رسم قديم للأناجيل الأربعة

تكُمن أهميَّة معرفة زمن كتابة الأناجيل، في تحديد مدى قُربها من الأحداث التي ترويها عن المسيح، وبالتَّالي مدى صحَّة المعلومات التي تقدِّمها، لأنَّ قُرب أيّ مصدر تاريخي من الحدث يجعل المعلومات التَّاريخيّة التي يقدِّمها أكثر دقَّة.

الفترة الممتدَّة بين كتابة الحدث التَّاريخي وبين زمن حصوله تحدِّد مدى دقَّة المعلومات التَّاريخيَّة المذكورة عنه. السِّيرة الحياتيَّة تتضمَّن تفاصيل عن حياة شخصيَّة تاريخيَّة معيَّنة، وبحسب زمن كتابة السِّيرة نعرف مدى مصداقيَّة المعلومات التَّاريخيَّة التي تقدِّمها، نظراً لكونها كُتبت خلال فترة كانت الأحداث المذكورة فيها لا تزال مُرسَّخة في أذهان شُهود العيان وفي ذاكرة النَّاس الذين عاصروا الشَّخصيَّة التي تتحدَّث عنها السِّيرة. لا يمكن لمن يكتُب في فترة قريبة من زمن حصول أحداثٍ ما أن يُفبرِك قصَّة من نسج الخيال ويقول إنَّها أحداث تاريخيَّة أو أن يغيِّر تفاصيل أساسيَّة فيها وينتظر من النَّاس أن تصدِّقها أو ينتظر أن تترك تأثيراً على الجمهور يمتدّ لقُرون، لأنَّه ونظراً لوجود مُعاصرين لها، سوف يظهر تحريفه للنَّاس ولن يصمد النَّصّ أمام النَّقد ومعيار الزَّمن. كما يؤكِّد على ذلك المؤرِّخ اليهودي يوسيفوس (عاش في القرن الأوَّل الميلادي) الذي قال حينما كان يريد أن يكتب سيرته الذَّاتيَّة: “…حيث لا يزال يوجد أشخاص أحياء يستطيعون سواء أن يعترضوا أو أن يوافقوا على شهادتي”.¹

كتبَ بلوتارك وتاسيتوس عن حياة يوليوس قيصر بعد أكثر من مئة سنة من حياة القيصر وقد اعتبَروا أنَّ لديهم مصدر معلومات كافٍ عنه، ويقول تاسيتوس في بداية كتابه (السِّجلَّات) الذي يذكُر فيه فترة معيَّنة من حياة أوغسطس قيصر أنَّه سوف يصحِّح بعض المفاهيم الخاطئة السَّائدة، مع العِلم أنَّه كَتبَ كتابه بعد وفاة أوغسطس بسنوات ليست بقليلة.² اعتبَر هؤلاء المؤرِّخون أنفسهم كمصدر ثقة فيما يتعلَّق بسردِهم لأحداث تاريخيَّة سبَقتهم بحوالي قرن من الزَّمن وأحياناً أكثر. واليوم يَعتَبِر العُلَماء أنَّ هؤلاء المؤرِّخين هم مصدر ثقة في نقلهم لهذه الأحداث، هذا ما يكتبه مُترجِموا كُتبهم والمُحرِّرون، كما أنَّ كتاباتهم تُستخدَم في تصوير الوثائقيَّات حيث تُجمَّع كل الشَّهادات التَّاريخيَّة من مختلف المؤرِّخين حول حدث معيَّن أو قصَّة حياة قيصر ما، كما يُدرَّس التَّاريخ في المدراس طِبقاً لكتاباتهم.³

new testament in arabic

الأناجيل كمصادر تاريخية

لكن حينما نذكُر الأناجيل التي تروي سيرة حياة المسيح، يعتبرها البعض كمصدر تاريخي غير موثوق به مع العِلم أنَّ إنجيل مَرقُس كما سنُثبِت في هذا المقال كُتِب في فترة تتراوح بين 25 و30 سنة بعد حياة المسيح أي في النِّصف الأوَّل من خمسينيَّات القرن الأوَّل. الأغلبيَّة السَّاحقة من العُلَماء البارزين يعتبرون أنَّ الأناجيل كُتِبت في القرن الأوَّل الميلادي ما عدا القليلين المُتطرِّفين بنَقدهِم الذين يُطبِّقون معايير غير اعتياديَّة في النَّقد، فمُعظم النُّقَّاد وبعض المحافظين يَنسِبون تاريخ إنجيل مَرقُس إلى بداية سنة 80م، متَّى ولوقا إلى نهاية سنة 80م، ويوحنَّا إلى حوالي سنة 90 للميلاد. البعض الآخر من العُلَماء يَنسِبون أناجيل (متَّى، مَرقُس، ولوقا) إلى تاريخ يسبق سنة 70 للميلاد وهذا ما سنُقدِّم أدِلَّة لبَرهنته في هذا المقال، لكن حتَّى ولو سلَّمنا جدَلاً أنَّها كُتِبت بين 80 و 90 للميلاد، فهذا التَّاريخ لا يزال قريباً جدّاً من الأحداث وفق المعايير التَّاريخيَّة إذا ما قارنَّاها بكتابات أُخرى من تلك الحقبة، ومن الزَّمن الذي كان فيه العديد من شُهود العيان لا يزالون أحياء وقادِرين على التَّحقُّق من المعلومات أو تقديم شهادتهم.

البعض كما قُلنا يَنسِب الأناجيل إلى ما قبل سنة 70م، وهذا ما سنُقدِّم أدِلَّة لتبيانه، أنَّ إنجيل مَرقُس كُتِب بين 50 و55 ميلادية، متَّى بين 55 و59، ولوقا بين 61 و63 للميلاد. مُعظم الباحثين اليوم يضَعون ترتيب زمن كتابة الأناجيل كالتَّالي: مَرقُس كُتِب أوَّلاً، متَّى ثانياً، لوقا ثالثاً، ويوحنَّا أخيراً. سوف لن ندخل في الجدَل حول من كُتِب أوَّلاً كي نُركِّز على فكرة المقال الأساسيَّة، وكون هذا لن يؤثِّر على الفكرة الرَّئيسيَّة للمقال: أنَّ الأناجيل قديمة بما فيه الكِفاية لتَروي حقائق تاريخيَّة.


الأناجيل قديمة بما فيه الكِفاية لتَروي حقائق تاريخيَّة


هناك الكثير من الأدِلَّة التي بالإمكان تقديمها سواء عبر الاحتكام للُّغة، ذِكر المواقع الجغرافيَّة، أسماء الحُكَّام، تاريخ المخطوطات وأُمور أُخرى، لكن سيقتصر حديثنا الآن على ثلاث أدِلَّة كافية وشافية لإظهار أنَّ الأناجيل الإيزائيَّة (متَّى، مَرقُس، ولوقا) كُتِبت قبل سنة 70م، وترجِّح هذه الأدِلَّة بقوَّة التَّواريخ المبكِّرة التي سبق وذكرناها أعلاه للأناجيل. هذه الأدِلَّة هي:

  1. ماذا تخبرنا الأسماء في إنجيل مَرقُس؟
  2. نبوءة المسيح عن الحرب الرُّومانيَّة اليهوديَّة سنة 70 م.
  3. متى انتهى لوقا من كتابة سِفر أعمال الرُّسل؟
Good News in Arabic

1. ماذا تخبرنا الأسماء في إنجيل مرقس؟

أكثر من ثلاثين شخصيَّة يذكُرها مَرقُس دون أن يذكُر أسماءها، كالأبرَص الذي شَفاهُ يسوع، الذين أخرجَ منهم شياطين، الذين جادَلوا يسوع، وغيرهم. هذا العدد من الشَّخصيّات التي لم يتمّ تسميَتها تشكِّل الأكثريَّة السَّاحقة من الشَّخصيَّات المذكورة. يوضح لنا هذا الأمر أنَّ مَرقُس كان غير مهتمّ بذِكر الأسماء التي لا تخدم غاية معيَّنة. من الطَّبيعي أن يذكُر الشَّخصيَّات الرَّئيسيَّة كيُوحنَّا المعمدان وتلاميذ المسيح، أمَّا الشَّخصيَّات التي ليس لها دور رئيسي في الأحداث فيَتغافل مَرقُس عن ذِكرها لكي يُبقي التَّركيز على الأحداث الرَّئيسيَّة. لكن على نحوٍ غير متوقَّع في الإصحاح العاشر يُسمِّي لنا الأعمى الذي شَفاهُ يسوع بل ويُسمِّي أباهُ أيضاً (عبر تفسير معنى اِسمه) في نَصٍّ لا تحتمل فيه الضَّرورة أن يُسمِّيه:

“ثُمَّ وَصَلُوا إِلَى أَرِيحَا. وَبَيْنَمَا كَانَ خَارِجاً مِنْ أَرِيحَا، وَمَعَهُ تَلاَمِيذُهُ وَجَمْعٌ كَبِيرٌ، كَانَ بَارْتِيمَاوُسُ الأَعْمَى – ابْنُ تِيمَاوُسَ، جَالِساً عَلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ يَسْتَعْطِي.” (مَرقُس 46:10)

وفي الإصحاح الخامس عشر يُسمِّي لنا سمعان القيرواني الذي حملَ صليب يسوع ويذكُر أسماء أولاده كذلك في نَصٍّ من المُفترَض أن يكون التَّركيز فيه على الحدث الأهمّ، صَلب المسيح دون ذِكر تفاصيل جانبيَّة غير مهمَّة لا تخدم القصَّة:

“وَسَخَّرُوا وَاحِداً مِنَ الْمَارَّةِ لِيَحْمِلَ صَلِيبَهُ، وَهُوَ سِمْعَانُ مِنَ الْقَيْرَوَانِ، أَبُو إِسْكَنْدَرَ وَرُوفُسَ، وَكَانَ آتِياً مِنَ الْحَقْلِ.” (مَرقُس 21:15)

the cross in Arabic

لماذا هذه التَّسمية الغير متوقَّعة لهؤلاء؟ يخصِّص العالِم ريتشارد بوخوم جزءاً لا بأس به من كتابه “يسوع وشُهود العيان” يقارِن فيه بين السِّيَر الذَّاتيَّة لتلك الحقبة وبين الأناجيل، ويلاحِظ أنَّ ذِكر الأسماء بهذه الطَّريقة في إنجيل مَرقُس هو أُسلوب أدَبي مُتعارَف عليه تلك الأيَّام ومن خلاله يقول الكاتب للجمهور أنَّ هؤلاء النَّاس المذكورين هم معروفون لديكم ولا يزالون أحياء يُرزَقون، تحقَّقوا منهم واسألوهم. كما فعلَ الكاتب بورفوري في كتابه “حياة بلوتينيوس” حينَ ذكرَ شاهد العيان أميليوس. ويُسمِّي بوخوم هذا الأُسلوب inclusion of witnesses أي زَجّ الشُّهود في النَّصّ لكي يظهَر منهم من يستطيع أن يؤكِّد على ما يقوله الكاتب. هذا يعني أنَّ إنجيل مَرقُس كُتِب في فترة كان لا يزال فيها الشُّهود أحياء ومُعاصرين للمسيح، ممَّا يُرجِّح تاريخاً مبكِّراً لكتابة هذا الإنجيل.

والأهمّ من ذلك، نجد في إنجيل مَرقُس أنَّ هناك أسماء لم تُذكَر في حين أنَّه كان يجب أن يتمّ ذِكرها، مثلاً في إصحاح القبض على يسوع، من الغريب أن لا يذكُر مَرقُس اِسم التِّلميذ الذي قطعَ أُذن عبد رئيس الكهَنة مع العِلم أنَّ مَرقُس كان يعرفه:

“وَلكِنَّ وَاحِداً مِنَ الْوَاقِفِينَ هُنَاكَ، اسْتَلَّ سَيْفَهُ وَضَرَبَ عَبْدَ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ فَقَطَعَ أُذُنَهُ.” (مَرقُس 47:14)

وأن يتغافل أيضاً عن ذِكر اِسم التِّلميذ الذي تعارَكَ مع الحُرَّاس وهربَ منهم في النِّهاية:

“وَتَبِعَهُ شَابٌّ لاَ يَلْبَسُ غَيْرَ إِزَارٍ عَلَى عُرْيِهِ، فَأَمْسَكُوهُ. فَتَرَكَ الإِزَارَ وَهَرَبَ مِنْهُمْ عُرْيَاناً.” (مَرقُس 51:14-52)

كما أنَّ مَرقُس لم يذكُر اِسم رئيس الكهَنة قَيافا لكنَّه ذكرَ بيلاطُس، فعلى ماذا يدل هذا؟

إنَّ عدم ذِكره لِاسم التِّلميذ الذي قطعَ أُذن رئيس الكهَنة (والذي هو بطرُس) يوضح أنَّ مَرقُس كان يُخفي هذا الاِسم عَمداً، كذلك فيما يتعلَّق بالرَّجُل الذي تعارَكَ مع الحُرَّاس، وإخفاء الاِسم في هذه الحالة ليس له مُبرِّر أو تفسير سوى أنَّ مَرقُس يريد تجنيب هؤلاء المُلاحَقة القانونيَّة في فترة كانت الكنيسة بغِنىً عن ذلك، فسَحب بطرُس لسِلاح يُعتبَر شُروعاً بالقتل، ومَرقُس يريد أن يُخفي هويَّة بطرُس لهذا السَّبب، هذا يعني أنَّ إنجيل مَرقُس كُتِب في فترة كان لا يزال لليهود سَطوة فيها، فإشهار السِّلاح على عبد رئيس الكهَنة لا يُخيف إذا لم تكُن هناك سَطوة لليهود، وهذه السَّطوة انتهت بعد سنة 70 ميلادية، سنة دمار أُورشَليم والهيكَل على أيدي الرُّومان لذلك بعد هذه السَّنة نرى يوحنَّا يذكُر اِسم بطرُس واِسم عبد رئيس الكهَنة دون أيّ مشكلة. الخُلاصة أنَّ هذا دليلاً إضافيّاً على أنَّ إنجيل مَرقُس كُتِب قبل 70م. لأنَّه يروي تقليداً قديماً عن الكنيسة الأولى في أورشَليم.

من الملاحَظ أيضاً عدم ذِكر اِسم رئيس الكهَنة في حين تمَّ ذِكر اِسم بيلاطُس البُنطِيّ، ونحن نعرف من التَّاريخ أنَّ وِلاية بيلاطُس انتهت سنة 37م. لذلك لم يكُن من الصَّعب أن يُذكَر اِسمه، أمَّا التَّغافُل عن ذِكر اِسم قَيافا فكان لغرَضٍ مُهمّ، فقد استمرَّت سُلطة قَيافا حتَّى بعد انتهاء فترة حُكم بيلاطُس. أمَّا ذِكر متَّى ولوقا لاحقاً لِاسم قَيافا فهو بسبب أنَّ سَطوَته تضاءَلت مع الوقت، خاصَّةً أنَّ الكنيسة كانت قد بدأت بالانتشار بشكل ملحوظ حينها.

2. نبوءة المسيح عن الحرب الرومانية اليهودية سنة 70 م.

واحدة من الأسباب الرَّئيسيَّة لرَفض البعض أنَّ الأناجيل الإيزائيَّة (متَّى، مَرقُس، ولوقا) كُتِبت قبل سنة 70 م. سنة انتهاء الحرب الرُّومانيَّة اليهوديَّة، هي أنَّ هذه الأناجيل تذكُر تفاصيل عن هذه الحرب قبل حُدوثها، وفيها يذكُر يسوع نُبوءة عن دَمار الهيكَل وأُورشَليم على يد الجيش الرُّوماني ويعطي توجيهات للمسيحيِّين القاطِنين تلك المدينة لكي يتجنَّبوا الهَلاك في هذه الحرب. يرفض البعض أن يكون المسيح قد تنبَّأ حقّاً عن هذه الحرب، وذلك بكل بساطة لأنَّهم لا يؤمنون بأنَّ المسيح قادراً على التَّنبُّؤ، ويَبنون كلامهم على فرضيَّة مُسبَقة تمنع إمكانيَّة حصول كل ما هو خارق للطَّبيعة، وعلى نَزعة لا تضع ضِمن حساباتها حصول معجزة ما، كقُدرة المسيح على رؤية أحداث والتَّنبيه عنها قبل حصولها، ليكون بذلك بحسب رأي هؤلاء أنَّ الرُّسل كَتبوا عن الحرب الرُّومانيَّة اليهوديَّة بعد حصولها أي بعد سنة 70م.

إنَّ التَّسليم أو عدم التَّسليم بقُدرة المسيح على صنع المعجزات أو بإمكانيَّة الوثوق في النُّصوص التَّاريخيَّة التي تروي لنا معجزات أجراها هو، يُحَدَّد من خلال الفرضيَّة المُسبَقة التي نقرأ بها النَّص. إنَّ النَّزعة التي برزت بعد الحركة التَّنويريَّة في أوروبّا والمبنيَّة على فرضيَّة الفيلسوف دايفد هيوم الذي يرفض بشكل قاطع حصول معجزة لأنَّها خَرق لقوانين ثابتة في الطَّبيعة، هي نَزعة فيها خَلل وذلك لأنَّ المعجزة لا تكون معجزة إن لم يكُن هناك قانون ثابت تمَّ خَرقه، وهذا ما أظهَره نُقَّاد هيوم المعاصرين له. إنَّ رَفض المعجزات بناءً على هذه الفرضيَّة غير ممكن في البحث التَّاريخي، خاصَّةً أنَّها تُلغي إمكانيَّة تدخُّل الله في التَّاريخ البشري (إن كان موجوداً أصلاً بحسب رأيهم). لكن بغَضّ النَّظر عن هذا الجدَل دعونا نلاحِظ ماذا توحي لنا هذه النُّصوص نفسها. ما هو الانطِباع الذي تكوِّنه لدينا حين نتمعَّن فيها، هل كُتِبت حقّاً قبل حصول الحرب أم بعدها؟

أوَّلاً: من عادة كُتَّاب الأناجيل أن يذكُروا إن قال المسيح نبوءة وتحقَّقت (إن كانوا قد كتَبوا بعد زمن حصولها)، وذلك تأكيداً منهم على أنَّ ما قاله المسيح أو أحد الأنبياء قد تمَّ حقّاً، تماماً كما فعلَ لوقا الذي كتبَ بعد تحقُّق نبوءة أغابوس النَّبي عن المَجاعة التي كان قد سبقَ وتنبَّأ عنها هذا الأخير قبل حصولها:

“وَبَيْنَهُمْ نَبِيٌّ اسْمُهُ أَغَابُوسُ، تَنَبَّأَ بِوَحْيٍ مِنَ الرُّوحِ أَنَّ مَجَاعَةً عَظِيمَةً سَتَحْدُثُ فِي الْبِلاَدِ كُلِّهَا. وَقَدْ وَقَعَتْ هذِهِ الْمَجَاعَةُ فِعْلاً فِي عَهْدِ الْقَيْصَرِ كُلُودِيُوسَ.” (أعمال الرُّسل 11:28)

لماذا يذكُر لوقا أنَّ مجاعة تنبَّأ فيها نبي من الكنيسة الأولى قد حصلت فعلاً كما قال، ولا يذكُر تتميم النُّبوءة التي قالها المسيح نفسهُ عن الحرب العظيمة، وحتَّى دون أن يُلمِّح أنَّها تُمِّمَت بحسب قول المسيح؟ التَّفسير الأنسَب أنَّ الحرب لم تكُن قد حصلت بعد. فلو كان الرُّسل قد كتَبوا عن دمار أُورشَليم بعد حصولها حقّاً فما من سبب يدفعهم لعدم التَّباهي بتميم القول النَّبوي للمسيح والاندماج في تفسير مَدلولاته اللَّاهوتيَّة وتأثيراته الحاضرة على الكنيسة ما بعد الهيكَل. كانوا يستطيعون أن يحتكمِوا للشُّهود الذين سمعوا يسوع يقول هذه النُّبوءة ويقولوا لهم: انظُروا قد تحقَّقت تماماً كما قال يسوع. والأهمّ من ذلك أنَّها لو كانت تزويراً لكانَ عليهم أن يتغافَلوا عن ذِكر أُمور (في نفس النُّبوءة) ليس من السَّهل توفيقها مع الحرب، ولكانوا قد امتنعوا أيضاً عن ذِكر آيات مثيرة للجدَل قد يُساء فهمها، وهذا ما سنتحدَّث عنه في النُّقطتين التَّاليَتين.

ثانياً: بعض التَّفاصيل المذكورة في نُبوءة يسوع عن هذه الحرب لا يمكن أن يكتُبها أحد بعد حصولها، لأن لا فائدة من ذِكرها لو أنَّ الأناجيل قد كُتِبت بعد حدوثها، وقد يكون توفيقها مع الأحداث ليس سهلاً، يقول برانت بايتر: “لماذا يحثّ مَرقُس قُرَّاءه على الصَّلاة حتَّى لا يحدث خَراب الهيكَل في الشِّتاء (مَرقُس 18:13) إذا كانوا يعلَمون أنَّ ذلك قد حدث بالفعل في أواخر الصَّيف؟ (دَمَّر الرّومان الهيكَل في أواخر تمُّوز أو أوائل آب عام 70 م.)، ولماذا يُضيف لوقا تحذيراً لجُمهوره من الدُّخول إلى المدينة (لوقا 21:21) إذا كانت المدينة قد دُمِّرت؟ أخيراً، إذا كان إنجيل متَّى ظهرَ حقّاً بعد أكثر من عقد من ظُهور إنجيل مَرقُس، فلماذا يطلُب متَّى من قُرَّائه الصَّلاة حتَّى لا يحدث الخَراب في الشِّتاء أو في سَبت (متَّى 20:24) إذا كان قد حدث ذلك؟ لماذا يُطلَب منَّا أن نُصلِّي لأمر بأن لا يحدُث في توقيت معيَّن إن كان هذا الأمر قد حدثَ سابقاً بالفعل وكان معروفاً على نِطاقٍ واسع ولا يمكن تغييره؟… في مواجهة مثل هذه الأدِلَّة، فإنَّ أوَّل ركيزة رئيسيَّة للتَّأريخ المتأخِّر للأناجيل السِّينوبتيكيَّة (متَّى، مَرقُس، ولوقا) يحصل لها تماماً كما حصل لحجارة الهيكَل وقتها أي تتحطَّم على الأرض. وبكلمات الخبيرَين في الأناجيل السِّينوبتيكيَّة إي. بي. ساندرز ومارغريت ديفيز: “لا يوجد حدَث في مَرقُس يجب أن يؤرَّخ إلى ما بعد عام 70.” وعلى نفس المنوال، في إحدى الدِّراسات الحديثة لتاريخ إنجيل مَرقُس، يَخلُص جيمس كروسلي إلى أنَّ الإنجيل كان من الممكن كتابته في أيّ وقت بين سنة 30 و70 للميلاد.”

Names of Jesus Christ written in Arabic

تتحدَّث الأناجيل عن هذه الحادثة ببعض الغُموض، لكن لو أنَّ الرُّسل كتَبوا عنها بعد حدوثها فحينها سيكون الغُموض غير مُبرَّر، فهويَّة الجيش الرُّوماني لم تكُن واضحة في كتاباتهم وكأنَّهم كانوا يكتبون بطريقة مُشفَّرة خَوفاً من اليهود، خوفاً لا داعي له بعد سنة 70م، فالمسيحيُّون لاحقاً عرفوا أنَّ المقصود هو الجيش الرُّوماني كما يقول المؤرِّخ الكنَسي يوسيبيوس الذي كتبَ في القرن الثَّالث حين وصفَ لهذه الحرب.

يقول يوسيبيوس أيضاً أنَّ المسيحيِّين في أُورشَليم أُنقِذوا من هذه الحرب لأنَّهم لم يختبِئوا داخل أسوار المدينة المحصَّنة كما كانت العادة بل استمَعوا إلى تحذيرات المسيح وهرَبوا من المدينة. لو كان كُتَّاب الأناجيل قد كَتبوا بعد الحرب لكانوا قد أوضَحوا ذلك تماماً كما فعل يوسيبيوس الذي يقول: “… نزحَ المؤمنون بالمسيح إلى بيلّا من أُورشَليم… قبل مجيء الدَّينونة على اليهود… وذلك بحسب قَول نَبوي كان قد أُعلِنَ لهم كسُكَّان تلك المنطقة، بأن يتركوا المدينة قبل بداية الحرب ليستقرُّوا في قرية في بارايا اسمُها بيلّا.”

ثالثاً: بعض الآيات المثيرة للجدَل والتي يُساء فهمها، كان سيتمّ التَّغافُل عن ذِكرها لو أنَّ كُتَّاب الأناجيل قد كتَبوا بعد الحرب، لن نغوص في تفسير هذه الآيات في هذا المقال لكن من المهمّ التَّوضيح أنَّ ذِكر متَّى، مَرقُس، ولوقا لها يُعطيهم مصداقيَّة من ناحية الأمانة التَّاريخيَّة، ومن ثمَّ هذا يعطي الأفضليَّة للتَّأريخ المبكِّر لهذه الأناجيل بشكل ملحوظ، مثلاً يرِد في إنجيل مَرقُس:

“وَعِنْدَئِذٍ سَوْفَ يُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ آتِياً فِي السُّحُبِ بِقُدْرَةٍ عَظِيمَةٍ وَمَجْدٍ. فَيُرْسِلُ عِنْدَئِذٍ مَلاَئِكَتَهُ وَيَجْمَعُ مُخْتَارِيهِ مِنَ الْجِهَاتِ الأَرْبَعِ، مِنْ أَقْصَى الأَرْضِ إِلَى أَقْصَى السَّمَاءِ. فَمِنْ شَجَرَةِ التِّينِ تَعَلَّمُوا هذَا الْمَثَلَ: عِنْدَمَا تَلِينُ أَغْصَانُهَا وَتُطْلِعُ أَوْرَاقَهَا، تَعْلَمُونَ أَنَّ الصَّيْفَ قَرِيبٌ. فَكَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً، حِينَمَا تَرَوْنَ هذِهِ الأُمُورَ تَحْدُثُ، فَاعْلَمُوا أَنَّهُ قَرِيبٌ، بَلْ عَلَى الأَبْوَابِ. الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَزُولُ هذَا الْجِيلُ أَبَداً حَتَّى تَحْدُثَ هذِهِ الأُمُورُ كُلُّهَا.” (مَرقُس 26:13-30)

يُعرَف النَّصّ الوارد في مَرقُس 13 على أنَّه الخطاب على جبل الزَّيتون، ونفس هذا الخطاب يرِد في متَّى 24 ولوقا 21، وفيه تتداخل نُبوءات عن دَمار أُورشَليم الذي حصل سنة 70م. مع نُبوءات عن الأيَّام الأخيرة. كان من الأسهل على مَرقُس أن يُعيد تفسير قول المسيح: “الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَزُولُ هذَا الْجِيلُ أَبَداً حَتَّى تَحْدُثَ هذِهِ الأُمُورُ كُلُّهَا.” لو كان قد كتبَ بعدها، لأنَّه كان سيُدرِك حينها التَّفسير الكامل لهذا النَّص ولا يترك نفسه في موضع قد يُساء تفسيره (البعض اليوم يقول أنَّ المسيح تنبَّأ خطأً عن نهاية العالَم بسبب هذه الآية)، لكن ما قامَ به مَرقُس هو سَرد التَّفاصيل التَّاريخيَّة بأمانة ودون تغيير، دون أن يكون مُدرِكاً للكيفيَّة التَّامَّة التي ستتمّ فيها النُّبوءات، بعكس المسيحيِّين الذين قرأوا النَّصّ بعد حصول الحرب الرُّومانيَّة اليهوديَّة. وما يؤكِّد على أمانة مَرقُس التَّاريخيَّة والتي تَبِعهُ فيها متَّى ولوقا هو القَول التَّالي عن معرفة السَّاعة من نفس النَّصّ الذي كان من الممكن لو أنَّ مَرقُس مُحَرِّفاً أن يُحَرِّفه نظراً لمدى إمكانيَّة سوء فهم النَّاس له، وربَّما تقصَّد النُّقَّاد سوء فهمه لكي يُشكِّكوا بأُلوهيَّة المسيح، مع العِلم أنَّ العهد الجديد يُعلِن صراحةً أنَّ الاِبن أخلى مَجدهُ في التَّجسُّد:

“وَأَمَّا ذَلِكَ الْيَوْمُ وَتِلْكَ السَّاعَةُ فَلاَ يَعْرِفُهُمَا أَحَدٌ، لاَ الْمَلاَئِكَةُ الَّذِينَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ الاِبْنُ، إِلاَّ الآبُ.” (مَرقُس 32:13)

Messenger in Arabic

3. متى انتهى لوقا من كتابة سفر أعمال الرسل؟

أحد الأدِلَّة التَّقليديَّة التي نُقدِّمها كمسيحيِّين على أنَّ الأناجيل الثَّلاث الأولى كُتِبت قبل سنة 70م، هي أنَّ سِفر أعمال الرُّسل ينتهي برَحيل بولُس إلى روما أي حوالي سنة 63 ميلاديَّة. سِفر أعمال الرُّسل هو تتمَّة لإنجيل لوقا أي أنَّه كُتِبَ بعده، هذا يعطي تاريخاً لكتابة إنجيل لوقا في بداية ستِّينيَّات القرن الأوَّل. ينتهي سِفر أعمال الرُّسل في مرحلة حرِجة وانتقاليَّة من تاريخ الكنيسة الأولى دون الاستمرار في ذِكر تفاصيل أكثر، ممَّا يعطي انطباعاً بديهيّاً أنَّ كتابته انتهت في تلك المرحلة تحديداً (حوالي 63م)، لهذا السَّبب لم يذكُر الأحداث التي حصلت بعد رحيل بولُس إلى روما، سواء معه أو مع كنيسة أُورشَليم.

كما العادة ليس من المتوقَّع أن لا تتعرَّض هذه الحجَّة للنَّقد. فقد اعترضَ البعض عليها قائلاً إنَّها مُحاوَلة من لوقا لكي يوهِم الجمهور أنَّ النَّص الذي يَخطّهُ قديم. أوَّلاً هذا الاعتراض فيه مُفارَقة تاريخيَّة وهي زَجّ لوقا في الجدَل المعاصر حول تاريخ الأناجيل، الأمر الذي لم يكُن موجوداً أيَّام لوقا، لكن ليس هذا رَدّنا الوحيد على هذا الاعتراض.

حصلت أحداثاً كثيرة بين نهاية سِفر أعمال الرُّسل والحرب الرُّومانيَّة اليهوديَّة، وحصلت فيها أُموراً كان من المهمّ جدّاً أن تُذكَر من لوقا فيما لو أنَّه كان صاحب أجندة تزويريَّة، فمن غير المعقول أن لا يذكُر استشهاد يعقوب الرَّسول الذي حصل سنة 63 للميلاد لو أنَّه كتبَ لاحقاً، واستشهاد يعقوب ذَكرهُ أيضاً المؤرِّخ اليهودي يوسيفوس وليس فقط مصادر المسيحيِّين. تخيَّلوا معي أن تستشهِد شخصيَّة مسيحيَّة معروفة اليوم وأن لا تذكُر هذه الحادثة المواقع المسيحيَّة، فهذا أمر غير منطقي. لم يكُن أحد سيُشكِّك بتاريخ كتابة إنجيل لوقا تلك الأيَّام لو أنَّه ذكرَ استشهاد بولُس وبطرُس الذي حصل في روما على يَد نَيرون، يقول برانت بايتر: “في كل سِفر أعمال الرُّسل، يُسلِّط لوقا الضَّوء بعناية على أوجُه التَّشابُه بين حياة يسوع وحياة بطرُس وبولُس. لماذا إذاً يغفل لوقا عن ذِكر التَّشابُه الأكثر إثارة للانتباه على الإطلاق بين إعدام يسوع وإعدام بطرُس وبولُس؟”

إذا كان لوقا قد انتهى من كتاباته في أوائل السِّتينيَّات من القرن الأوَّل وقد استخدمَ متَّى كأحد المصادر فهذا يعني أنَّ إنجيل متَّى كُتِب مع نهاية خمسينيَّات القرن الأوَّل ومَرقُس مع بدايتها لأنَّ متَّى أيضاً اعتمدَ على إنجيل مَرقُس كمصدر له في بعض الأحداث. يجب إعطاء فترة بِضع سنين بين الأناجيل فالكِتاب حينها كان بحاجة لبعض الوقت كي يُنسَخ وينتشر في زمن كانت هذه الأشياء تتمّ يدويّاً. حتَّى ولو كان ترتيب الأناجيل من حيث التَّاريخ هو غير ذلك يعني مثلاً لو كان متّى كُتِب قبل مَرقُس، فهذا لا يُلغي أنَّ هذه الأناجيل الثَّلاث مجتمعةً قد كُتِبت قبل سنة 70م. وهي قديمة جدّاً وأكثر من كافية لكي تروي لنا حقائق تاريخيَّة عن المسيح.

لا يمكن أن نصدِّق اليوم مصادر تاريخيَّة عن المسيح كُتِبت بعد القرن الأوَّل كالتي تُعرَف بالأناجيل المَنحولة أو أيّ مصدر تاريخي كُتِب بعد زمن حياة من عاصَروا المسيح. فالأناجيل الأربعة فقط (متَّى، مَرقُس، لوقا، ويوحنَّا) هي الأقرب تاريخيّاً لحياة المسيح وقد كُتِبت ممَّن عايَنوا الأحداث أو ممَّن كانوا مُرافِقينَ لهم، وبوجود شُهود كثيرين دفَعوا حياتهم ثمَناً لهذه الشَّهادة وكانوا حقّاً شُهداء.

الكاتب: الأخ فرح

Minister & Theologian

  1. Jewish Antiquities. Flavius Josephus
  2. The Annals of Imperial Rome. Tacitus.
  3. صحيح أن الاكتشافات الأثريَّة تُستخدم أيضاً في الوثائقيَّات وكُتب التاريخ، لكن تبقى شهادة المؤرِّخين القُدماء مصدر رئيسي للمعلومات.
  4. هناك من يعتقد أن المسيح لم يكُن شخصيَّة تاريخيَّة أساساً، ومثل هؤلاء لا يستخدمون المعايير التاريخيَّة المُعتمَدة في البحث التاريخي، وإذا أرادوا أن يُطبِّقوا نفس معايير النَّقد على شخصيَّات تاريخيَّة أُخرى، لما كان بإمكاننا معرفة شيء عن التاريخ.
  5. إن افترضنا أنَّ مَرقُس أو غيره من الرُّسل كان عمرهم 25 سنة عند صَلب المسيح، لكانَ عُمرهم 55 سنة في عام 80 للميلاد، وهم بذلك قادرون على كتابة سيرة المسيح الذَّاتيَّة، بالإضافة لاستمرار وجود شُهود عيان على قيد الحياة في تلك الفترة الزمنيَّة.
  6. Jesus and the Eyewitnesses: The Gospels as Eyewitness Testimony. Richard Bauckham.
  7. The Case for Jesus: The Biblical and Historical Evidence for Christ. Brant Pitre.
  8. The History of the Church: From Christ to Constantine. Eusebius.
  9. The Case for Jesus: The Biblical and Historical Evidence for Christ. Brant Pitre.


مقالات مُشابِهة

ما هو الإنجيل؟
هل بإمكاننا أن نعرف من كتب الأناجيل؟
هل توجد تناقضات في الأناجيل؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.