Name of God in many languages

نُقدِّم لكم في هذا المقال بحثاً في تاريخ الكتاب المقدس لكي نعرف مدى إمكانية استخدام المسيحيين لاسم الله.

أعلن الرب عن نفسه في الكتاب المقدس بأسماء عديدة، لكن لماذا لا يستخدم مُترجمو الكتاب المقدس أسماءه التي أعلنها بنفسه بدل الأوصاف التي تُطلق عليه في كل لغة؟ وفي اللغة العربية مثلاً، لماذا ترجموا اسمه إلى “الله” ولم يحتفظوا بالاسم “يهوه”؟

لطالما استخدمت الترجمات العربية اِسم “الله”، والترجمات الإنجليزية اِسم “God”، أمَّا الترجمات الأوروبِّية فاستخدمت الاسم المُشتق من اللاتينية “Deus” بحسب ما يتوافق مع نطقها المعاصر، وجميعها كانت أسماء لآلهة وثنية. لكن تظهر في أيَّامنا هذه بعض الأصوات القليلة الرافضة لترجمة اِسم “يهوه” إلى “الله” لأسباب عديدة أبرزها أنه كان اسماً وثنيّاً عند العرب قديماً وأنّه بتعريفه الحالي مختلف عن الإله المسيحي.

هذا الاعتراض خارج عن المألوف ولا يجد قبولاً في الأوساط المسيحية السائدة، لكن بكل الأحوال من المفيد تسليط الضوء عليه لمساعدة من قد يطرح تساؤلات حوله. وسأُقدِّم تالياً دليلين حاسمين يدعمان فكرة استخدام اِسم “الله” من قِبل المسيحيين، وهما:

  1. دليل من تاريخ الكتاب المقدس.
  2. دليل من طبيعة إعلان الله عن نفسه.

1. دليل من تاريخ الكتاب المقدس

شهدت فترة “ما بين العهدين” ترجمة العهد القديم إلى الآرامية، واحتُفظ بأقدم نَص آرامي يحتوي على أجزاء من الكتاب المقدس في مخطوطات قمران، ويعود إلى منتصف القرن الثاني قبل الميلاد.¹

لكن التحدي الأكبر لم يكن في الآرامية، بل في الترجمة إلى اليونانية. إذ سعى الملِك بطليموس، حاكم مصر، إلى إثراء مكتبة الإسكندرية بنسخة يونانية من التوراة. وقد قوبِل هذا المشروع برفض من اليهود المحافظين الذين اعتبروا أنَّ نَقل النَّص الإلهي إلى لغة وثنية يمسّ قُدسيَّته، تماماً كما يعترض البعض اليوم على استخدام لفظ “الله” بدلاً من “يهوه”، مُتذرِّعين بأنَّ الاسم اليوناني كان يُستخدم لوصف آلهة وثنية.

غير أنَّ اليونانية، بوصفها لغة فلسفية وعالمية، لم تملك المعادل الدقيق لكثير من المفاهيم العبرية العميقة. فكلمة “كفَّارة” مثلاً، التي تعني “الستر”، ليس لها مقابل دقيق في اليونانية، بل يُستخدم بدلاً منها مصطلح يُشير إلى استرضاء إله غاضب، وهو مفهوم شائع في الديانات الوثنية.² وهذا مجرَّد مثال من أمثلة كثيرة على الصعوبة في الترجمة.

ومع ذلك، فإنَّ الترجمة السبعينية (النسخة اليونانية من العهد القديم) كانت هي المُعتمدة من قِبل كُتَّاب العهد الجديد، إذ أنَّ أكثر من 90% من اقتباساتهم جاءت منها. بل إنَّها كانت الخلفية اللغوية للعهد الجديد كله، حيث كُتبت كل أسفاره باليونانية، اللغة التي كانت الوسيلة العالمية للتخاطُب آنذاك، مع إدراج محدود لكلمات آرامية ولاتينية.

ومن هنا، فإن كُتَّاب العهد الجديد أنفسهم استخدموا اِسم “الله” بصيغته اليونانية، وهي ذات الصيغة التي استخدمها أفلاطون في وصف “إله” يفتقر إلى الشخصية والعقلانية كما في فلسفته، إله يختلف تماماً عن الإله الحي المذكور في الكتاب المقدس. ومع ذلك، لم يتحفَّظ كُتَّاب الوحي على استخدام هذا الاسم، بل أعادوا توجيهه لمعناه الحق.

إذاً، إن كان الرُّسل قد استخدموا أسماء مألوفة في ثقافة شعوبهم لنَقل الإعلان الإلهي، أفلا يحقّ لنا أن نستخدم الاسم المعروف لله في أيّ ثقافة نعيش فيها ما دام المحتوى اللاهوتي محفوظاً؟ وإن كان رفضُك لاستخدام اِسم “الله” بدلًا من “يهوه” نابعاً من خوف على القُدسيَّة، فعليك أن ترفض العهد الجديد بأكمله لكي تكون مُتَّسقاً في تطبيقك لمنهجك التفسيري لأنه في العهد الجديد اسم “يهوه” مترجم أيضاً، فإعلانه تمَّ بلُغة وثقافة مُستعارة ثم مُجدَّدة. وهكذا تمَّت ترجمة اِسم “يهوه” من العبرية إلى العالم.

درس من سفر دانيال عن الموضوع

هذا ليس أقدَم مثال عن ترجمة اِسم “الله”، بل هناك مثال من العهد القديم نفسه وتحديداً في الإصحاح الثاني من سِفر دانيال. في سِفر دانيال أجزاء كُتبت باللغة الآرامية، وهي اللغة التي جعلها الفُرس اللغة شِبه الرَّسمية آنذاك. في الإصحاح الثاني من سِفر دانيال يتم ترجمة اِسم “يهوه” إلى الإسم الآرامي للإله الأسمى “إله السَّماوات” مع العلم أنَّ الحرف الذي كُتب به هو العبري نفسه. كان يمكن لدانيال أن يُبقي على اِسم “يهوه”، لكنَّه استخدم مكانه اِسم الله المعروف بالآرامية الوثنية. هذا يعطينا لمحة عن كيفية عمل الكتاب المقدس التبشيري وسط تلك الشعوب، لكي يُعلِّمنا كيف نقوم بالعمل التبشيري وسط الشعوب المعاصرة. العبرة هنا هي أنَّه من خلال رفضكم ترجمة اِسم “يهوه”، تجعلون يهوه يُشبه أكثر “الإله الذي ترفضونه”.

الله

2. طبيعة إعلان الله عن نفسه

الله في الكتاب المقدس يتكلَّم بلُغة الناس، حتى لو تطلَّب ذلك إعلاناً إلهياً في سياقٍ وثنيّ، ففي العالم القديم لم يكن هناك “فراغ ثقافي” يستطيع فيه الله أن يقدِّم نفسه خارج أيّ خلفية مشتركة بين شعبه والشعوب الأخرى. كل شعب كان يعيش ضمن إطار مرجعي ثقافي مليء بالآلهة، الأساطير، الطقوس، والمصطلحات. لذلك فإنَّ الله في العهد القديم، وهو الإله الحق، لم يختر أن يتحدَّث بلُغة غريبة تماماً عن البشر، بل اقترب إليهم في لُغتهم الثقافية، واستخدم مفاهيم مألوفة لديهم، ولكنَّه قلَبها رأساً على عقب ليُعلن ذاته بوصفه الإله الفريد.³ هذا الموضوع واسع جداً، لكني سأختصره ببعض الأمثلة:

تعدُّد الأسماء والألقاب

كما في “إنوما إيليش” (أي أسطورة الخلق البابلية) حيث يُكرَّم “مردوخ” (الإله) بخمسين اِسماً، هكذا نرى في العهد القديم أنَّ الله يُسمَّى بأسماء وأوصاف متعدِّدة: يهوه صباؤوت، إيل شدَّاي، إيل عليون، الرَّبُّ راعيَّ، حجر الزاوية، النَّار الآكِلة، السُّور، البِرّ، إلخ. هذه الألقاب لا تعني تعدُّداً في هوية الله، بل هي وسيلة لإبراز أوجُه مختلفة من شخصيته في لُغة مألوفة للشعوب القديمة، الذين كانوا يعتقدون أنَّ كثرة الأسماء تدل على عظمة الإله وسُلطته المتعدِّدة.

المجاز الرمزي المتأصِّل في البيئة الوثنية

عندما يُوصف الله مثلاً بأنَّه “قرنُ خلاصي” (مزمور 2:18)، فالسِّياق هنا مرتبط بصورة مألوفة لدى سُكَّان الشرق الأدنى القديم، حيث ترمز القرون إلى القوة والهيبة. في الرُّسومات الآشورية والبابلية، كثيراً ما تظهر الآلهة والملوك وهم يرتدون تيجاناً بقرونٍ متعدِّدة، رمزاً للسُّلطان. الله يستخدم هذه الصورة لكن لا لكي يَظهر كإله مثل باقي الآلهة، بل ليُفهم الشعب أنَّ سُلطانه يفوق الجميع.⁴

الله كالقاضي العادل

فكرة الإله القاضي كانت مألوفة جداً، خصوصاً مع إله العدل عند البابليين، الإله شمش، في بلاد ما بين النَّهرين، أو آمون رع في مصر. لكنَّ الله في العهد القديم لا يعرض نفسه كقاضٍ فحسب، بل يُبيِّن أنَّه قاضٍ لا يُرتشى (أي بعكس الآلهة الوثنية)، ويقف إلى جانب الأرملة واليتيم والغريب، أي الفئات التي عادةً ما تكون مُهمَّشة في المجتمعات. الله لا يستخدم الأسلوب الرمزي فحسب، بل يُغيِّره لصالح العدالة الحقيقية.

الله في العهد القديم لم يُعطِ إعلاناً فارغاً من السِّياق التاريخي، بل قدَّم نفسه كإلهٍ واحد، قدُّوس، قوي، عادل، لكن بلُغة الناس، وبصورهم الثقافية، ليقودهم بالتدريج نحو النور الحقيقي. لم يكُن يتبنَّى الوثنية، بل كان يستخدم رموزها لهدمها من الداخل. وإن كان الله نفسه استخدم هذه الأمور، فلا يوجد ضرر في أن نستخدمها نحن.

نقطة أخيرة مهمة

أقدَم ترجمة عربية للكتاب المقدس تعود إلى ما بعد ظهور الإسلام، وتحديداً القرن الثامن الميلادي،⁵ وقد استخدم فيها المترجمون اِسم “الله” و”يسوع” دون تردُّد، رغم أنَّ كلمة “الله” كانت تُستخدم في السِّياق الديني الوثني ثم الإسلامي، كما أنَّ العديد من المصطلحات الكتابية التي يستخدمها المسيحيون العرب آتية من التُّراث الإسلامي، الذي بدوره أخذها من المسيحيين السريان.

إنَّ الحجَّة ذاتها التي تُستخدم لرفض ترجمة اِسم “يهوه” إلى “الله”، تُستخدم أيضاً ضد ترجمة اِسم “يسوع” إلى لُغات الشعوب، وهو ما نراه عند من يُصِرُّون على استخدام الاسم العبري “يشوع” حصرياً. لكن التاريخ نفسه يفضح هذا الاعتراض، كما أشرنا سابقاً.

لكن جوهر الإيمان المسيحي لا يكمن في الحروف، بل في الشخص الموصوف بها. فحتى لو اختلفت الأسماء وتنوَّعت، ما دام الوصف يُشير إلى ذات الكائن الإلهي المُعلَن في المسيح، أي الإله الواحد الحي، الفادي، القائم من بين الأموات، فإنَّ الاختلاف في التَّسمية لا ينقض وحدة الجوهر. رفض الأسماء المترجمة هو رفض ضمني لإمكانية إعلان الله عن ذاته بلُغة الإنسان، وهذا يُناقض التجسُّد نفسه، حيث “الكلمة صار جسداً وحلَّ بيننا.”


مقالات مُشابِهة

ما هو التحقق (النقد) النصي؟
آيات عن الثالوث
هل ترك الله السماء عند التجسد؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.