كَشَفَ الله عن نَفسهِ في الكِتاب المُقدَّس بأنَّهُ قُدُّوس ويَكرَه الخَطيئة. ونحنُ البشَر الخُطاة نُخطِئ كُلّ يَوم. فكيفَ يجب علينا أن نَتوب إلى الله لكي نَنال الغُفران؟ هذا ما سنُناقشه في هذا المقال.
لا يُمكِن إرضاء الله بدون إيمان، هذا أمر واضِح في الكِتاب المُقدَّس. فالله يُهدي خَلاصه للبشَر من خِلال الإيمان، وذلك لأنَّهُ إله النِّعمة والرَّحمة. ولكن من المُهِمّ أن نُدرِك أنَّ من يُريد أن يأتي إلى الله من أجل الخَلاص، عليه أن يَمُرّ بخطوة تَسبِق الإيمان، لا بَل إنَّ هذه الخطوة هي التي تُحَضِّر الطَّريق للإيمان. وهذه الخطوة هي التَّوبة.
الكلمة المُستَخدَمة للتَّوبة في اللُّغة اليونانيَّة التي كُتِبَ فيها العَهد الجَديد من الكِتاب المُقدَّس تعني “تَغيير الفِكر”. ولكن بشَكل عَمَلي أكثَر، حتَّى يُغَيِّر الإنسان فِكره عليه أن يُدرِك أنَّ الفِكر الذي كانَ يَعتَنِقهُ هو خاطِئ ولذلك هُناكَ حاجة للتَّغيير. وعَمَلِيّاً ليسَت الأفكار وَحدها التي مُمكِن أن تكون خاطِئة بل التَّصَرُّفات التي تَتوَلَّد من خِلال أفكارنا.
إنَّ التَّوبة التي تَقود للإيمان هي تَوبَة انكِسار. يجب على الإنسان أن يُدرِك نَجاسَتهُ بالمُقارَنة مع الله الكُلِّيّ القَداسة.
إحدى الاِعتِراضات التي أُطلِقَت ضِدّ عَقيدَة الخَلاص بالإيمان وَحدهُ هي أنَّهُ من السَّهل على الإنسان أن يَدَّعي الإيمان بالمسيح وأن يُكمِل العَيش بالخَطيئة. ولكن الكِتاب المُقدَّس لا يَفصِل الإثنان عن بَعض، فالإنسان المُخَلَّص بالإيمان بالمسيح هو شَخص قَد انكَسَرَ وتابَ أمامَ الله عن خَطيئتهِ.
التوبة هي انكسار
إنَّ الله لا يَرفُض القَلب المُنكَسِر، وفي المَثَلين التَّالِيَين من الكِتاب المُقدَّس سَوف نرى رَجُلان يَنكَسِران بالتَّوبة أمامَ الرَّب.
تَوبَة داوُد المَلِك:
في المَزمور 51 يكتُب المَلِك داوُد إحدى أشهَر صَلَوات التَّوبة وأكثَرها جَمالاً في الكِتاب المُقدَّس.
فيَبدأ داوُد مَزموره بالجُملة التَّالِية: “ارْحَمْنِي يَا اللهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ، وَامْحُ مَعَاصِيَّ حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ.” فهو يَطلُب من الله الرَّحمة، ليسَ لأنَّهُ هو يَستَحِقّ الرَّحمة، بل العَكس، يَطلُبها من الله لأنَّ الله رَحوم. يُكمِل داوُد ويَعتَرِف بخَطاياه أمام الرَّب بجُملة مُدهِشة جِدّاً: “إِلَيْكَ وَحْدَكَ أَخْطَأْتُ، وَالشَّرَّ قُدَّامَ عَيْنَيْكَ صَنَعْتُ.” وهذا تَصريح مُفاجِئ لأنَّنا إن قرَأنا عن خَطيئَة داوُد في سِفر صَموئيل النَّبي، لَاكتَشَفنا أنَّ داوُد في الحَقيقة قد ارتَكَبَ الخَطيئة ليسَ بشَكل مُباشَر ضِدّ الله بل قامَ بفِعل الزِّنى مع امرَأَة أحَد جُنودهِ، وبعدَ أن عَرفَ أنَّها حَبِلَت مِنهُ، قامَ بقَتل زَوجها!
إنَّ الله لا يَرفُض القَلب المُنكَسِر
ولكن إن كُنَّا نُدرِك ولو القَليل عن قَداسَة الله، لكُنَّا قد فَهِمنا صَلاة داوُد. فالله هو قُدُّوس مُطلَق، وهذا القُدُّوس المُطلَق بعدَ أن خلقَ الإنسان وَضَعَ لهُ بعض الوَصايا وأوصاهُ بأن يَحفَظها ويعيش بحَسبِها لكي يكون سَعيداً. فإنَّ كُلّ خَرق لهذه الوَصايا أو كُلّ عِصيان لها وعَدَم طاعَتها يُعتَبَر تَمَرُّد صَريح على من وَضَعَها من الأساس، أي الله. يُسَمِّي اللَّاهوتي آر سي سبرول هذا التَّمَرُّد “خِيانة كَونِيَّة” أي أنَّنا نَقوم بخِيانَة سَيِّد الكَون!
فبعدَ أن أدرَكَ داوُد أنَّ خَطيئَتهُ كانَت ضِدّ سَيِّد الكَون ومَلِكه، أثقَلَهُ حِمل الخَطيئة وفاضَ قَلبهُ بالتَّوبة والاِنكِسار أمامَ الرَّب طالِباً منهُ الغُفران لأنَّهُ كَثير الرَّحمة.
توبة العشّار:
أخبَرَ الرَّب يسوع تَلاميذهُ بمَثَل في إنجيل لوقا 9:18-14
وأخبَرَهُم فيهِ عن رَجُلانِ صَعِدا إلى الهَيكَل ليُصَلِّيا، أحَدهُم فَرِّيسِيّ والآخَر كانَ عَشَّاراً. فصَلَّى العَشَّار بتَكَبُّر وقال: “أَشْكُرُكَ، يَا اللهُ، لأَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي النَّاسِ الطَّمَّاعِينَ الظَّالِمِينَ الزُّنَاةِ، وَلا مِثْلَ جَابِي الضَّرَائِبِ هَذَا: أَصُومُ مَرَّتَيْنِ فِي الأُسْبُوعِ، وَأُقَدِّمُ عُشْرَ كُلِّ مَا أَجْنِيهِ!” وبِصَلاتهِ هذه، أظهَرَ الفَرِّيسِيّ بِرَّهُ أمامَ الله وأخَذَ يَمدَح نَفسهُ ويَشكُر الله لأنَّهُ ليسَ كَباقي النَّاس.
“وَلكِنَّ جَابِيَ الضَّرَائِبِ، وَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ وَهُوَ لَا يَجْرُؤُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ صَدْرَهُ قَائِلاً: ارْحَمْنِي، يَا اللهُ، أَنَا الْخَاطِئُ!” أمَّا جابي الضَّرائِب، فبَقِيَ بَعيداً وصَلَّى بتَوبة لله أن يَرحَمهُ لأنَّهُ خاطِئ.
يؤكِّد لنا الرَّب يسوع من هذا المَثَل أنَّ الثَّاني (العَشَّار) هو من غُفِرَت خَطاياه. “أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هَذَا الإِنْسَانَ نَزَلَ إِلَى بَيْتِهِ مُبَرَّراً، بِعَكْسِ الآخَرِ. فَإِنَّ كُلَّ مَنْ يُرَفِّعُ نَفْسَهُ يُوضَعُ؛ وَمَنْ يَضَعُ نَفْسَهُ يُرَفَّعُ.”
انكَسَرَ العَشَّار تحتَ ثِقل الخَطيئة وأدرَكَ نَجاسَتهُ أمامَ الله لدَرَجَة أنَّهُ كانَ “لَا يَجْرُؤُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ!” وهذا الاِنكسار هو ما يُرضي الرَّب.
التوبة، هل هي ضرورية للخلاص؟
يتكلَّم الكِتاب المُقدَّس عن “التَّوْبَةِ لِنَوَالِ الْحَيَاةِ” (أعمال الرسل 18:11) ولهذا السَّبَب وَعَظَ بولُس عن “أَنْ يَتُوبُوا إِلَى اللهِ وَيُؤْمِنُوا بِرَبِّنَا يَسُوعَ.” (أعمال الرسل 21:20) حتَّى أنَّ أُولى وَصايا الرَّب يسوع في خِدمَتهِ كانَت: “تُوبُوا، فَقَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ!”
فبِلا تَوبة حَقيقيَّة من قَلبٍ مُنكَسِر، لا يَحدُث الخَلاص، فيقول بولُس في رِسالتهِ الثَّانِية إلى تِلميذهِ تيموثاوُس: “لِيَنْفَصِلْ عَنِ الإِثْمِ كُلُّ مَنْ يُسَمِّي اسْمَ الرَّبِّ!”
الخاتمة
يُنهي داوُد مَزموره بهذه الكَلِمات: “إِنَّ الذَّبَائِحَ الَّتِي يَطْلُبُهَا اللهُ هِيَ رُوحٌ مُنْكَسِرَةٌ. فَلَا تَحْتَقِرَنَّ الْقَلْبَ الْمُنْكَسِرَ وَالْمُنْسَحِقَ يَا اللهُ.” فالله قُدُّوس، ونحنُ خُطاة. هذه هي حَقيقَة هذه الحَياة، ولكنَّ الله رَحوم ولا يَرفُض كُلّ من يأتي إليهِ بالتَّوبة وبقَلبٍ مُنكَسِر بسَبب ثِقل خَطاياه. فهو يقول: “تَعَالَوْا إِلَيَّ يَا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ، وَأَنَا أُرِيحُكُمْ.”
الكاتب: الأخ كمال
Minister & Theologian
- The Holiness of God. R.C. Sproul.
- The Evidence Bible. Ray Comfort.
مقالات مُشابِهة
ماذا يعني أن يسوع هو رئيس كهنتنا؟
من هو يسوع؟
الأساسيات في المسيحية