animation of the crucifixion of jesus

لماذا قال يسوع على الصليب ”إلهي إلهي لماذا تركتني“ ؟

آخِر ما تَكلَّمَ بِهِ يسوع قَبلَ لَحَظات قَليلة مِن تَسليم رُوحِهِ كانَت صَرخة مَهيبة يَقول فيها:

“إلهي، إلهي، لِماذا تَرَكتَني”
إنجيل متّى 46:27

لِماذا قالَ يسوع هذهِ الكَلِمات؟ وكيفَ يُمكِن لله أن يَترُكَ المسيح في هذهِ اللَّحظة الحَرِجة مِن حَياتِهِ على الأرض ويَدَعهُ يَموت ويَتَألَّم مَتروكاً مِنَ الجَميع؟ نَحصُل على الجَواب عِندَما نَفهَم قَول يسوع هذا بِحَسَب ما تُعَلِّمهُ التَّوراة والمَزامير.

مِنَ المَزامير

يَقتَبِس يسوع هذا القَول بِشَكل صَريح مِنَ المَزمور 22 والآية الأولى. والمُلفِت بالأمر أنَّ كاتِب هذا المَزمور يَصِف لنا هذا المشهد وكأنَّهُ شاهَدَ بِعَينِهِ صَلب المَسيح على الرُّغم من أنَّهُ كَتَبَ ذلِك قَبلَ حادِثَة الصَّلب بِأكثَر مِن سَبعَة قُرون، حَيثُ يَذكُر تَفاصيل تَضَمَّنَتها هذهِ الواقِعة بِدِقَّة مُتَناهِية، فَيَبدَأ بِوَصفِهِ لِاستِهزاء النَّاس بِيَسوع وتَعيِيرهِم لَهُ بِأنَّ الله لم يُخَلِّصهُ في (الآيات 8،7)، مُحاصَرَة الأعداء لَهُ (الآيات 13،12)، العَطَش مِنَ الجَفاف الذي يُسَبِّبهُ النَّزيف النَّاتِج عن الصَّلب (الآية 15)، ثَقب اليَدَين والرِّجلَين (الآية 16)، تَقاسُم الجُنود الرُّومان على ثِياب يسوع (الآية 18)، ويُنهي المَزمور بِتَسبيح انتِصار لِيُشير إلى الغَلَبة التي حَصَلَ عليها يسوع بِانتِصارِهِ على المَوت وقِيامَتِهِ مِنَ الأموات.

أحَد أسباب قَول يسوع لِهذهِ الكَلِمات هو لِكَي يُرشِد اليَهود ومُعَلِّمي الشَّريعة الذينَ كانوا على مَرأى مِنَ الصَّليب بِأنَّهُ هو المَقصود في آيات المَزمور 22، وأنَّ ما قاله يسوع كُتِبَ لِلَفت انتِباه كُل مَن يَقرأهُ إلى النُّبوءات المَكتوبة في العَهد القَديم والتي كانَت تُخبِر عن ما تَمَّمَهُ المسيح في حَياتِهِ، لكِن قَبلَ مَجيئِهِ بِمِئات السِّنين.

نَحنُ نَعلَم أنَّ اليَهود كانوا يَتوَقَّعونَ ظُهور المَسيح ويَعلَمون أنَّهُ مَذكورٌ في النُّبوءات المَكتوبة في الكُتُب المُقَدَّسة عِندَهُم أي ما نُسَمِّيهِ اليَوم كَمَسيحِيِّين بِالعَهد القَديم، إذ يؤمِن اليَهود أنَّ التَّوراة وكُتُب الأنبِياء التي لَدَيهِم تُخبِر عن المَسيح، وهذا المُعتَقَد مُستَمِر عِندَهُم مِن تِلكَ الأيَّام ولِغايَة يَومِنا هذا، وإذا قارَنَّا الأناجيل الأربَعَة بِكُتُب العَهد القَديم نَجِد أنَّ المَسيح يسوع تَمَّمَ جَميع تِلكَ النُّبوءات بِحَذافيرِها.

مِنَ التَّوراة

في أيَّام موسى كانَت تُصاغ عُهود بَينَ المُلوك والشُّعوب وهي بِمَثابَة اتِّفاقِيَّات قانونِيَّة، حَيثُ كانَ السَّيِّد (الطَّرَف الأقوى في العَهد) قَبلَ أن يَضَع ما يُعرَف بِبَركات العَهد (الإحسان الذي تَحصُل عليهِ عِندَ طاعَة شُروط الإتِّفاق)، ولَعَنات العَهد (العِقاب الذي تَحصُل عليهِ عِندَ مُخالَفة الشُّروط)، كانَ يَذكُر في هذا الإتِّفاق الإحسانات التي صَنَعَها لِ (الطَّرَف الأضعَف في العَهد) والتي تَجعَلهُ يَستَحِق مِنهُ الوَلاء والطَّاعة.

تَذكُر لنا التَّوراة أنَّ الله قَطَعَ مع شَعبِهِ عَهداً شَبيهاً بِتِلكَ العُهود بَعدَ أن أخرَجَهُم مِن أرض مِصر لِيُنَظِّم بِهِ أُطُر العَلاقة بَينَه وبَينَهُم. ونَقرأ في التَّوراة أنَّ الرَّب قَبلَ سَردِهِ لِلوَصايا التي يَجِب أن تُطاع، يُعلِن عن العَمَل الذي قامَ بِهِ مِن أجل الشَّعب والذي هو السَّبَب الذي يَستَحِق مِن خِلالِهِ وَلاءَ الشَّعب وطاعَتِهِم لَهُ:

“أَنَا هُوَ الرَّبُّ إِلَهُكَ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ دِيَارِ عُبُودِيَّتِك.”
سِفر الخُروج 2:20

بَعدَها يَضَع الرب شُروط العَهد وهي الوَصايا التي يَجِب أن تُطاع، مع البَرَكات والعُقوبات المُتَضَمَّنة في شُروطِها.
البَرَكة في طاعَة وتَنفيذ شُروط العَهد كانَت تتلَخَّص في:

” …هَذَا مَا يُبَارِكُونَ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلِينَ لَهُمْ: يُبَارِكُكَ الرَّبُّ وَيَحْرُسُكَ. يُضِيءُ الرَّبُّ بِوَجْهِهِ عَلَيْكَ وَيَرْحَمُكَ. يَلْتَفِتُ الرَّبُّ بِوَجْهِهِ إِلَيْكَ وَيَمْنَحُكَ سَلاَما. وَهَكَذَا يَجْعَلُونَ اسْمِي عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَنَا أُبَارِكُهُمْ.”
سِفر العَدَد 6: 22-27

كَلِمَة “وَجه الرَّب” في هذا السِّياق هيَ كِناية عن حُضور الرَّب، لذلكَ نَفهَم أنَّ البَرَكة تأتي مِن خِلال حُضور الرَّب في حَياة المؤمِن والتي يَنتُج عَنها الرَّحمة والسَّلام. نَقيض ذلكَ تَماماً هيَ لَعنَة العَهد، حَيثُ يَترُك الرَّب الإنسان بَعيداً عن حُضورِهِ ورَحمَتِهِ وسَلامِه.

نَرى تَوضيحاً لِهذا الأمر في أحَد أعياد اليَهود وهو يَوم الكَفَّارة. في هذا الحَدَث كانَت تَنتَقِل ذُنوب الشَّعب وتُوضَع على كَبشَين مِن خِلال مُمارَسات طَقسِيَّة، حَيثُ يُذبَح أوَّل كَبش فِداءً عن ذُنوب الشَّعب، والكَبش الثَّاني كانَ يُطلَق إلى البَرِّيَّة (خارِج المَحَلَّة) أي إلى ما يُعرَف عِندَهُم بِالظُّلمَة الخارِجِيَّة، وهو مَكان يَرمُز لِغِياب بَرَكَة حُضور الله وغِياب رَحمَتِهِ وسَلامِهِ. بِهذِهِ الطَّريقة كانَ يُلعَن الكَبش.

المَسيح صُلِبَ خارِج المَحَلَّة أي خارِج أسوار المَدينة، تَماماً كَما كانَ يُطلَق الكَبش إلى خارِج المَحَلَّة، فَصِهيَون التي كانت تَرمُز لِحُضور الله، أُخِذَ يسوع إلى خارِجها أي إلى المَكان الخالي مِن حُضور الله، حَيثُ سادَ عليهِ الظَّلام الخارِجي، وحُرِمَ على الصَّليب مِن نِعمَة حُضور الآب، مُنفَصِلاً عن البَرَكَة تَماماً، وهذا الأمر تَمَّ لِكَي نَتَمَكَّن نَحنُ مِنَ التَّمَتُّع بِحُضور الله، فالآب حَجَبَ نُورَهُ وَقتِيّاً عن يسوع، لِكَي يُنير عَلينا بِإشراق وَجهِهِ.

ولا عَجَبَ إذاً أنَّ المسيح أطلَقَ هذهِ الصَّرخة مِن أعماق رُوحِهِ.

“إلهي، إلهي، لِماذا تَرَكتَني”
إنجيل متّى 46:27.

في الواقِع إنَّ لَعَنات العَهد تَطالَنا كُلُّنا كَبَشَر بِسَبَب ذُنوبِنا:

” مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يُطِيعُ كَلِمَاتِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ وَلاَ يَعْمَلُ بِهَا”
سِفر التَّثنِية 26:27

لذلك كُل مَن يُحاوِل أن يُرضي الله بِأعمالِهِ هو تَحتَ اللَّعنَة، لِأنَّنا عاجِزين عن القِيام بِما يَطلُبهُ الله مِنَّا. لكِن البُشرى السَّارَّة أنَّ ما حَدَثَ هو:

” إِنَّ الْمَسِيحَ حَرَّرَنَا بِالْفِدَاءِ مِنْ لَعْنَةِ الشَّرِيعَةِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً عِوَضاً عَنَّا، لأَنَّهُ قَدْ كُتِبَ: «مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَة”
رسالة بولُس الرَّسول إلى أهل غَلاطية 13:3

يَستَخدِم الرَّسول بولُس هُنا النَّص مِن سِفر التَّثنِية المُقتَبَس أعلاه، لِيُشير أنَّ المَسيح تَحَمَّلَ عَنَّا جَميع لَعَنات العَهد.

كانَت الرُّؤية العَجيبة رؤيَة البَرَكة، رؤيَة الآب أمر تَمَتَّعَ بِهِ يسوع طولَ فَترَة خِدمَتِهِ على الأرض، رؤيَة الله بِوَجهٍ مَكشوف، لكِن على الصَّليب أُطفِئ هذا النُّور لِبُرهَة، وغَرِقَ العالَم في ظُلمة دامِسة إذ تَعَرَّضَ المَسيح لِلَعنَة غَضَب الله. وهذهِ اللَّعنَة بِحَسَب المُعتَقَد اليَهودي هيَ أن يَنحَرِم الإنسان مِن حُضور الرَّب. فَعِندَما عُلِّقَ يسوع على الصَّليب سادَ ظَلامٌ على الأرض، ووَسطَ هذا كُلّه صَرَخَ يسوع: إلهي، إلهي، لِماذا تَرَكتَني”. إن لَم يَكُن الله قَد تَرَكَ يسوع حَقّاً خِلال عَمَلِيَّة الصَّلب، فلَن يَكون يسوع قَد تَحَمَّل عَنَّا لَعَنات العَهد بِالكامِل. لذلِكَ تَوَجَّبَ على المسيح أن يتَحَمَّلَ ثِقل العِقاب الذي كانَ يَنبَغي عَلينا أن نَتَحَمَّلَهُ جَميعُنا على الصَّليب.

وَلَكِنَّ اللهَ أَثْبَتَ لَنَا مَحَبَّتَهُ، إِذْ وَنَحْنُ مَازِلْنَا خَاطِئِينَ مَاتَ الْمَسِيحُ عِوَضاً عَنَّا
رسالة بولُس الرَّسول إلى أهل روما 8:5


مقالات مُشابِهة

هل حَقّاً صُلِبَ المَسيح ؟
الصليب
الأساسيات في المسيحية
قصة صلب المسيح


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.