ما هي طبيعة اختلاف المسيحيِّين حول عدد أسفار الكتاب المقدَّس؟ وإلى أيّ مدى يؤثِّر هذا الاختلاف على تعاليم المسيحيَّة؟ هذا ما سنوضحه في المقال التالي.
الكِتاب المُقدَّس هو مَجموعة مِنَ الكُتُب التي أَوحى بِها الله وعَدَدهُم 66 كِتاب. هذهِ الكُتُب مُدرَجة ضِمن عَهدَين، العَهد القَديم ويَضُم 39 كِتاب والعَهد الجَديد الذي يَضُم 27 كِتاب. نُسَمّي هذهِ الكُتُب أسفار وهيَ مِنَ الكَلِمة العِبرِيّة “سِفر” التي تَعني كِتاب. شارَكَ في كِتابَة العَهد القَديم أنبِياء وكَهَنَة ومُلوك بَني إسرائيل، وكَتَبَ العَهد الجَديد تَلاميذ المَسيح ومُساعِديهِم في الخِدمة آنَذاك.
تَتَّفِق جَميع طوائِف المَسيحِيِّين في كُل مَكان على مِصداقِيَّة هذهِ الأسفار ال66. لكِن بَعض الطَّوائِف المَسيحِيَّة كالكَنيسة الرُّومانِيَّة الكاثوليكِيَّة تَزيد على أسفار العَهد القَديم (7 أسفار إضافِيَّة) وهي: طوبِيَّا، يَهوديت، باروك، يَشوع بِن سيراخ، سِفر الحِكمة، المَكابِيِّين الأوَّل والثَّاني.
لكِن لِماذا هذهِ الزِّيادة في الأسفار؟ ولِماذا لا تَعتَبِر الطَّائِفة الإنجيلِيَّة أنَّ هذهِ الأسفار السَّبعة الإضافِيَّة مُوحى بِها من الله؟
كانت هذه الكُتب السبعة جزءاً من ترجمة العهد القديم اليونانيّة المعروفة باسم السبعينيّة. كان العهد القديم اليوناني هو الكتاب الذي استخدمته الكنيسة الأولى. يُمكننا القول مع ف. ف. بروس أن الكنيسة المُبَكِّرة (ما بعد الرسولية) ظنَّت بالخطأ أن هذه الكتب السبعة هي جزء من العهد القديم. لم تكن هذه الأسفار السبعة في العهد القديم العبري ولم يقبلها اليهود كأسفار قاونيّة بحسب يهود تلك الأيّام مثل يوسيفوس المؤرّخ اليهودي وفيلو عالم اللاهوتي اليهودي ومصادر أخرى تؤكّد ذلك، كما يتّضح أيضًا مع الآباء الأوائل الذين كانوا على دراية باللّغة العبريّة مثل أوريجانوس وجيروم وكيرلس الأورشليمي.
لكن نظرة بعد أطراف الكنيسة الرومانية الكاثوليكية لهذه الأسفار تتغير مع انتشار الدراسات النقدية وتقر بالحقيقة. سَوفَ نَقرأ ما يَقولهُ عُلَماء الكَنيسة الكاثوليكِيَّة في التَّرجَمة اليَسوعِيَّة للكِتاب المُقَدَّس عن هذا المَوضوع وهيَ التَّرجَمة الخاصَّة بِهِم. وفي شَرحِهِم المَذكور بِفَقَرَة المَدخَل إلى الكِتاب المُقَدَّس يُسَمّون هذهِ الأسفار السَّبعة (بِالأسفار القانونِيَّة الثَّانِية) أو (الأسفار المَنحولة). وسَنَقتَبِس بَعض أقوالِهِم التي تُظهِر أنَّهُم لا يؤمِنون أنَّ هذهِ الكُتُب هيَ وَحيٌ مِنَ الله بَل يَضَعونَها في الكِتاب المُقَدَّس لِمُجَرَّد المَنفَعَة الرُّوحِيَّة والدُّروس والعِبَر ولَيسَ لِتَشريع العَقائِد والتَّعاليم المَسيحِيَّة الأساسِيَّة بِحَسَب قَولِهِم وعلى خلاف ما سبق وأعلنوه في مجمع ترنت، مِمَّا يَعني أنَّ العديد من الكاثوليك اليوم كَما الإنجلِيّين لا يَعتَبِرونَها أسفار قانونِيَّة أُولى، وبِذلِك يَكون عَدَد أسفار العَهد القَديم القانونِيَّة المُوحى بِها 39 سِفر لِلكاثوليك بشكل عام والإنجلِيّين على حَدٍّ سَواء.
مِمَّا يَعني أنَّ العديد من الكاثوليك كَما الإنجيلِيّين لا يَعتَبِرونَها أسفار قانونِيَّة أُولى.
قد يعترض البعض ويقول أن اليسوعيين هم النسخة المتحرّرة من الكنيسة الكاثوليكيّة اليوم عكس ما كانوا من قبل، لكن الواقع أن نظرة الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة تتغيّر في الكثير من المرّات حول مختلف المواضيع ممّا يطرح تساؤلات حول فكرة العصمة البابويّة، كما أنّنا على الأقل نستطيع أن نقول أن بعض الكاثوليك قد أدركوا حقيقة هذا الأمر. الأسفار القانونيّة الثانية كانت جزء من الترجمة السبعينيّة اليونانيّة للعهد القديم كون جميع النصوص القانونيّة الثانية كتبت باليونانيّة، وهو الكتاب الذي استخدمه المسيحيين الأوائل وقد اعتبره البعض منهم جزء من العهد القديم العبري بالخطأ، أمّا من كان على دراية واسعة بالعهد القديم كما سنذكر لاحقاً عرف بهذه الحقيقة.
وإلَيكُم بَعض التَّعليقات مِن مُقَدِّمَة هذهِ الأسفار القانونِيَّة الثَّانِية بِحَسَب التَّرجَمة اليَسوعِيَّة
وَرَدَ في مُقَدِّمَة سِفر باروك: ” الكِتاب يَنتَمي إلى أَدَب الأسماء المُستَعارة”. والمَقصود بِذلك أنَّ الكاتِب يَنتَحِل شَخصِيَّة باروك مُساعِد النَّبي إرميا كما يَذكُرونَ هُم. وأَدَب الأسماء المُستَعارة لَيسَ وَحيٌ رَبَّانِيٌّ بَل هو تَأليفٌ بَشَريٌّ كَما يتَّضِح لنا بَعدَ شَرحِهِم هذا.
وفي مُقَدِّمَة سِفر يَهوديت مكتوبٌ أنَّ: “في الرِّواية مَشاكِل تاريخِية كَثيرة…” ويَسرد الكاتِب المَشاكِل ثُمَّ يَقول بَعدَها: “هذهِ المَشاكِل وغَيرها تَحمِل على القَول أنَّ الرِّواية التي نَحنُ بِصَدَد قِراءَتِها لَيسَت بِقِصَّة تاريخِيَّة”، كَما يَعتَرِف المُتَرجِمون ويَقولون: ” إنَّ حيلَة يَهوديت لَيسَت في حَدِّ ذاتِها دَليلاً على الفَضيلة…”.
وَرَدَ في مُقَدِّمَة سِفر يَشوع بِن سيراخ في التَّرجَمَة اليَسوعِيَّة الكاثوليكِيَّة التَّالي: ” فَبَعدَ أن أُبعِدَ مِن قانون الكُتُب اليَهودي الفلسطيني، أُعِيدَ إلى مَنزِلَة الأسفار القانونِيَّة الثَّانِية أو المَنحوَلة”.
وعن سِفر طوبِيَّا فَمَكتوبٌ في مُقَدِّمَتِهِ: ” إنَّهُ عِبارة عن رِواية شَعبِيَّة…”
أمَّا سِفر الحِكمة فَيَنسِبُهُ مؤلِّفُهُ إلى سُلَيمان الحَكيم في حين أنَّ العُلَماء القَيِّمين على هذهِ التَّرجَمة فَيَقولون أنَّهُ كُتِبَ بَعدَ وَفاة سُلَيمان بِكثير: “… عِندَ فَتح الإسكَندَرِيَّة عن يَد أوغسطُس (سَنَة 30 قبل الميلاد).”
وفي كِتابَتِهِم لِمُعظَم مُقَدِّمات هذهِ الأسفار يُقِرُّون ويَعتَرِفون، والإعتِراف سَيِّد الأدِلَّة أنَّ اليَهود لم يَكونوا يُدرِجون هذهِ الأسفار ضِمنَ كِتابِهِم المُقَدَّس، كَما يَذكُرون في مُقَدِّمَة سِفر المَكابِيِّين. ونَحنُ نَعلَم أنَّ العَهد الجَديد يُقِرّ بِاستِئمان اليَهود على أسفار العَهد القَديم:
” …أقوال الله وُضِعَت أمانة بَينَ أيديهِم…”
رسالة بولُس الرَّسول إلى أهل روما 2:3
لم يَقتَبِس العَهد الجَديد أبَداً مِن هذهِ الأسفار السَّبعة ولم يَتَطَرَّق لَها، ولم يُسَجِّل أيّ جِدالٍ بَينَ اليَهود أنفُسَهُم أو بَينَ المَسيحِيِّين واليَهود حَولَ هذا المَوضوع مَع أنَّهُ يَذكُر الكَثير مِنَ الجِدالات التي كانَت تَتِم بَينَهُم على مُختَلَف الأصعِدَة.
• مؤلِّف سِفر المَكابِيِّين التَّاريخي يُقِرّ بِأنَّهُ لم يَكتُب بِوَحيٍ إلهي، بِقَولِهِ في خاتِمَة كِتابِه: “فإِن كُنتُ قد أَحسَنتُ التَّأليفَ ووُفِّقتُ مِنهُ، فذٰلك ما كُنتُ أَتَمَنَّى. وإِن كانَ ضَعيفًا ودونَ الوَسَط، فإِنِّي قد بَذَلْتُ وُسْعي.”
سِفر المَكابِيِّين الثَّاني 38:15
الآباء الأوائِل أمثال أوريجانوس وجيروم الذينَ اطَّلَعوا على الثَّقافة في فلسطين وعلى حَضارَة اليَهود قالوا أنَّ هذهِ الكُتُب السَّبعة لا تُعتَبَر وَحي بِالنِّسبة لِليَهود لذلِك لم يَقبَلوها كأسفار مُقَدَّسة، والجَدير بِالذِّكر أنَّ جيروم هو مُتَرجِم الكِتاب المُقدَّس لِلُّغة اللَّاتينِيَّة والتي تُعرَف بِالفولغاتا، ويَتبَعهُم بِاعتِقادِهِم هذا البابا غريغوري الكَبير وآخَرينَ أيضاً.
جَميع المَسيحِيّين يُجمِعون على أنَّ الأسفار ال66 مُوحى بِها مِنَ الله
لا تؤثِّر زِيادَة الأسفار هذهِ على وَحي وسُلطَة الأسفار ال66 كَما ذَكَرنا أعلاه، لِأنَّ الأسفار القانونِيَّة مُستَخدَمة مِنَ الجَميع، والأسفار السَّبعة الزَّائِدة بِحَسَب اعتِراف مُستَخدِميها، لَيسَت وَحي بَل هِيَ مُجَرَّد مُؤلَّفات أدَبِيَّة، لِتَكون بِحَسَب رَأيِهِم نافِعة لِما فيها مِن دُروسٍ وعِبَر. كَما لا تؤثِّر زِيادَتها على أيّ مِن عَقائِد المَسيحِيِّين أو تَعاليمِهِم، ووُجودها لَيسَ حُجَّة ضِد وَحي الأسفار ال66 في كِتابِنا المُقَدَّس.
مقالات مُشابِهة
اقرأ الكتاب المقدس
ايات من الكتاب المقدس
ما هو الكتاب المسيحي؟
كيف أقرأ الكتاب المقدس؟