خَلَقَ الله جَسَد الإنسان من تُراب، ونَفَخَ فيه من رُوحِه، فكيفَ يُمكِن للخالِق العَظيم أن يتجَسَّد ويَلبِس هذا الجِسم البَشَري المَخلوق ويَعيش بينَ البَشَر بَل وفي النِّهاية يَموت مِثلهُم؟ هذا ما سنُجيب عنه في المَقال التالي.
يستَغرِب البَعض من فِكرَة التَّجَسُّد بَل ويَظُنُّونَ أنَّها انِتقاص من الذِّات الإلهِيَّة، فكيفَ يُمكِن لهذا الخالِق العَظيم أن يَلبس جَسَد بَشَرِيَّتنا الضَّعيف؟ لذلك يَبدو لهُم هذا الأمر غَير وارِد في الحُسبان إطلاقاً ومن غَير المُمكِن تَصديقه. لكن المسيحيَّة تُعلِّم أنَّ التَّجَسُّد هو الإعلان الإلهي الأسمى لبَني البشَر، لأنَّ الله كَلَّمَ شَعبَهُ قَديماً بأنواعٍ وطُرُقٍ كَثيرة، لكنَّهُ في الأيَّام الأخيرة كَلَّمَ النَّاس عبرَ ابنهِ (الرِّسالة إلى العِبرانِيِّين 1:1) الذي هو صورَة الله ورَسم جَوهَره (الرِّسالة إلى العِبرانِيِّين 3:1)، فالاِبن الوَحيد الذي في حِضن الآب هو أتى وخَبَّر عن الله الذي لم يَرَهُ أحَدٌ قَطّ (إنجيل يوحَنَّا 18:1). فبالإضافة للخَلاص والفِداء الذي صَنَعهُ الله لنا عبرَ تَجَسُّده، إلَّا أنَّهُ أعطانا أيضاً أمثِلة ودُروس روحِيَّة كَثيرة من خِلال هذا التَّجَسُّد، مُقَدِّماً نَفسهُ لنا مِثالاً للمَحَبَّة والتَّضحِية والتَّواضُع. لكن ما هي الأدِلَّة اللَّاهوتِيَّة التي نَستطيع كمَسيحيِّين أن نُقَدِّمها للآخَرين لكي نوضِح لَهُم أكثَر إمكانِيَّة هذا التَجَسُّد؟
خلفية التجسد
التَّجَسُّد في المسيحِيَّة لم يأتِ بمَعزِل عن البيئة التي نَشَأَ فيها المسيح، إذ إنَّ العَهد القَديم كانَ يُمَهِّد لهذا المَفهوم، لذا فإنَّ رَفضنا أو تَقَبُّلنا لهذه العَقيدة يَعتَمِد على فَرضِيَّاتِنا المُسبَقة حَولها، فَفي مَواضِع كَثيرة من الكِتاب المُقدَّس عَبَّرَ الله للبَشَر عن مَدى قُربهِ مِنهُم في تَجَلِّياتهِ على هَيئَة بَشَر مِثلَما حَصَلَ مع إبراهيم (تكوين 18:2)، يَعقوب (تكوين30:32)، جِدعُون (القُضاة 23:6)، ومَنوح (القُضاة 22:13). إذاً فَفِكرَة تَجَسُّد الله على هَيئَة بَشَر لم تَكُن مُستَغرَبة للشَّعب القَديم، فهو كَلَّمَ موسى من العُلَّيقة المُحتَرِقة (الخُروج 4:3)، وأراهُ مَجدهُ على الجَبل، وأيضاً كانَ يَحِلّ بَينَ شَعبه عَبرَ خَيمَة الاِجتِماع ويَسير وَسطهُم في البَرِّيَّة (لاوِيِّين 11:26-12).
هذه الحَقائِق الرُّوحِيَّة تُساعِدنا على فَهم التَّجَسُّد. وكما يَصِف القِس عماد شحادة هذا الأمر: “فَهم التَّجَسُّد لا يأتي بمَعزِل عن فَهم عَقائِد لاهوتِيَّة أُخرى. فعَقيدَة التَّجَسُّد تَفتَرِض وُجود حَقائِق لاهوتِيَّة أُخرى بَل تَتطَلَّبها”¹. وحتَّى نَفهَم ذلك بوضوح أكثَر نَقول أنَّهُ عبرَ النَّظَر إلى الأسفار المُقدَّسة التي سَبقَت مَجيء المسيح نَجِد أرضِيَّة لاهوتِيَّة مُهَيِّئة لفِكرَة التَّجَسُّد بَل وداعِمة لها، وذلك من خِلال إعلان الله عن قُربِهِ من البَشَر وتَعامُلاتهِ مَعهُم. فالإيمان بكَيفِيَّة تَجَلِّي الله وبِعَمَل نِعمَتهِ هو أَمر مُهِمّ كنُقطَة انطِلاقة لفِكرَة التَّجَسُّد. كما أنَّ الله سَبَقَ ووَعَدَ بِمَولودٍ سَيَأتي ويكون إلهاً قَديراً (إشعياء 6:9) وذلك لا يَتِمّ إلَّا عَبر التَّجَسُّد، ونَرى أنَّ اليَهود أيضاً عَبَّروا عن استِعدادِهم لهذه الفِكرة، مِثال على ذلك: رَئيس الكَهَنة الذي رَبَطَ هوِيَّة المسيح بِبُنُوَّتِهِ لله (مَرقُس 61:14)، لكن بطَبيعَة الحال فإنَّ التَّجَسُّد لم يَكُن مُدرَكاً ومَفهوماً بصورة كافِية قبلَ أن يَحدُث ويَتِمّ فِعلِيّاً، وهذا طَبيعي نَظَراً لسُمُوّ تَطبيق الإعلان عن مُجَرَّد الإخبار بهِ. إذاً فالفَرَضِيَّات المُسبَقَة التي بُنِيَت عَبرَ ما سَبَقَ من وَحيٍ إلهِيّ تَدعَم مَفهومنا عن التَّجَسُّد.
الاستغراب من التجسد
قالَ بولُس الرَّسول في انِدهاشِهِ من تَجَسُّد المسيح:
“…وَلَكِنْ، وَفْقاً لِمَا كُتِبَ: «إِنَّ مَا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ بِهِ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ بَشَرٍ قَدْ أَعَدَّهُ اللهُ لِمُحِبِّيهِ!”
هذا التَّعَجُّب عَبَّرَ عنهُ بولُس مُقتَبِساً مِمَّا جاءَ في نُبوءَة إشَعياء عن هذا الأمر (إشَعياء 4:64) حَيثُ يقول النَّبي إشَعياء في نُبُوَّتهِ أنَّ الله احتَفَظَ بحَقائِق رائِعة سَيُعلِنها لنا في الوَقت المُناسِب وأنَّ هذه الحَقائِق سَتُثير الدَّهشة والاِستِغراب.
من الطَّبيعي أن يكون تَجَسُّد الله مُستَغرَب لكن هذا لا يُلغي حَقيقَة وُجوده. واندِهاش بولُس يوضِح لنا مَدى سُمُوّ هذا الإعلان عن أفكارِنا ومَدى عَدَم قابِلِيَّة البَشَر على استيعابهِ، لكن بولُس لم يَكُن أوَّل شَخص يَتَعَجَّب من عَظَمَة أعمال الله في الكِتاب المُقدَّس، فداوُد قَد سَبَقَ واستَغرَبَ أيضاً حينَ نَظَرَ إلى السَّماوات وراحَ يَتَأمَّل جَمال الخَليقة التي تُظهِر لنا مَجد الله وعَظَمَة وقُدرَة هذا الخالِق المُبدِع الذي وعلى الرَّغم من خَلقِهِ لهذا الكَون الفَسيح إلَّا أنَّهُ يَهتَمّ بمَخلوقات ضَعيفة كالبَشَر أمثالنا.
“عِنْدَمَا أَتَأَمَّلُ سَمَاوَاتِكَ الَّتِي أَبْدَعَتْهَا أَصَابِعُكَ، وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ الَّتِي رَتَّبْتَ مَدَارَاتِهَا أُسَائِلُ نَفْسِي: مَنْ هُوَ الإِنْسَانُ حَتَّى تَهْتَمَّ بِهِ؟ أَوِ «ابْنُ الإِنْسَانِ» حَتَّى تَعْتَبِرَهُ؟” (مَزمور 3:8-4)
إذاً إن أرَدنا أن نَرفُض فِكرَة التَّجَسُّد بِداعي الاِستِغراب مِنها، فعَلينا أن نَرفُض تَعامُلات الله الكَثيرة مع البَشَر، لأنَّ هذه الأُمور تَدعو للاستِغراب أيضاً.
أعمال الله تفوق أفكار البشر
أعلَنَ الله على لِسان النَّبي حَبَقُّوق عن عَمَل عَظيم سَيَصنَعهُ، ولشِدَّة غَرابَة هذا العَمَل قالَ الله أنَّ البَشَر لن يُصَدِّقوه، وهو أنَّ البابِليِّين سَيُحارِبونَ مَملَكَة يَهوذا ويَغلِبونَهُم، وسَيَستَخدِم الله الشَّعب البابِلي لمُعاقَبَة شَعبهِ على ضَلالِهم، وهذا الأمر كانَ مُستَبعَداً بالنِّسبة لبَني إسرائيل بِناءً على الظُّروف المُحيطة بِهم، لكن عند الله لم يَكُن الأمر مُستَحيل أو مُستَبعَد، لذلك جاءَ قَول الله لَهُم:
“… تَعَجَّبُوا وَتَحَيَّرُوا لأَنِّي مُقْبِلٌ عَلَى إِنْجَازِ أَعْمَالٍ فِي عَهْدِكُمْ إِذَا حُدِّثْتُمْ بِهَا لاَ تُصَدِّقُونَهَا.” (حَبَقُّوق 5:1)
ونَجِد في العَهد الجَديد كيفَ أنَّ بولُس يَستَخدِم هذه الحادِثة ليُحَذِّرنا من مَغَبَّة عَدَم تَصديق إعلان الله لئَلَّا يَحدُث لنا ما حَدَثَ مع ذاكَ الشَّعب الذي تَهاوَنَ ولم يُصَدِّق كَلام الله:
“فَاحْذَرُوا لِئَلاَّ يَحُلَّ بِكُمْ مَا قِيلَ فِي كُتُبِ الأَنْبِيَاءِ: انْظُرُوا أَيُّهَا الْمُتَهَاوِنُونَ، وَتَعَجَّبُوا وَاهْلِكُوا! فَإِنِّي أَعْمَلُ فِي أَيَّامِكُمْ عَمَلاً لَوْ حَدَّثَكُمْ بِهِ أَحَدٌ لَمَا صَدَّقْتُمْ! “. (أعمال الرُّسُل 40:13-41)
هذا التَّحذير لا يَزال ساري المَفعول إلى اليَوم، فَنَظَراً لأنَّ أعمال الله تَفوق فهم البَشَر وقُدرَتهُم على التَّصديق أحياناً، إلَّا أنَّ هذا لا يُلغي حَقيقَتها، فقابِلِيَّة البَشَر على تَصديق أَمرٍ ما ليسَت مِعياراً يُحَدِّد الحَقّ من الباطِل.
أعمال الله تَفوق فهم البَشَر وقُدرَتهُم على التَّصديق أحياناً
هل التجسد ينقص من عظمة الله؟
إن كانَ الله قَد اختارَ أن يُعلِن عن نَفسهِ للبَشَر بهذه الطَّريقة، فهَل هذا التَّجَسُّد يُقَلِّل من شَأنهِ؟ في الواقِع يُخبِرنا الكِتاب المُقدَّس أنَّ الله يُريد لهذا الأمر أن يَبدو غَريباً بالنِّسبة لنا لكي يُظهِر عَظَمَتهُ من خِلالهِ، فعَبرَ هذا التَّواضُع المُنقَطِع النَّظير الذي ظَهَرَ في التَّجَسُّد، تَسامى الله وتَمَجَّد وعَلَّمَنا دَرساً هامّاً عن التَّواضُع، فهو الغَنِيّ الذي افتَقَرَ من أجلِنا لكي نَغتَني نَحنُ بفَقرِه. ويُثني بولُس على أهَمِّيَّة ذلك في رِسالة فيلِبّي حَيثُ يَدعونا لأن نتَمَثَّل بالله الذي تَرَكَ لنا مِثالاً نَحتذي بِه (فيلِبّي 2). فهذا التَّجَسُّد كانَ إخلاء مَجد الله إلى حين، حتَّى يَأتي الوَقت الذي سيَتَمَجَّد فيهِ الله وَسطَ شَعبهِ الذي يُسَبِّحهُ ويَحمَدهُ دائِماً وأبَداً على خَلاصهِ العَظيم الذي صَنَعَهُ في هذا التَّجَسُّد.
يُقَدِّم أثانياثوس في كِتابهِ عن التَّجَسُّد دِفاعاً عن هذه العَقيدة أمامَ اعتِراضات الوَثَنِيِّين في أيامهِ مُعَبِّراً لهُم أنَّ الإنسان بِكَونهِ مَخلوقاً فَستَعتَبِرونَهُ غَير مؤهَّل لأن يَتجَلَّى بهِ كَلِمَة الله، وبذلك يجِب أن نَقول أنَّ الخَليقة كُلّها غَير مؤهَّلة لكي نُدرِك الله من خِلال وُجودها، مع أنَّنا في الأساس نُدرِك وُجود الله من خِلال خَليقَتهِ. إن كانَت الكَلِمة المُوجِدة للخَلق تُعلِن لنا عن وُجود الله من خِلال وُجود الخَليقة وتُحَدِّث عن مَجده، فكيفَ من المُمكِن أن يكون التَّجَسُّد أمر يدعو للسُّخرِية إن كانَ يُعَبِّر عن مَجد الله من خِلال أسمى مَخلوقاتهِ (الإنسان) في تَجَسُّد الكَلِمة يسوع المسيح؟ طالَما أنَّ الله مُعلَن لنا بالخَليقة كُلّها فلماذا لا يَستَطيع أن يُعلِن عن نَفسهِ أيضاً من خِلال جُزء من خَليقَتهِ؟
يُعَلِّل أثاناسيوس فِكرَتهُ بالقَول: “بالتَّأكيد إن كانَ من الخَطأ أن تُعلَن الألوهية للبَشَر في جُزء من هذا الكَون (من خِلال الإنسان) فسَيَكون من الخَطأ أيضاً أن تَكون الألوهِيَّة مُعلَنة من خِلال الكَون كُلّه”.² جَميع الذينَ يؤمِنون بوُجود الله يَتَّفِقون على أنَّ وُجوب وُجود خَليقة يُحَتِّم وُجود خالِق لها، وهكذا تَقودنا الخَليقة لمَعرِفَة وُجود خالِق.
رِجالات الله في الكِتاب المُقدَّس لم يُفَكِّروا في إمكانِيَّة استِحالَة تَحقيق هذه الإعلانات الإلهِيَّة، بَل خَضَعوا لها وأدرَكوا لماذا كانَ من الضَّروري أن يَتَجَسَّد الله، وذلك لأنَّ البَشَر بحاجة للخَلاص الذي لا يَستَطيع أحَد أن يؤمِّنهُ سِوى الله في تَجَسُّدهِ، كَما قالَ أنسيلم: ” لا أحَد يَستَطيع أن يَدفَع الثَّمن سِوى الله (ثَمَن ذُنوبنا)، ولا أحَد يَجِب أن يَدفَعها سِوى الإنسان، لذلك كانَ من الضَّروري أن يَدفَع (الإله الإنسان) هذا الثَّمَن”.³
- كتاب ضرورة التعددية في الوحدانية الالهية. دكتور عماد شحاته. دار منهل الحياة
- On The Incarnation. Saint Athanasius
- Why God Became Man. Anselm of Canterbury.
مقالات مُشابِهة
ما هو عيد الفصح؟
آيات عن عيد الفصح
متى صلب المسيح؟