا الوُجود.

يُروى عن فَتىً صَغير سَألَ صَديقه الأكبَر منهُ سِنّاً قائِلاً لهُ: “من خَلَقَني؟” فرَدَّ عليهِ بالقَول: “الله هو من خَلَقَك” ثُمَّ عادَ فَسألهُ “من خَلَقَكَ أنت؟” فرَدَّ عليهِ بنَفس الجَواب، إلى أن سألهُ في النِّهاية، إذاً من خَلَقَ الله؟ قَد يَبدو لنا هذا حِواراً طُفولِيّاً طَبيعي، لكن في الواقِع فإنَّ العَديد من العُلَماء والمُفَكِّرين المُعاصِرين يُعيدونَ طَرح نَفس هذه الفِكرة، إذ يقول ريتشارد دوكنز في كتابهِ “وَهم الإله” في مَحض رَدِّهِ على فِكرَة أنَّ الله هو مُصَمِّم الكَون: “إنَّ فِكرَة وُجود تَصميم للكَون… تُسَبِّب مُشكِلة أكثَر مِمَّا تَحُلّ، وذلك عبر طَرح السُّؤال: من صَمَّمَ المُصَمِّم؟”.¹ دوكنز هُنا يُحاوِل الرَّد على حُجَّة الذينَ يؤمنون بالخَلق، الذينَ يقولون أنَّهُ لا بُدَّ من وُجود مُسَبِّب لهذا الوُجود، لأنَّ الله هو عِلَّة كُل شيء وهذا وفق قانون السَّبَبِيَّة الذي يَنُصّ على أنَّ لكُل نَتيجة هُناكَ سَبَب. لكن دوكنز يقول إن كانَ الله هو سَبَب الوُجود فمن هو إذاً مُسَبِّب الله؟ إن كانَ كُل فِعل لهُ مُسَبِّب، إذاً فيجب أن يكونَ هُناكَ مُسَبِّباً لوُجود الله أيضاً، مِمَّا يَدحَض حُجَّة أنَّ الله هو المُسَبِّب الأوَّل للخَليقة.

في الأساس مُجَرَّد تَفكيرنا بهذه الأُمور هو افتِراض مُسبَق لوُجود نِظام في الكَون يُمَكِّننا من الوُصول لنَتائِج مَنطِقيَّة، افتِراض مُسبَق لقَوانين مُحكَمة تَسود الطَّبيعة، لتَصميم مُبدِع لا يُمكِن أن يَتِمّ سِوى عبر وُجود خالِق. فإن كانَت الحَياة نَتيجَة الوَقت والصُّدفة العامِلانِ على المادَّة بحَسب الاِنتِقاء العَشوائي، فكيفَ يُمكِن إذاً أن نَصِل لنَتيجة عِلمِيَّة هادِفة عبر مُحاوَلَة الإجابة على هذه الأسئلة؟ لكي نَصِل لأجوِبة مَنطِقيَّة علينا افتِراض وُجود هذا الخالِق العَظيم وتَصميمه للكَون، لذلك لا يُمكِن أن نَصِل إلى استِنتاج أنَّ الله غير مَوجود طالَما أنَّهُ مَصدَر المَعرِفة الأساسي. كما أنَّي يجب أن أُنَوِّه إلى أنَّ وُجود الله لا يَعتَمِد على صِحَّة حُجَّة قانون السَّبَبِيَّة، لأنَّ صِحَّتها قائِمة على وُجود الله، وليسَ وُجود الله قائِم على صِحَّتها.

لكن إن أرَدنا أن نُنشِئ رَدّاً على هذه الفِكرة المَطروحة، نقول أنَّهُ وفق قانون السَّبَبِيَّة فإنَّ لكُل نَتيجة مُسَبِّب، لكن الله ليسَ نَتيجة، بل هو المُسَبِّب الذي لا سَبَبَ لهُ لأنَّهُ الكائِن بذاتهِ كما أعلَنَ عن نَفسهِ (سِفر الخُروج 13:4)، فلَو كانَ نَتيجة لكانَ احتاجَ لوُجود مُسَبِّب. إنَّ الله لهُ قُدرَة الوُجود الذَّاتي وهو واجِب الوُجود لأنَّ بدونهِ لا تَفسير مَنطِقي وحَقيقي للوُجود. الله هو كائِن منذُ الأزَل، قبلَ الزَّمان وخارِج المادَّة والمَكان. تقول أوَّل آية في سِفر التَّكوين “في البَدء (الوَقت)، خَلَقَ الله السَّماوات (المَكان) والأرض (المادَّة).” الله كائِن قبل هذه الأشياء ووُجوده لا يَعتَمِد عليها بل وُجودها هي يَعتَمِد عليه.

الله كائن بذاته

لا يُمكِن أن يكون الكَون أزَلِيّاً، فالاِكتِشافات العِلميَّة الحَديثة تؤكِّد أنَّ الكَون دَخَلَ حَيِّز الوُجود في فَترةٍ ما من الزَّمَن ولم يَكُن مَوجوداً منذُ الأزَل، حيثُ يقول عالِم الفيزياء الشَّهير ستيفين هوكِنغ: “…الجَميع الآن يؤمن أنَّ الوَقت كانَ لهُ بِداية في الاِنفِجار العَظيم”². كما يقول العالِم ألِكسَندر فيلينكِن: “…مع الدَّليل المَوجود الآن، العُلَماء لا يَستطيعون أن يَختَبِئوا خَلف احتِمالِيَّة وُجود كَون أزَلي. ليسَ هُناكَ مَخرَج، عليهم أن يَتقَبَّلوا الحَقيقة الصَّعبة أنَّ الكَون لهُ بِداية…”3 وبذلك فإنَّ الكَون لا يُمكِن أن يوجِد نَفسهُ بنفسهِ لأنَّهُ لا يُمكِن أن يكون مَوجود وغير مَوجود في نَفس الوَقت ونَفس الإطار، لأنَّ هذا مُنافٍ لأبسَط عُلوم المَنطِق ويُسَمَّى تَناقُض. إنَّ وُجود الكَون يعني أنَّهُ من الضَّروري وُجود كائِن عندهُ القُدرة لأن يكون مَوجوداً بذاتهِ حتَّى يَخلِق هذا الكَون.

إن فِكرَة الوُجود الذَّاتي هي إحدى صِفات الله حيثُ يُسَمَّى “الكائِن بذاتهِ”، هي تَعني أنَّ الخالِق يجب أن يكون مَوجوداً دونَ مُسَبِّب لوُجودهِ، وغير مَخلوق ويَختَلِف عن كُل شيء لهُ سَبَب في هذا الكَون. الخالِق هو الذي لدَيهِ القُدرة على أن يكون موجوداً بحَدّ ذاتهِ، يعني أنَّهُ لا يتلقَّى وُجوده أو كيانه من شيء سابِق، لأنَّ وُجوده مُتَأصِّل فيه، فهو مَوجود بشَكل سَرمَدي.

الله واجب الوجود

نُترَك في النِّهاية أمامَ خيار وَحيد، وهو أنَّ وُجود كائِن لهُ القُدرة على الوُجود بذاتهِ هو ضَرورة وإلَّا لَما استطاعَ أن يكون هُناك شيء مَخلوق، وهذه هي الإجابة على السُّؤال: لماذا يوجَد شيء بدَلاً من لا شيء. طالَما أنَّ الخَليقة مَوجودة فهذا يعني أنَّ هُناكَ كائِن واجِب الوُجود أي وُجوده ضَروري. الخَليقة ليسَ لدَيها القُدرة أن تكون مَوجودة بذاتها، يجب أن يكون قَد تَمَّ صُنعها عبر مُصَمِّم يكون وُجوده ضَروريّاً لتوجَد الخَليقة. الكائِن المَوجود بذاتهِ، بحُكم التَّعريف، هو كائِن كانَ مَوجوداً دائِماً، ووُجوده أساسي للوُجود.

المُلحِدين اليوم يؤمنون بما يُعرَف بمَفهوم التَّوَلُّد التَّلقائي وهو ببَساطة مَعنى آخَر للخَلق الذَّاتي. هي نَظرة تَلقى شَعبِيَّة كَثيرة لكن الفَحص الدَّقيق لهذا المَفهوم سيَكشِف أنَّ الفِكرة هي استِحالة مَنطِقيَّة. يقول آر سي سبرول: “بعض هؤلاء المُلحِدين حاوَلوا أن يَستَبدِلوا مَفهوم الخالِق عبر مَفهوم التَّوَلُّد التَّلقائي والذي يعني أنَّ الأشياء وُجِدَت بذاتها دونَ مُسَبِّب، هذا بالطَّبع يَنقُض أحَد المَبادِئ العِلمِيَّة الأساسِيَّة وهي ex nihilo nihil fit (من لا شيء، لا يَقدِر أن يَنتُج شيء).”4

تُعَلِّم المَسيحيَّة أنَّ الله هو السَّبَب الذي ليسَ لهُ مُسَبِّب، وهو الخالِق غير المَخلوق. إنَّهُ مَصدَر كُل الأشياء، الذي خَلَقَ كُل شيء، وهو حامِل كُل الأشياء بكَلِمَة قُدرَتهِ (عِبرانِيِّين 3:1). وهو الذي تجد فيه كُل الأشياء الأُخرى مَصدَرها ووُجودها واستِمرارها (أعمال الرُّسُل 28:17). من الواضِح أنَّها استِحالة مَنطِقيَّة أن يكون أيّ شيء مَوجود بذاتهِ سِوى الله، لأنَّ الشَّيء لكي يوجِد ذاتهُ، يجب أن يوجَد قبلَ أن يكون، وهو بذلك أصبحَ مَوجوداً وليسَ مَوجوداً في نَفس الوَقت ونَفس الإطار، وإنَّ أبسَط عُلوم المَنطِق تَجعَل من هذه النَّظَرِيَّة أمر مُستَحيل.

  1. The God Delusion. Richard Dawkins.
  2. The Nature of Space and Time. Stephen Hawking and Roger Penrose.
  3. Many Worlds in One Many Worlds in One: The Search for Other Universes. Alex Vilenkin.
  4. Defending Your Faith. R.C. Sproul.


مقالات مُشابِهة

إنجيل مَرقُس في ثلاث نقاط
قصة حياة المسيح
ماهي الصلاة في المسيحيّة؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.