يؤمن المسيحيُّون أنَّ المسيح هو اِبن الله، لكن ماذا تعني هذه العبارة؟ هذا ما سنُفسِّره في المقال التَّالي.
استُخدِمت تسمية “اِبن الله” في مواضِع مختلفة من الكتاب المقدَّس وبأكثر من معنى في العهدين القديم والجديد، فالملائكة دُعيوا أبناء الله (أيُّوب 6:1) كَونهم خليقة الله وخُدَّامه وذَوي طبيعة سامِية، الأُمَّة اليهوديَّة في العهد القديم وصفَها الرَّب بأنَّها ابنهُ (هوشع 1:11) لتبيان العلاقة المميَّزة بين الله وشعبه، والملِك الممسوح من الله قال عنه الوَحي أنّه اِبن الله لأنَّه كان يُمثِّله أمام الشَّعب أيضاً (صموئيل الثَّاني 14:7). قال النَّبي هوشَع عن العهد الجديد أنَّ الأُمَم الذين لم يكونوا في عهدٍ مع الرَّب سوفَ ينضَمُّون إلى الشَّعب اليهودي ليُصبحوا جميعاً أبناء الله:
“… وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فِيهِ: أَنْتُمْ لَسْتُمْ شَعْبِي، يُقَالُ لَهُمْ: أَنْتُمْ أَبْنَاءُ اللهِ الْحَيِّ.” (سِفر هوشَع 10:1)
تُتمَّم هذه البنوَّة في رسالة المسيح الخَلاصيَّة التي تجمع كل الأُمَم (روما 24:9-26) كي يُعطوا امتيازاً أن يكونوا أبناء الله من خلال إيمانهم بالمسيح يسوع (غلاطية 26:3)، ويُدعون أبناءً لله لوَصف العلاقة الخاصَّة بينهم وبين الآب السَّماوي، ومهمَّتهم هي أن يعكِسوا صورة المسيح في العالَم، وامتيازهم كأبناء أنَّهم سيكونون ورَثةً للمواعيد (غلاطية 29:3).
مفهوم الأبوَّة والبنوَّة يُستخدَم أيضاً في عدَّة جوانب، مثلاً قيل عن يوبال أنَّه أبو كل ضارِب بالعود والمزمار (التَّكوين 21:4)، هذا يعني أنَّه المؤسِّس لهذا الفَنّ وليس الأب الجسدي لكل من يعزف على هذه الآلات. نقول أحياناً عن شخص يتصرَّف بطريقة تُعبِّر عن بيئتهِ أنَّه اِبن هذه البيئة، فقد قال الرَّب يسوع عن الفرِّيسيِّين أنَّهم أبناء إبليس لأنَّهم لم يعمَلوا أعمال الله بل كانت أفعالهم شرِّيرة مُشابِهة لأعمال إبليس (يوحنَّا 44:8)، ونقول عن الشَّخص الذي ينتمي إلى بلدٍ ما بأنَّه اِبن هذا البلد ونُسمِّي هذا الانتماء “بنوَّة انتسابيَّة”.
نلاحظ إذاً أنَّ مفهوم البنوَّة بشكلٍ عام يُستخدَم كاستِعارة في حالات مختلفة، ومفهوم (البنوَّة لله) المُستخدَم في الكتاب المقدَّس يحمل أوجهاً عدَّة، وسنوضح أيضاً أنَّ بنوَّة المسيح لله هي أبعَد ما يكون عن البنوَّة البيولوجيَّة كما يتَّهِمنا البعض، فلا أحد من المسيحيِّين فَهِمَ الأبوَّة والبنوَّة في الكتاب المقدَّس على أنَّها بيولوجيَّة بمعنى أنَّ الله اتَّخذَ لهُ ولَداً أو تزَّوجَ وأنجَب (حاشا له)، فهذا فهم سطحي لبنوَّة المسيح لله ولا يُعبِّر أبداً عن أيّ معرفة لما يؤمن به المسيحيُّون.
فلا أحد من المسيحيِّين فَهِمَ الأبوَّة والبنوَّة في الكتاب المقدَّس على أنَّها بيولوجيَّة
بنوة المسيح لله
“بيتر جينتري” أحد عُلَماء العهد القديم يقول بعد دراسته للحضارات الشَّرق أدنَويَّة القديمة عن استخدامات كلمة (اِبن) التَّالي: “في النِّظام الاقتصادي البدائي الذي يعتمد بشكل رئيسي على الزِّراعة كان يتمّ توارُث العمل ضمن العائلة الواحدة، وبهذه الطَّريقة كان الاِبن يقوم بنفس عمل أبيه، إضافةً إلى أنَّه كان من المُتوقَّع من الاِبن أن يُظهِر نفس خصائص الأب في التَّعامل التِّجاري والعمل. لذلك مُصطلَح (اِبن) كان يُستخدَم بمعنى أن يحمل الإنسان نفس صِفات أبيه”.1 ومن خلال نظرة بسيطة إلى التَّاريخ نرى أنَّ هذا الأمر كان لا يزال ساري المفعول في القرن الأوَّل الميلادي وأيضاً حتَّى أيَّامنا هذه في بعض المجتمعات، وذلك يوضح لنا لماذا أرادَ اليهود قتل المسيح بعدما صنعَ معجزة شفاء مريض بيت حِسْدا في يوم السَّبت حين قال لهم:
“وَلكِنَّ يَسُوعَ قَالَ لَهُمْ: «مَا زَالَ أَبِي يَعْمَلُ إِلَى الآنَ. وَأَنَا أَيْضاً أَعْمَلُ!»” (إنجيل يوحنَّا 17:5)
هذا يُفسِّر أيضاً فَهم اليهود لقَول المسيح بأنَّه بهذا التَّصريح يُعادِل نفسهُ بالله:
“لِهَذَا ازْدَادَ سَعْيُ الْيَهُودِ إِلَى قَتْلِهِ، لَيْسَ فَقَطْ لأَنَّهُ خَالَفَ سُنَّةَ السَّبْتِ، بَلْ أَيْضاً لأَنَّهُ قَالَ إِنَّ اللهَ أَبُوهُ، مُسَاوِياً نَفْسَهُ بِاللهِ.” (إنجيل يوحنَّا 18:5)
فَهِم اليهود حينها أنَّ تصريح المسيح لم يكُن الإعلان عن البنوَّة بالمفهوم الاعتيادي المعروف لديهم، بل أدرَكوا أنَّه يُعلِن بنوَّة خاصَّة. صحيح أنَّ كِتابهم تحدَّث عن هذه البنوَّة، لكنَّهم لم يستطيعوا رَبطها بالمسيح بسبب غَلاظة قلوبهم وأعمالهم الشِّرِّيرة، في حين أنَّ الذين آمَنوا من اليهود فَهِموا هذه الحقائق المُعلَن عنها من الأنبياء. فقد قال إشَعياء النَّبي عن المسيح المُنتظَر:
“لأَنَّهُ يُوْلَدُ لَنَا وَلَدٌ وَيُعْطَى لَنَا ابْنٌ يَحْمِلُ الرِّيَاسَةَ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ السَّلاَمِ.” (سِفر إشَعياء 6:9)
في هذه الآية رَبطَ إشَعياء بنوَّة المسيح لله بكَونه إلهاً، وفي ظِل التَّوحيد اليهودي فإن هذا الإله لا يمكن أن يُعتبَر سوى بأنَّه الله نفسه. هذا ما يوضحه لنا العهد الجديد عبر الإشارة إلى وجود علاقة أزَليَّة ضمن الوحدانيَّة الإلهيَّة والتي يُعبَّر عنها بالآب والاِبن والرُّوح القدُس (الثَّالوث الأقدَس).
الخُلاصة هي أنَّ الأنبياء الذين تنبَّأوا بمجيء المسيح قالوا عنه بأنَّه سيكون اِبن الله، ويوحي لنا العهد القديم أنَّ هذه البنوَّة مميَّزة، وهذا ما يؤكِّده العهد الجديد. المسيح اِبن الله لكنَّه ليس اِبناً كما في الأمثِلة التي ذكرناها في مقدِّمة هذا المقال، بل المسيح هو الاِبن الوَحيد لله، وبُنوَّته ليست بنوَّة عاديَّة بل بنوَّة سرمديَّة أي أزليَّة أبديَّة.
المسيح الابن الأزلي الأبدي
أزَلي تعني أّنَّه قائم منذُ الأزَل، وأبَدي تعني أنَّه سيكون إلى ما لا نهاية، نجمع هاتين الصِّفتين بكلمة (سَرمَدي)، ويُظهِر لنا الكتاب المقدَّس أنَّ المسيح كان منذُ الأزَل2:
“فَمَجِّدْنِي فِي حَضْرَتِكَ الآنَ، أَيُّهَا الآبُ، بِمَا كَانَ لِي مِنْ مَجْدٍ عِنْدَكَ قَبْلَ تَكْوِينِ الْعَالَمِ.” (إنجيل يوحنَّا 5:17)
“فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هَذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. إِذْ إِنَّهُ، وَهُوَ الْكَائِنُ فِي هَيْئَةِ اللهِ، لَمْ يَعْتَبِرْ مُسَاوَاتَهُ لِلهِ خُلْسَةً، أَوْ غَنِيمَةً يُتَمَسَّكُ بِهَا؛ بَلْ أَخْلَى نَفْسَهُ، مُتَّخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً شَبِيهاً بِالْبَشَرِ.” (فيلِبّي 5:2-7)
“… فَلَمَسَنِي بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَقَالَ: «لاَ تَخَفْ! أَنَا الأَوَّلُ وَالآخِرُ، أَنَا الْحَيُّ. كُنْتُ مَيْتاً، وَلَكِنْ هَا أَنَا حَيٌّ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ…” (رؤيا يوحنَّا 17:1-18)
في إنجيل يوحنَّا الإصحاح الخامس (حادثة شفاء مريض بيت حِسْدا) عرَّفَ يسوع عن نفسهِ بأنَّه اِبن الله، وفي ذلك يُعلِن المسيح عن نفسه أنَّه اِبن يحمل نفس خصائص أبيه ويقوم بكل أعمال الله، وكاِبنٍ لله فهو أيضاً إلهاً في طبيعته. لكنَّه قد أخلى مجدهُ في التَّجسُّد أي حجَبهُ حين صارَ إنساناً، مُظهِراً خضوعه للآب، مُبيِّناً لنا مثال الإنسان الصَّالح، مُعلِناً أنَّ عملهُ يجب أن يكون متوافِقاً مع عمل الآب. وبهذه الطَّريقة نفهم عمل الآب والاِبن في الخليقة:
يُعلِن المسيح عن نفسه أنَّه اِبن يحمل نفس خصائص أبيه ويقوم بكل أعمال الله
“فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ الاِبْنَ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، بَلْ يَفْعَلُ مَا يَرَى الآبَ يَفْعَلُهُ. فَكُلُّ مَا يَعْمَلُهُ الآبُ، يَعْمَلُهُ الاِبْنُ كَذلِكَ.” (إنجيل يوحنَّا 19:5)
صحيحٌ أنَّ المسيح قال إنَّه لا يستطيع أن يفعل شيئاً من نفسهِ، لكنَّه يقول إنَّه يفعل نفس أعمال الله. فهو كإنسان خضعَ للآب، وكإله كان يفعل نفس أعمال الآب. نُسمِّي كمسيحيِّين علاقة الطَّبيعة الإلهيَّة للمسيح بطبيعته البشريَّة بالاتِّحاد الأُقنومي، ونقول إنَّ اللَّاهوت لم ينحَلّ في النَّاسوت، وأنَّ النَّاسوت لم ينحَلّ في اللَّاهوت، أي أنَّ اللَّاهوت لم يختلط بالنَّاسوت ولم يتمزج به بل هو اتِّحاد بينهما أدَّى إلى وِحدة في طبيعة المسيح، يقول آرثر بينك: “لم يكُن هناك بديل آخر. إذا كان لا بدَّ من تلبية مَطالب عرش الله، وكان لا بدَّ من تتميم متطلَّبات العدالة، وإذا كان لا بدَّ من التَّخلُّص من الخطيئة، فلا يمكن أن يتمّ ذلك إلَّا من خلال معاقبة شخص بِلا خطيئة بدلاً من أولئك الذين يجب أن يَخلُصوا. يتطلَّب بِرّ الله هذا: أن يُرفَع اِبن الإنسان }على الصَّليب{.”3
المسيح الابن الوحيد
يستخدِم الإنجيل كلمة (الاِبن الوحيد) لوصف العلاقة الأزَليَّة الأبَديَّة بين الآب والاِبن:
“وَالْكَلِمَةُ صَارَ بَشَراً، وَخَيَّمَ بَيْنَنَا، وَنَحْنُ رَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدَ ابْنٍ وَحِيدٍ عِنْدَ الآبِ، وَهُوَ مُمْتَلِىءٌ بِالنِّعْمَةِ وَالْحَقِّ… مَا مِنْ أَحَدٍ رَأَى اللهَ قَطُّ. وَلَكِنَّ الابْنَ الْوَحِيدَ، الَّذِي فِي حِضْنِ الآبِ، هُوَ الَّذِي خَبَّرَ.” (إنجيل يوحنَّا 14:1، 18)
الاِبن الوحيد الأزَلي الأبَدي ظهرَ في الجسد، وتُعبِّر هذه الآية عن العلاقة الاستثنائيَّة بين الآب والاِبن. يُعلِّق العالِم موريس ليون على هذه الآيات: “يُبرِز هذا التَّعبير الأخير، قُرب الآب من الاِبن. كما أنَّه يحمل إيحاءات تُعبِّر عن المودَّة، حيث تُعبِّر كلمة “الذي” عن الاتِّحاد المستمرّ أي أنّ الاِبن الوحيد هو على الدَّوام في حضن الآب. عندما صار الكلمة جسداً، لم يتوقَّف عمله الكَوني خلال تجسُّده. هناك أسرار في التَّجسُّد لا يمكننا أن نسبر أغوارها، ولكن يجب علينا بالتَّأكيد أن نؤمن بأنَّ التَّجسُّد هو إضافة إلى العمل الذي يفعله الكلمة (المسيح)، وليس إيقافاً لما يعمله.”³
الاِبن الوحيد أعطانا امتيازاً كمؤمنين أن نكون أبناء الله أيضاً، وقد صار هو بِكراً بين إخوة كثيرين (روما 29:8)، هذا لا يعني أنَّنا سنصبح آلِهة بل أبناءً لله بالتَّبني كما يُعبِّر عن هذه الحقيقة بولُس الرَّسول وقد شرَحنا ذلك في مقالٍ آخر4. لا يسَعنا أمام حقيقة تجسُّد اِبن الله، الاِبن الوحيد، سِوى أن نشارك بولُس الرَّسول نفس الذُّهول:
“إِنَّ مَا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ بِهِ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ بَشَرٍ قَدْ أَعَدَّهُ اللهُ لِمُحِبِّيهِ!” (رسالة بولُس الأولى إلى أهل كورنثوس 9:2)
استطاعَ المسيح بالتَّجسُّد أن يشفي الجنس البشري ويُخلِّصه لأنَّه صار إنساناً، وبكَونهِ الله فهو الوحيد الذي استطاعَ القيام بذلك لأنَّ البشر عاجزون عن تخليص أنفسهم، وبهذه الطَّريقة يتوافق عدل الله مع محبَّته ويتجلَّى لنا بهذه المفارقة العجيبة أنَّ صليب العار أظهرَ مجد الله. الصَّليب أعلنَ عن سُموّ محبَّة الله لشعبه وفدائه لهم وهم بعد في خطاياهم، وبكلمات ريتشارد بوخوم: “المجد هو الموضوع الذي يستخدِمه إنجيل يوحنَّا… بهدف تسليط الضَّوء (على سبيل التَّناقض الظَّاهري) على الطَّبيعة غير العاديَّة لمحبَّة الله للعالَم حيث وصلَت إلى مدى بذلَ فيه المسيح نفسه ومات على صليب العار.”5
“إِذْ قَلَّمَا يَمُوتُ أَحَدٌ فِدَى إِنْسَانٍ بَارٍّ، بَلْ قَدْ يَتَجَرَّأُ أَحَدٌ أَنْ يَمُوتَ فِدَى إِنْسَانٍ صَالِحٍ. وَلَكِنَّ اللهَ أَثْبَتَ لَنَا مَحَبَّتَهُ، إِذْ وَنَحْنُ مَازِلْنَا خَاطِئِينَ مَاتَ الْمَسِيحُ عِوَضاً عَنَّا.” (رسالة بولُس إلى أهل روما 7:5-8)
- Kingdom through Covenant: A Biblical-Theological Understanding of the Covenants (Second Edition). Gentry, Peter J., Wellum, Stephen J.
- Proclaiming the Divine Sonship of Jesus in Arabic. Paul C.J. Riley.
- Exposition of the Gospel of John, One-Volume Edition. A.W. Pink.
- The Gospel According to John. Leon L. Morris.
- .ما هو التبني الإلهي للمؤمنين؟ الأخ فرح
- Gospel of Glory: Major Themes in Johannine Theology. Bauckham, Richard.
مقالات مُشابِهة
الله الابن
يعني إيش الله أب حنان ورحيم؟
هل قال المسيح (انا هو الله)؟