صف من الكتب الملونة

دراسة التَّعاليم المسيحيَّة تسمَّى بِ”عِلم اللَّاهوت”، ماذا تعني هذه التَّسمية وعلى ماذا تدلّ؟ هذا ما سنجيب عنه في المقال التالي.

كل من يقرأ من الكتاب المقدَّس، سوف يكون لِسان حاله كما أجاب خصِيّ الحبَشة حين سأله فيلبّي عمَّا إذا كان يفهم ما يقرأ:
“كَيْفَ يُمْكِنُنِي ذَلِكَ إِنْ لَمْ يَشْرَحْ لِي أَحَدٌ؟” (أعمال الرُّسل 31:8)

الحبَشِيّ حينها كان يقرأ من سِفر إشَعياء وتحديداً الإصحاح 53 منه ولم يكُن النَّص واضحاً تماماً بالنِّسبة له، لذلك شرحَ له فيلبّي معنى النَّص مُظهِراً له كيف أنَّه يشير للمسيح مُتمِّم النُّبوءات، وبعدها آمنَ خصِيّ الحبَشي واعتمد. على الرَّغم من أنَّ الرِّسالة الأساسيَّة للكتاب المقدَّس واضحة وصريحة، إلَّا أنَّ بعض الأجزاء منه تقدِّم حقائق عَسِرَة الفهم وأحياناً قد تكون مُربِكة للقارئ.

تكمُن صعوبة الفهم في أنَّ الكتاب الذي بين أيدينا هو مُترجَم عن اللُّغات الأصليَّة، ومعنى ذلك أنَّ الكلمات تُترجِم لكن قد لا يكتمل المعنى لأنَّ ترجمة الكلمات تعجز عن ترجمة تلك الثَّقافة التي تحدِّد طريقة تفكير شعب عاشَ قبل آلاف السِّنين في مكان جُغرافي آخر وفي حضارة أُخرى وأُسلوب حياة مختلف. وذلك يتطلَّب تفسيراً للكتاب المقدَّس ودراسة تلك الحقبة بكل خِصالها وفهم الإطار المَرجِعي لتلك الشُّعوب وماذا كانت تعني لهم تلك الكلمات، لكن هذه الدِّراسات لا يقوم بها الجميع، لذلك علينا الاعتماد على العُلَماء والباحثين لكي يُترجِموا الكتاب المقدَّس ويُفسِّرونه لنا، هؤلاء هم من يُعرَفون بِاسم “اللَّاهوتيِّين” لأنَّهم يدرُسون ما يُسمَّى بعِلم اللَّاهوت.

بإمكاننا تعريف عِلم اللَّاهوت على أنَّه دِراسة وفهم كلمة الله بهدف فهم الله ومشيئته المُعلَنة لنا في كتابه. يُعرِّف أوغسطينوس عِلم اللَّاهوت على أنَّه “يُقدِّم تعريفاً للطَّبيعة الإلهيَّة”¹، ويُعرِّفه فرانسيس توريتِن على أنَّه “نِظام من العقائد عن الله والأُمور الإلهيَّة المُعلَنة منه لإعلان مَجدهِ ولخَلاص البشر”². الكلمة الإنجليزيَّة لعِلم اللَّاهوت (Theology) والتي هي مأخوذة من اللُّغة اليونانيَّة، تعني “عِلم الله” أو “المعرفة عن الله”، والهدف منها هو معرفة ما يريده الله منَّا لكي نمجِّده ونعيش وفق وصاياه وتعاليمه ونعرف مخطَّطه لحياتنا وخَلاصنا، لذلك يُعرِّف ويليام أيمس هذا العِلم بأنَّه “يُعلِّم عقيدة العَيش مع الله”³. قد يدرُس البعض عِلم اللَّاهوت لمُجرَّد الدِّراسة الأكاديميَّة دون نيَّة التَّقرُّب من الله، لكن هذا ليس السَّبب الذي يجب أن ندرسه من أجله لأنَّ الوَحي أُعطِيَ لتمجيد الله، يقول توما الأكويني: “اللَّاهوت يُعَلَّم من الله ويُعَلِّم عن الله لكي يُرشِد البشر إلى الله”.

هل اللاهوت هو علم؟

قد يعترِض البعض على تسمية اللَّاهوت بِ “العِلم” لأنَّه لكي يُصنَّف “عِلماً” يجب أن نتعلَّمه من خلال البحث والتَّحقيق التَّجريبي، أي أن يكون عِلماً خاضعاً لقوانين تُدرَّس سواء في المُختبَر عبر التَّجارب أو عبر حِسابات رياضيَّة، لذلك يعتبره البعض مضيَعة للوقت لأنَّ لديهم فرضِيَّة مُسبَقة مادِّيَّة تمنع وجود أيّ شيء روحاني وتمنع وجود إله خالق للكون، وبالتَّالي تمنع إمكانيَّة فهم مشيئة هذا الإله. لكن لطالما اعتُبِرَ اللَّاهوت “عِلماً”، فوجود الله هو أمر بَديهي وهو أساس ومصدَر كل معرِفة. وقد وردَ في كِتاب اللَّاهوت النِّظامي المُصلَح: “كمَجال أكاديمي، يُطلَق على عِلم اللَّاهوت عِلماً لأنَّه السَّعي المُنضَبِط للمعرِفة بهدف توصيلها للنَّاس من قِبَل مجموعة من العُلَماء”.

صحيحٌ أنَّ الكتاب المقدَّس كُتِبَ عبر كُتَّاب بشَريِّين مُتعدِّدين إلَّا أنَّ الكاتب الرَّئيسي هو واحد “الرُّوح القدُس” الذي أرشدَ الجميع لكي يكتُبوا الرِّسالة الإلهيَّة للبشر، وبما أنَّ الكاتب واحد، فيجب أن يكون هناك تناسُقاً وانسِجاماً في الرِّسالة التي منها ندرُس الفُروع المختلفة لعِلم اللَّاهوت.

doctrine in arabic on orange background

فروع علم اللاهوت هي

  1. اللاهوت النظامي: هو فهم ما يقوله الكتاب المقدَّس بكامله حول تعليم واحد، مثلاً: إذا أردتَ الإجابة عمَّا يُعلِّمه الكتاب المقدَّس عن العِبادة، فيجب أن تدرُس ما يقوله الكتاب المقدَّس في كل مرَّة يتحدَّث فيها بشكل مباشر أو غير مباشر عن العِبادة. ومن خلال هذا الفرع نتعرَّف على ماهيَّة العقائد المسيحيَّة.

  2. اللاهوت التاريخي: هذا الفرع يهتمّ بدِراسة تطوُّر الفِكر اللَّاهوتي حول مُختلَف العقائد عبر تاريخ الكنيسة. لا أعني بكلمة “تطوُّر” أنَّ العقيدة تختلف بين عَصرٍ وآخَر، بل إنَّ مُصطَلحات جديدة تظهَر بُغيَة توضيح هذه العقيدة، وأيضاً تظهَر دِراسات أكثر تُقدِّم فهم أعمق للعقيدة.

  3. اللاهوت الكتابي: هدف هذا الفرع هو مُلاحظة تدرُّج الإعلان حول العقائد في مختلف أسفار الكتاب المقدَّس حيث يظهر الاندِماج والارتباط بين كل نصوص الكتاب المقدَّس ممَّا يؤكِّد أنَّ الرِّسالة في العهدين هي رسالة واحدة وشَهادة واحدة عن المسيح.

  4. اللاهوت التطبيقي: هو تفسير النُّصوص بُغيَة جعلها تتكلَّم اليوم، لكي نعرف كيف نحيا بحسب كلمة الله ونُطبِّقها في حياتنا اليوميَّة، بهدف العَيش طائعين لله وخاضعين لكلمته.

الوَعظ التَّفسيري يعتمِد على جميع فروع اللَّاهوت، لأنَّ الواعِظ يجب أن يبني تعليمه على العقيدة الصَّحيحة، مُستخدِماً مُصطلحات تبَلوَرَت عبرَ تاريخ الكنيسة، ومُلاحِظاً الارتباط بين النُّصوص المقدَّسة بهدف جعل الكتاب المقدَّس يُكلِّم المؤمنين لكي يعيشوا كما يليق بمَن دُعِيَ عليهم اِسم المسيح.

holy spirit in arabic

من يجب أن يدرس اللاهوت؟

يُعَنوِن آر. سي. سبرول كِتابه الذي يُلخِّص عِلم اللَّاهوت النِّظامي بِاسم “كُلُّنا لاهوتِيُّون”، والهدف من هذا العنوان هو القول بأنَّ كل مسيحي هو لاهوتي، فحتَّى أبسَط سؤال قد يُطرَح على المؤمن مثل (من هو يسوع؟) هو سؤال لاهوتي يتطلَّب الاندماج فكريّاً مع نصوص الكتاب المقدًّس للإجابة عليه. بإمكان أيّ شخص أن يدرُس الكتاب المقدَّس كدِراسة أكاديميَّة لكن ليس كل شخص بإمكانه أن يُدرك روعة الحقائق الرُّوحيَّة الكامِنة في كلمة الله ويسعى ليَحيا بها، لأنَّ الرُّوح القدُس هو المُرشِد والمُعلِّم الأوَّل الذي يقود المؤمن لكي يفهم الكتاب المقدَّس من خلال إرشاده للرِّسالة الرَّئيسيَّة والتي هي فداء وخلاص المسيح، ومن خلال استخدام الرُّوح القدُس لمُعَلِّمين بهدف قيادة المؤمن لفهم أعمق للنَّص الكِتابي.

  1. City of God. Augustine of Hippo.
  2. Institutes of Elenctic Theology. Francis Turretin, James T. Dennison, George Musgrave Giger.
  3. The Marrow of Theology. William Ames, John Dykstra Eusden.
  4. Thomas Aquinas’s Summa Theologiae. Thomas Aquinas.
  5. Reformed Systematic Theology, Volume 1: Revelation and God. Beeke, Joel, Smalley, Paul M.
  6. Everyone’s a Theologian. R.C. Sproul.


مقالات مُشابِهة

ماذا يعني اسم “المسيح”؟
ماذا عن الأناجيل الأخرى؟
كيف نعرف أن الله موجود؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.