يسوع يطرد شياطين

سنعالج في هذا المقال بعض الآيات التي يعتقد البعض أنَّ المسيح نفى فيها الأُلوهيَّة عن نفسه، وسوف نُفسِّر هذه الآيات بحسب سِياقها النَّصِّي واللَّاهوتي.

انقر هنا لقراءة الجزء الأول من هذا المقال

تحدَّثنا في الجزء الأوَّل عن قصد المسيح عندما قال عن الآب أنَّه الإله الحقيقي وحده (يوحنَّا 3:17) وإن كان بذلك يُنكِر أُلوهيَّته، وهنا سنُكمِل في نفس السِّياق حول تصريحات أُخرى أدلى بها الرَّب يسوع والتي قد تُفهَم بشكل خاطئ إذا ما عُزِلَت من سِياقها وطُبِّقَ عليها أُسُس تفسيريَّة غير صحيحة.

لماذا قال المسيح أنه لا يستطيع أن يفعل شيئاً من تلقاء نفسه؟

وردَ في إنجيل يوحنَّا هذا القول للسيِّد المسيح:

“فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ الاِبْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، بَلْ يَفْعَلُ مَا يَرَى الآبَ يَفْعَلُهُ…” (إنجيل يوحنَّا 19:5)

قد يفترض البعض أنَّ المسيح بقوله هذا يقول أنَّه مجرَّد نبي أو رسول وليس أنَّه اِبن الله الأزَلي¹، لأنَّه يُظهِر عجزه أمام المعجزات. لكن هذا الاستنتاج لا يُراعي السِّياق الذي قال فيه يسوع هذه الكلمات ولا الفكرة العامَّة لإنجيل يوحنَّا ولا التَّعليم الكامل للكتاب المقدَّس.

قول المسيح بأنَّه يعتمد على الآب ليس نفياً لأُلوهيَّة الاِبن، بل هو بهدف توضيح العلاقة بينهما المبنيَّة على الوحدة في المشيئة، فهو الذي قال إنَّه والآب واحد (يوحنَّا 30:10). وهذا ما يؤكِّده قول المسيح في تتمَّة الآية نفسها أعلاه:

“…فَكُلُّ مَا يَعْمَلُهُ الآبُ، يَعْمَلُهُ الاِبْنُ كَذلِكَ” (إنجيل يوحنَّا 19:5)

فلو كان المسيح ينفي عن نفسه الأُلوهيَّة لَما قال لهم أنَّه يعمل نفس أعمال الله، فهل من يستطيع أن يعمل نفس أعمال الله ويربط عمل الله بعمله هو، يريد أن ينفي الأُلوهيَّة عن نفسه؟ هذا النَّص في يوحنَّا 5 يتحدَّث فيه الرَّب يسوع عن عمل الثَّالوث فالاِبن يعمل نفس أعمال الآب الذي أعطى الدَّينونة للاِبن وكما أنَّ الآب يعطي الحياة، الاِبن أيضاً يعطي الحياة. أدوار أقانيم الثَّالوث متجانسة وتعمل عملاً متكاملاً لأجل مجد الله الواحد الجامع الذي تجلَّى في ذروتهِ عبر عمل المسيح على الصَّليب، بحيث فدى المسيح مُختاري الآب الذين سيجدِّدهم الرُّوح القدُس للإيمان.

ما يقوله المسيح هنا أنَّ عمله متوافق مع عمل الآب ومنسجم معه تماماً. صحيح أنَّ المسيح يُظهِر اعتماده على الآب، لكن ليس بسبب العجز بل لإظهار التَّوافق في المشيئة، أي أنَّ ما يقوم به المسيح متوافق مع ما يريده الآب. نلاحظ ذلك عندما نعرف السَّبب الذي لأجله أدلى يسوع بهذا التَّصريح.

قول يسوع أتى بعدما أراد الفرِّيسيُّون أن يقتلوه لأنَّهم اتَّهموه بنَقض وَصيَّة حِفظ السَّبت التي أعطاها الله لبني إسرائيل على يد موسى، وذلك لأنَّ المسيح شَفى في يوم السَّبت ولأنَّه عادلَ نفسه بالله أيضاً. لذلك من الطَّبيعي أن تكون إجابة يسوع هدفها توضيح مفاهيم حول اِعتراضهم على ما فعله، فهو لم يكن بصدد أن يصحِّح لهم ما فهموه عن أُلوهيَّته لكنَّه أراد أن يُنوِّه لفكرة أنَّ عمله يتوافق مع عمل الآب أي أنَّه لم يناقِض ما قاله الآب عن وَصيَّة حِفظ السَّبت، يقول المسيح أنَّ الآب والاِبن متجانسان في المشيئة.


يقول المسيح أنَّ الآب والاِبن متجانسان في المشيئة


يعلِّق ريتشارد بوخام على هذا النَّص بالقول: “يؤكِّد يسوع أنَّه في كل ما يفعله يعتمد كلِّيّاً على أبيه، بحيث لا يجعل من نفسه بأيّ حال من الأحوال منافساً لأبيه. في اعتماده الجذري على الله يعلِن أنَّه ليس مساوياً لله بالمعنى الذي يقصده قادة اليهود (إنسان يجعل نفسه إله)، لكنَّه مُساوٍ لله بمعنى أنَّ ما أعطاه إيَّاه الآب ليفعله هو الامتيازات الإلهيَّة الفريدة. إنَّه لا يعمل ببساطة كوَكيل الله في تنفيذ بعض جوانب سيادة الله. إنَّه يمارس السِّيادة الإلهيَّة الكاملة التي أعطاها له أبوه، ولكنَّها أيضاً للآب بالكامل: كما أنَّ الآب يُقيم الأموات ويُحيي، كذلك الاِبن أيضاً يُحيي من يشاء (يوحنَّا 21:5)، الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدَّينونة للاِبن (يوحنَّا 22:5)، كما أنَّ الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الاِبن أن تكون له حياة في ذاته (يوحنَّا 26:5). وهكذا يشارك يسوع في الهويَّة الإلهيَّة باعتباره مصدر الحياة الوحيد، واهب الحياة الوحيد، والقاضي الوحيد للجميع. وهو يفعل ذلك باعتباره الاِبن الذي يعتمد كلِّيّاً على أبيه، ولكنَّه مع ذلك يمارس هذه الامتيازات الإلهيَّة بشكل كامل وحقيقي. وهذا يعني أنَّ الهويَّة الإلهيَّة الفريدة تشمل العلاقة التي يصِفها يسوع هنا بينه وبين الله أبيه.”²

من غير الممكن أن يستخدم أحد آية من الإنجيل يحاول فيها أن ينفي الأُلوهيَّة عن يسوع، في إنجيل كُتِب أساساً ليُظهِر المسيح كما هو (اِبن الله الأزَلي)، ومن غير الممكن عزل آية عن سِياق السِّفر ككُلّ خاصَّةً في إنجيل يوحنَّا الذي يبدأ بإظهار هويَّة المسيح أنَّه كائن منذ الأزَل وأنَّه الكلمة المُوجِدة للخلق:

“فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ. وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهُ. هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. بِهِ تَكَوَّنَ كُلُّ شَيْءٍ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَتَكَوَّنْ أَيُّ شَيْءٍ مِمَّا تَكَوَّنَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ. وَالْحَيَاةُ كَانَتِ نُورَ النَّاسِ. وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظَّلاَمِ، وَالظَّلاَمُ لَمْ يُدْرِكْ النُّورَ.” (إنجيل يوحنَّا 1:1-5)

لتفسير أيّ كتاب، عليك أن تفهم كل قول للكاتب في سِياق الكتاب وضمن الرِّسالة العامَّة التي يريد أن يوجِّهها للقرَّاء، لذلك فإنَّ انتِقاء نصوص معيَّنة ومحاولة تفسيرها بشكل متعارِض مع الفكرة العامَّة للكتاب هو انتهاك لأبسط قواعد عِلم التَّفسير، فإمَّا أن ترفض الكتاب كُلّه وإمَّا أن تقبل شهادته الموحَّدة.

God the son in arabic

لماذا قال المسيح أنه إنسان؟

يقول المسيح صراحةً أنَّه إنسان، فكيف نقول نحن أنَّه اِبن الله؟
“وَلكِنَّكُمْ تَسْعَوْنَ إِلَى قَتْلِي وَأَنَا إِنْسَانٌ كَلَّمْتُكُمْ بِالْحَقِّ الَّذِي سَمِعْتُهُ مِنَ اللهِ.” (إنجيل يوحنَّا 40:8)

هذا السُّؤال مبني على فرضيَّة مسبقة خاطئة، لا تأخذ بعين الاعتبار ما يؤمن به المسيحيُّون حول طبيعة الله وتجسُّد المسيح. فتجسُّد المسيح هو أساس الإيمان المسيحي وهو المصدر القائم عليه هذا الإيمان. في التجسُّد كلمة الله الأزَلي صار إنساناً، وذلك بحسب نفس الإنجيل الذي نقلَ كلمات يسوع أعلاه، وفيه وُجِدَت الحياة وهو من أظهرَ لنا النُّور كَونه النُّور الحقيقي. وبما أنَّ الكلمة صار جسداً، صار بشراً، صار إنساناً وعاش بيننا (يوحنَّا 14:1) فمن الطَّبيعي أن يقول عن نفسه “أنا إنسان” كما أنَّ المسيح بتجسُّده أخلى مجده، أي تركَ المجد الذي كان لهُ لكي يجعلنا شُرَكاء معه في هذا المجد عبر مصالحتنا مع الله بدم صليبه (يوحنَّا 1:17، فيلبِّي 6:2).

فكل المسيحيُّون يؤمنون أنَّ المسيح هو إنسان كامل وإله كامل في آنٍ معاً، لذلك قوله عن نفسه “أنا إنسان” لا يُلغي أُلوهيَّته، وقوله عن نفسه أنَّه “اِبن الله” لا يُلغي بشَريَّته. وهنا نعود للفكرة السَّابقة أنَّه يجب فهم قول المسيح بالتَّوافق مع أقواله الأُخرى التي أعلنَ فيها أنَّه اِبن الله. فالهدف الأساسي لما يُعرَف باللَّاهوت النِّظامي هو فهم كل الآيات التي تتحدَّث عن موضوع محدَّد بشكل متَّسِق فيما بينها للوصول إلى تعريف موحَّد للعقيدة، لذلك لا حلّ أمام من يريد أن يشكِّك بأُلوهيَّة المسيح من الكتاب المقدَّس سوى أن يقتطع تلك الآيات من سِياقها.

لماذا تدعوني بالصالح؟

تُسجِّل لنا الأناجيل (متَّى، مَرقُس، ولوقا) حواراً دار بين الرَّب يسوع وأحد الرُّؤساء اليهود:

“وَسَأَلَهُ وَاحِدٌ مِنَ الرُّؤَسَاءِ قَائِلاً: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» وَلَكِنَّ يَسُوعَ قَالَ لَهُ: «لِمَاذَا تَدْعُونِي الصَّالِحَ؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحاً إِلاَّ وَاحِدٌ، وَهُوَ اللهُ!” (إنجيل لوقا 18:18-19)

قد يقول أحدهم أنَّ المسيح في هذه الآية ينفي أنَّه صالِح، لكن ليس بالضَّرورة أن يكون هذا فحوى قول يسوع، فمن الممكن أن يكون سؤاله بهدف استخراج اعتراف إيمان أو لجعل الشَّخص الذي أمامه يُقِرّ بتوجُّهاته. بحسب المفسِّر ديفيد غوزيك: “لماذا تدعوني صالحاً؟ لا يعني هذا أنَّ يسوع أنكرَ أُلوهيَّته، لكنَّه دَعا الشَّاب للتأمُّل فيما قاله. وكأنَّه يقول: هل تعرف حقاً معنى أنَّك تدعوني صالحاً؟”³

كان يسوع يريد أن يجعل الشَّاب الذي أمامه يتأمَّل في هذه الفكرة ويعرف السَّبب الذي جعله يدعو المسيح بالصَّالح، كما أنَّ المسيح لم يقُل “أنا لستُ صالحاً”، بل وبحسب داريل بوك: “لم يكن يسوع يُنكِر كَونه صالحاً، لقد كان يشير إلى أنَّ البشر ليسوا صالحين، وبالتَّالي، بما أنَّ الشَّاب الذي اقتربَ من يسوع اعتبرهُ مجرَّد (مُعلِّم بشَري)، فلا ينبغي له أصلاً أن يتملَّقهُ ويناديه (بالمُعلِّم الصَّالح). وإذا كان هناك أيّ شيء نفهمه ]عن أُلوهيَّة المسيح في هذا النَّص[، فإنَّ ما قاله يسوع في هذا السِّياق يعني أنَّ يسوع أكثر من مجرَّد إنسان، لأنَّه استدعى الشَّاب لكي يتبعه حتَّى يصير كاملاً”.

كما أنَّ هذا الأُسلوب بعدم قبول المديح لم يكُن جديداً على المسيح فهكذا فعل مع نيقوديموس أيضاً (يوحنَّا 3:3) ومع أحد الأشخاص الذين أرادوا أن يتبعوا يسوع (متَّى 19:8-20)، وذلك بُغية إيصال فكرة معيَّنة لهم.

هكذا اعتِراضات تبدأ بفرضيَّة مسبقة أنَّ المسيح بأقواله لم يُعلِن أنَّه إله لكن كلّ المحيطين به وأتباعه الأوائل فهموه بشكل مغلوط، هذا يعني أنَّ المعترِض هنا يعتبر أقوال المسيح التي أتت في الإنجيل صحيحة والتي قال فيها أنَّه سيُصلَب واقتبسَ فيها من التَّوارة، لكن ما خَلا ذلك ممَّا كُتِبَ في الأناجيل هو خاطئ. في الحقيقة من غير الممكن أن يكون أتباع المسيح الأوائل قد فهِموا جميعهم تعاليم المسيح بشكل خاطئ، فأقدَم المصادر الموجودة اليوم عن المسيح هي الأناجيل الأربعة والرَّسائل القانونيَّة وكُلّها تشهَد عن أُلوهيَّة المسيح التي مهَّد لها العهد القديم وأعلنَ عنها العهد الجديد بالطَّريقة التي تتوافق مع البيئة التي عَلَّمَ فيها المسيح. الخُلاصة هي أنَّك إمَّا سوف ترفُض شهادة الأناجيل ككُلّ أو تقبَل شهادتها والتي تُعلِّم أنَّ يسوع المسيح هو ربٌّ لمجد الله الآب كما هي.


مقالات مُشابِهة

هل نفى يسوع ألوهيته؟
ما هي نبوءات العهد القديم التي تممها يسوع؟
لماذا قال يسوع أنه لا يعرف ساعة مجيئه؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.