صورة لولادة المسيح، عيد الميلاد

قد تكون سمعت عن عيد الميلاد بأنَّه الاحتفال بذكرى ولادة المسيح، لكن هل تساءلتَ يوماً لماذا هذا العيد مهمّ إلى هذا الحد عند المسيحيين؟ ستجد الإجابة في هذا المقال.

قام العديد من اللَّاهوتيين عبر التّاريخ بشرح مفصَّل لإحدى صفات الله التي تسمَّى بالإنجليزية Impassibility وتُعَرَّف على أنَّ الله بحُكم التَّعريف مُنزَّه عن الأحاسيس البشريَّة التي تنمّ عن ضعف في الطَّبيعة البشريَّة. على سبيل المثال نقول: إنَّ الله لا يمكن أن يحزن كما البشر، ولا يغضب كما نغضب نحن، ولا يتأذَّى كما يحصل لنا، فهذه صفات نَقص لا يمكن نَسبها لله. نحن نحزن ونغضب بسبب عجزنا وضعفنا عن تغيير الأحوال، ونتأذَّى لأنَّنا كبشر معرَّضين للأذيَّة. لكن عندما يصف الكتاب المقدَّس صفات بشريَّة لله كالحزن والغضب، فهو يستخدم في ذلك لُغة تشابهيَّة من الاختبار البشري لكي يعلِّمنا حقيقة روحيَّة من خلال أمر نألَفه في بشريَّتنا عن الله خلال تعاملاته مع البشر. لكن هذا لا يعني أنَّ هذه الطَّريقة في توصيل الرِّسالة لنا هي كذبة تحمل في طيَّاتها الحقيقة، لأنَّ صفة Impassibility في المفهوم المسيحي لا تعني أنَّ الله مجرَّد بشكل كُلِّي من المشاعر، بل أنَّ مشاعره مختلفة عن مشاعر البشر وتسمو عليها، فكل أحاسيسنا واختباراتنا هي نتيجة الضّعف والعجز والمحدوديَّة لأجسادنا، الأمر الذي لنا دور رئيسي فيه، بسبب السُّقوط، فنحن نعيش في الأرض الملعونة بسبب خطايانا.

لكن إحدى أروع أسرار الإيمان المسيحي، أنَّ اِبن الله تجسَّد! وعندما أقول سِرّ، فهو في المفهوم المسيحي يعني أمراً مُعلَناً جزئيّاً وواضحاً إلى حدٍّ ما، لكن لا يمكن فهمه بالكامل، وإن كان بإمكاننا فهم كل شيء عن الله، فهذا لا يعني تعظيماً لقُدرة الطَّبيعة البشريّة على الفهم، بل تصغيرٌ لماهيَّة الله، فبمجرَّد كَون الله هو الخالق السَّامي والعَلِيّ، هذا يجعله بحُكم التَّعريف خارج قُدرة البشر على فهم طبيعته بالكامل.

incarnation in arabic

السر العظيم

يبدأ إنجيل يوحنَّا بالحديث عن “الكلمة”، في اليونانية λόγος “لوغوس” والتي كانت تعني باليونانيَّة “القانون الذي يجمع كل عناصر هذه الحياة ويقودها نحو غايتها”. وكما حال الكثير من الكلمات اليونانيَّة حمَّلَ المسيحيُّون هذه الكلمة معنىً إضافيّاً وتعريفاً فيه بعض التَّعديلات بحسب القصد النَّابع من الخلفيَّة اليهوديَّة للمسيحيَّة بأنَّ اللوغوس هي كلمة الله الأزليَّة المُوجِدة للخلق، والتي تحمل كل الخليقة وتجمع كل الأشياء إلى غايتها. “الكلمة” في هذا السِّياق تُشير لشخص المسيح، لذلك تتحدَّث عنها التَّرجمات العربيَّة بصِفتها “مُذكَّراً”. يقول إنجيل يوحنّا في بدايته عن الكلمة:

“فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ. وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهُ. هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. بِهِ تَكَوَّنَ كُلُّ شَيْءٍ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَتَكَوَّنْ أَيُّ شَيْءٍ مِمَّا تَكَوَّنَ. فِيهِ كَانَتِ الْحَيَاةُ. وَالْحَيَاةُ كَانَتِ نُورَ النَّاسِ. وَالنُّورُ يُضِيءُ فِي الظَّلاَمِ، وَالظَّلاَمُ لَمْ يُدْرِكْ النُّورَ. ظَهَرَ إِنْسَانٌ أَرْسَلَهُ اللهُ، اسْمُهُ يُوحَنَّا، جَاءَ يَشْهَدُ لِلنُّورِ، لِكَيْ يُؤْمِنَ الْجَمِيعُ بِوَاسِطَتِهِ. لَمْ يَكُنْ هُوَ النُّورَ، بَلْ كَانَ شَاهِداً لِلنُّورِ، فَالنُّورُ الْحَقُّ الَّذِي يُنِيرُ كُلَّ إِنْسَانٍ كَانَ آتِياً إِلَى الْعَالَمِ. كَانَ فِي الْعَالَمِ، وَبِهِ تَكَوَّنَ الْعَالَمُ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ الْعَالَمُ.” (إنجيل يوحنَّا 1:1-10)

لكن الكاتب في هذا الإصحاح يصل إلى حَدّ تتغيَّر فيه الأمور كلّها وتأخذ منحىً مفاجئاً، إذ يقول:

“وَالْكَلِمَةُ صَارَ بَشَراً” (إنجيل يوحنَّا 14:1)

الكلمة صارَ جسداً، صارَ بشراً، تجلَّى في جسد بشري، والغريب أنَّ يوحنَّا لا يستخدم الكلمات اليونانيَّة الاعتياديَّة للحال التي صارت عليه الكلمة، فهو لا يقول إنَّ الكلمة صارَ ἄνθρωπος أي إنسان، ولا يقول إنَّه صارَ ἀνδρὸς أي رَجُل، مع العِلم أنَّ الكلمة صارَ إنساناً وصارَ رَجُلاً، لكنَّه يستخدم الكلمة التي تشير إلى الضّعف في الجانب البشري σάρξ أي جسد، ليُظهِر الكاتب قوَّة التَّباين بين الفكرتين “الكلمة الخالق، صارَ بشراً”. الله الذي تُميِّزه عن البشر صفة Impassibility صارَ بشراً ليختبِر في هذا الجسد عمق معاناة الضّعف البشري في بستان جُثسيماني وفي الجُلجثة على الصَّليب.

نكرز بالمسيح المصلوب!

قد تبرز حساسيَّة دينيَّة ورفض عند البعض عندما يسمعون أحد المسيحيِّين يقول إنَّ اِبن الله تجسَّد، وهذه الحساسيَّة تظهر عبر رَدّ فِعل عاطفي يقول فيه الشَّخص مباشرةً: “أستغفر الله”. السَّبب الأوَّل لهذا الرَّفض هو سوء فهم بنوَّة المسيح لله، وهذه ما تحدَّثنا عنها في مقال آخر1. أمَّا السَّبب الثَّاني فهو بقصد تنزيه الله من فكرة أنَّه تجلَّى في جسد بشري وعاش بين النَّاس. هدف هؤلاء تنزيه الله، لكن وفيما هم يقومون بذلك يجعلون من الله أسيرَ نفسه! في الواقع هذا الاعتراض ليس جديداً على المسيحيَّة، فمن أيَّام بولُس الرَّسول كانت هكذا اعتراضات تظهر على رسالة الإنجيل من بعض اليهود، لأنَّ بولُس وجميع المسيحيِّين كانوا يكرِزون بإلهٍ مصلوب، بمسيحٍ مصلوب، وهذا ما لم تقبَله عقول البعض، لذلك عبَّر بولُس عن صعوبة هذه الكِرازة بالقول:

“وَلكِنَّنَا نَحْنُ نُبَشِّرُ بِالْمَسِيحِ مَصْلُوباً، مِمَّا يُشَكِّلُ عَائِقاً عِنْدَ الْيَهُودِ وَجَهَالَةً عِنْدَ الأُمَمِ” (رسالة كورنثوس الأولى 23:1)


هدف هؤلاء تنزيه الله، لكن وفيما هم يقومون بذلك يجعلون من الله أسيرَ نفسه!


هذه البِشارة التي اعتبرها اليهود عثرةً وعائقاً، واعتبرها اليونانيُّون جَهالة، لكن وفي الفترة التي كانت تسود عليها سيطرة فكريَّة من اليهود واليونانيِّين، انتشرت المسيحيَّة كالنَّار في الهشيم في القرون الثَّلاث الأولى للميلاد، دون حروب أو غزوات، دون سيف أو قتل، دون غنائم أو سبايا، بل بشكلٍ مُحيِّر بحسب المؤرِّخين، إذ لا يستطيع أحد منهم أن يقدّم تفسيراً منطقيّاً يوضِّح كل الحقائق لانتشار المسيحيَّة في بداياتها. زِد على ذلك، الهجومات الفكريَّة على المسيحيَّة ومحاولات الاضطِهادات المتفرِّقة في القرن الأوَّل والثَّاني، ومحاولات إبادة المسيحيِّين في القرن الثَّالث من قِبَل ثلاثة أباطرة رومان هم: ديسيوس، فاليريان، وديوقلديانوس، حيث تعرَّض المسيحيُّون في تلك الحقبة لأبشع أنواع التَّعذيب، وصمَدوا أمام جميع أنواع الاضطِهادات.

لم يتوانَ رُسل المسيح الأوائل عن الكِرازة بالمسيح المُقام، بالرّغم من أنَّهم عُذِّبوا، ضُرِبوا، هُدِّدوا، ثمَّ قُتِلوا جميعهم في النِّهاية من أجل شهادتهم، فأيّ مجموعة تقبل أن تفعل كل ذلك من أجل كذبة لفَّقتها هي بنفسها؟ وكيف للرُّسل أن يتركوا هذا التَّأثير العظيم ويتحمَّلوا الاضطِهادات وينشروا الإيمان بالمسيح المصلوب؟ التَّفسير الوحيد لذلك هو أنّهم يقولون الحقيقة، لأنَّهم شاهَدوا المسيح المُقام بأُمّ أعيُنهم، ومن خلال كِرازتهم كان الرُّوح القدُس يهدي النُّفوس للخلاص. هذه الشَّهادة كانت وستبقى أساساً لإيمان الكثيرين، والرُّوح القدُس لا يزال يعمل في قلوب النَّاس بالرّغم من وجود اضطهادات في بعض البلدان لا تقِلّ قسوة عن تلك التي تعرَّض لها المسيحيُّون الأوائل، إلَّا أنَّنا لا نزال نجد في هذه البلدان مسيحيِّين يحتفلون بذكرى ميلاد المسيح، الكلمة الذي صارَ بشراً.

الكاتب: الأخ فرح

Minister & Theologian


مقالات مُشابِهة

آيات عن عيد الميلاد
ما هو عيد الشعانين؟
تأملات عيد الميلاد: عيون الإيمان


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.