أربعة مخطوطات على الطاولة

كيف نعرف أنَّ متَّى، مَرقُس، لوقا، ويوحنَّا، هُم حقّاً كَتَبَة الأناجيل كما هو مُتعارَف عليه اليوم عند المسيحيِّين؟ الإجابة في هذا المقال.

واحدة من أبرز سِمات الأناجيل المنسوبة زوراً إلى أحد أتباع المسيح الأوائل هي أنَّ النَّص نفسه يُجاهر بنسبته إلى أحد الرُّسل بعكس الأناجيل القانونيَّة الصَّحيحة. يَرِد في الإنجيل المنسوب زوراً إلى بطرس: “ولكن أنا سمعان بطرس وأخي أندراوس…”، ويبدأ إنجيل توما: “أنا توما الإسرائيلي، رأيتُ أنَّه من الضَّروري أن…”، لكن في العهد الجديد نجد النُّصوص مكتوبة من دون ذِكر لِاسم الكاتب. فلماذا لا نجد أُسلوب ذكر الأسماء في الأناجيل القانونيَّة؟ وهل هذا يعني أنَّ كُتَّاب الأناجيل مجهولي الهويَّة؟

يقول العالِم مايك لايكونا: “لم يكُن من غير الاعتيادي للكُتَّاب القُدماء أن لا يكتبوا أسماءهم في كِتاباتهم. بلوتارك الكاتب اليوناني كتبَ أكثر من 50 سيرة ذاتيَّة معروفة لنا اليوم، وقد كُتِبت مع نِهاية القرن الأوَّل وبداية القرن الثَّاني، واسمهُ يغيب عن كلّ واحدة منها. لكن التَّقاليد المُتوارَثة عبر القُرون هي التي أعطتنا المعلومات عن هويَّة هذا الكاتب، فلا أحد يُشكِّك اليوم أنَّ بلوتارك هو نفسه الذي كتبها”.¹ ليس من غير المعتاد أن لا نجد أسماء الكُتَّاب في النَّصّ المكتوب، بل كان الاِسم يُدرَج على غِلاف الدَّرْج الذي كان يُكتَب عليه الكِتاب. المُفارَقة أنَّ غياب الأسماء في الأناجيل يعطينا دليل مصداقيَّة سواء عبر تشابُه هذا الأُسلوب مع أُسلوب الحقبة التي كُتِبت فيها، أو عبر عدم حاجة الكاتب لأن ينسِب لنفسه سُلطة خاصَّة في ذِكر اسمهِ بشكل مباشر بعكس الأناجيل المنحولة.

نستطيع اليوم معرفة من هُم كُتَّاب الأناجيل القانونيَّة، متَّى، مَرقُس، لوقا، ويوحنَّا، وذلك عبر الأسباب التي سنتوسَّع فيها تباعاً.

Good News in Arabic

أوّلاً: شهادة المسيحيين الأوائل

هناك إجماع بين أقدَم الشَّهادات من الآباء الأوائل على صِحَّة نِسبة الأناجيل الأربعة تباعاً إلى متَّى، مَرقُس، لوقا، ويوحنَّا، حيث تتوافق آراءهم حول هذا الموضوع، نذكُر على سبيل المِثال: بابياس، إيرانيوس، يوستينوس الشَّهيد، إكلِمندُس الإسكندري وغيرهم. هؤلاء يُخبرون نفس التَّفاصيل عن الأناجيل في حين أنَّ مصدَر معلومات البعض منهم مختلف أحياناً عن مصدر معلومات الآخر.

يقول البعض أنَّ إيرانيوس الذي عاشَ في نهاية القرن الثَّاني هو أوَّل من تحدَّث بشكل صريح عن الأناجيل الأربعة كأناجيل قانونيَّة، لكن هذا ليس صحيحاً، فإيرانيوس لم يسعَ لإثبات هذه الفكرة بل استخدمها بطريقة تدلّ على أنَّها كانت مقبولة ومُعتمَدة من قبل، يقول العالِم غراهام ستانتون: “في الوقت الذي كتبَ به إيرانيوس عام 180م، كانت الأناجيل الأربعة معروفة. لم يكُن يُدخِل مفهموماً جديداً، لكنَّه كان يشرح لماذا كان المسيحيُّون يستخدمون أربعة أناجيل فقط بعكس الهراطقة”². بابياس عرفَ إنجيلَيّ مَرقُس ومتَّى، ويقول عن مَرقُس أنَّه ناقل المعلومات عن بطرس، ويتَّفق مع ذلك إيرانيوس الذي مصدَر معلوماته مختلف عن بابياس، فهذا الأخير يقول أنَّ معلوماته أخذها من “يوحنَّا الشَّيخ”، كما أنَّ بابياس عرفَ كتابات يوحنَّا الرَّسول ومنها الإنجيل، فلائِحة أسماء الرُّسل التي يُعطيها بابياس مُطابقة لتلك التي في إنجيل يوحنَّا، وهناك أسباب قويَّة تدفعنا للقول بأنَّ بابياس عرفَ إنجيل لوقا أيضاً، لأنَّ أندراوُس القيصري في تفسيره لسِفر الرُّؤيا يقول أنَّ بابياس اقتبسَ بشكل حَرفي الآية من إنجيل لوقا التي تتحدَّث عن سُقوط إبليس (لوقا 18:10). ³

إكلِمندُس الإسكندري كتبَ بعد إيرانيوس بسنوات قليلة، وفي مكان جُغرافي آخر ونسبَ الأناجيل الأربعة إلى نفس الكُتَّاب، وأيضاً يبدو من حديثه عنهم أنَّ هذا التَّعليم لم يبدأ معه، بل كان يُسلِّم به جدلاً في طرحهِ للحُجَج. ويوستينوس الشَّهيد الذي كان مصدَر معلوماته مختلفاً أيضاً، كان أُستاذاً لتاتيان الذي يؤمن بالأربعة أناجيل التي نتحدَّث عنها، وهذا لا لبسَ فيه إذ إنَّه حاولَ أن يكتب نسخة موحَّدة من الأناجيل لا زالت موجودة لليوم تُعرَف بِاسم diatessaron والتي تعني “جمع الأربعة”، كما أنَّ يوستينوس الشَّهيد يقتبِس من الأناجيل الإيزائيَّة الثَّلاثة (متَّى، مَرقُس، ولوقا) ويقول أنَّ بطرس هو مصدر معلومات مَرقُس، ويقتبِس أيضاً الآية من إنجيل (يوحنَّا 3:3) ويستخدم مُصطلَحات خاصَّة بإنجيل يوحنَّا.

ثانياً: شهادة المخطوطات القديمة

إذا كان كُتَّاب الأناجيل ليسوا هم الكُتَّاب الحقيقيُّون، أو إن كان هناك جدَلاً حول هويَّتهم في القُرون الأولى للمسيحيَّة، فمِن المُتوقَّع أن نحصل على مخطوطات تحمل أسماء أُخرى أو تُنسَب لأشخاص مجهولين، لكن هذا لم يحصل. فإنَّ شهادة أقدم المخطوطات بالإضافة إلى كل المخطوطات الأُخرى هي أنَّ الأناجيل القانونيَّة الأربعة تُنسَب لكُتَّابها المعروفين اليوم.

لنأخذ الرِّسالة إلى العبرانيِّين كمثال توضيحي. هذه الرِّسالة لا نعرف من هو كاتبها لذلك نجد مخطوطات تنسِبها لأشخاص مختلفين كما هو مُتوقَّع، ونجد مخطوطات لا تذكُر اِسم كاتبها، كما أنَّ جدَلاً حصلَ في تاريخ الكنيسة حول هويَّة كاتب هذه الرِّسالة، لكن هذا الأمر لم يحصل مع الأناجيل القانونيَّة، وهذا دليل على أنَّ نَسبها للكُتَّاب لم يكُن فيه شَكّ. يقول برانت بيتر: “ما تحصل عليه من كِتاب من العهد الجديد (كالرِّسالة إلى العبرانيِّين) غير معروف كاتِبه هو مخطوطات لا اِسم عليها ونِقاشات حول هويَّة الكاتب المُحتمَلة، وهذا لا تجده أبداً فيما يتعلَّق بالأناجيل الأربعة، فلا توجد مخطوطات (تخُصّ الأناجيل) من دون اِسم ولا نِقاش بين المسيحيِّين الأوائل حول هويَّة كُتَّابها”.

church in arabic

ثالثاً: التوافق مع الشهادة الداخلية (شهادة الأناجيل نفسها)

تتوافق شهادة المسيحيِّين الأوائل مع شهادة الأناجيل نفسها. فقد أظهَرنا في مقال آخَر كيف تتوافق شهادة الآباء على أنَّ بطرس هو مصدَر معلومات مَرقُس من إنجيل مَرقُس نفسه. إنجيل متَّى أكثر إنجيل يُظهِر إلماماً بالعُملات وهذا يدلّ على أنَّ كاتِبه كان يعمل بهذا المجال ونحن نعرف أنَّ متَّى كان عشَّاراً (جامِع ضَرائب)، بالإضافة إلى أنَّ الكاتب يُظهِر إلماماً جُغرافيّاً وحَضاريّاً دقيقاً لتلك الحقبة التَّاريخيَّة ومن الواضح أنَّه كان شاهد عيان. أمَّا بخصوص لوقا فهو يوجِّه رسالة مباشرة إلى شخص يعرفه ويُسمِّيه بالاِسم (لوقا 3:1) وهذا يُثبت أنَّ الكاتِب كانت هويَّته معروفة، فهو لن يخُصّ بالذِّكر اِسماً مُحدَّداً ويتوجَّه له بالكتابة إن كان هو نفسه مجهول الهويَّة من قِبَل الشَّخص المَعني.

يُثبت بروك ويستكوت بعد بحث تحليلي في كِتابه “الإنجيل بحسب يوحنَّا” أنَّ كل الأدِلَّة في الإنجيل تُشير إلى أنَّ يوحنَّا هو الكاتِب، حيث يحمل هذا الأخير كل المواصفات التي تؤهِّله بأن يكون كاتب الإنجيل، فهو (يهودي، شاهد عيان، مُلِمّ بالهَيكل وبجُغرافيا المِنطقة، واحد من الإثنَي عشر، وشخص كان له تأثيراً كبيراً في تلك المرحلة) لن نغوص في تفاصيل أكثر في هذا المقال عن الأدِلَّة الدَّاخليَّة لكي نُركِّز على الموضوع الرَّئيسي.

يُظهِر ريتشارد بوخوم في كِتابه “يسوع وشُهود العيان” كيف استخدمَ كُتَّاب الأناجيل القانونيَّة أساليباً بلاغيَّة تُوافق الأُسلوب السَّائد تلك الأيَّام، يُظهِرون فيها أسماء الشُّهود الذين ساعدوهم في نقل الأحداث المختلفة وفق معايير أدبيَّة معروفة من الجُمهور، ويُثبت أنَّ الأحداث عن المسيح تناقلَت في فترة كان فيها شُهود العيان لا يزالون أحياء لكي يتحقَّقوا من صِحَّة المعلومات، ما يُعرف بالذَّاكِرة الحيَّة للشُّهود living memory وهو موضوع سنتحدَّث عنه بالتَّفصيل في مقال لاحق.


تتوافق شهادة المسيحيِّين الأوائل مع شهادة الأناجيل نفسها


رابعاً: الكتاب الأربعة ليسوا مرشحين في حال التزوير

المُزوِّر سوف يستخدِم اِسماً معروفاً إذا ما أرادَ أن يُعطي سُلطة للنَّص الذي يكتبه، كما هي الحال مع إنجيلَي بطرس وتوما، حيث يختار المُزوِّر شخصاً معروفاً ينسِب إليه النَّص، وليس أيّ شخص، يختار من هو مشهور من الرُّسل. لماذا يختار المُزوِّر اِسم مَرقُس الذي هو ليسَ شاهد عيان، وليس من الرُّسل المعروفين؟ لا سبب يدفعه لذلك لو كان مُزوِّراً، وهذا ينطبق على لوقا ومتّى أيضاً، حيث كان أمام المُزوِّر (لو فرضنا ذلك) أسماء رنَّانة أكثر من أسماء هؤلاء. مُقارَنة بسيطة بين الأمثلة المذكورة في مُقدِّمة هذا المقال، وبين شهادة الأناجيل القانونيَّة تجعلنا نستطيع أن نُميِّز بين من يُريد أن يُزوِّر وبين من يقول الحق. من لا يريد أن يقبل شهادة كُتَّاب الأناجيل القانونيَّة لأنَّ أسماءهم ليست مذكورة فسوف يقول أنَّها مُلفَّقة حتَّى ولو ذُكِرت. قبول الدَّليل من عدَمه يعتمد على الفرضيَّة المُسبقة التي من أجلها نبحث أساساً حول هذا الموضوع.

يقول العالِم كريغ كينر: “للحصول على صورة كاملة عن يسوع، الأناجيل هي أفضل مصدر لنا”. الأناجيل القانونيَّة لم تكُن بحاجة كي تنسِب سُلطة لنفسها لأنَّها فرَضت سُلطتها على الكنيسة من البداية، حيث أجمعَ عليها المسيحيُّون ونجد أدِلَّة قويَّة على ذلك تعود للقرن الثَّاني. لذلك فإنَّ الكُتَّاب لم يكونوا بحاجة إلى نَسْب سُلطة لأنفسهم، السُّلطة التي بالتَّأكيد يحتاجها من يُريد أن يُزوِّر إنجيلاً. الأناجيل القانونيَّة هي الوحيدة التي تعود للقرن الأوَّل بعكس “الأبّوكريفيَّة” التي أقدَمها يعود للقرن الثَّاني، لذلك الأناجيل الأربعة هي مصدَر معلوماتنا الرَّئيسي عن المسيح لأنَّها الشَّهادة الأقدَم والأصَحّ.


مقالات مُشابِهة

هل توجد تناقضات في الأناجيل؟
معجزات يسوع في الأناجيل
ماذا عن الأناجيل الأخرى؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.