مخطوطة لإنجيل توما

اكتُشِفَ نَصّ إنجيل توما في أربعينيَّات القرن الماضي. ما هو هذا الإنجيل وما علاقته التَّاريخيَّة بالمسيح؟ هذا ما سنُسلِّط عليه الضَّوء في مقالنا التّالي.

الأناجيل القانونيَّة (متَّى، مَرقُس، لوقا، ويوحنَّا) تُصنَّف على أنَّها سِيَر حياتيَّة¹، لكنَّها ليست كالسِّيَر الحياتيَّة المعروفة في أيَّامنا هذه، بل كُتِبَت لتُناسِب العصر الذي انتَشرت فيه، أي مع مُراعاة الأساليب المُتَّبعة في كتابة السِّيَر تلك الأيَّام². الأناجيل الأربعة القانونيَّة تُركِّز على شخصيَّة تاريخيَّة محدَّدة (شخص المسيح) وتخبرنا الهدف من حياته وأهَمّ التَّفاصيل التي تخلَّلتها مسيرته من أقوالٍ وأفعال. لكنَّ إنجيل توما يحتوي فقط على سِلسلة من الأقوال المنسوبة للمسيح في حوارٍ له مع تلاميذه ويبلغ عددها 114 قَول، دون ذِكر أيّ تفاصيل أُخرى، هذا يعني أنَّه كأُسلوبٍ أدبِيّ لا يمكن تصنيفه إنجيلاً (لكنّي سأُطلق عليه “إنجيل توما” في هذا المقال فقط لأسبابٍ عمليَّة). فضلاً عن ذلك لا يمكن أن نعتدّ به كمحتوى ودِقَّة تاريخيَّة، وذلك للأسباب التي سنذكرها تباعاً في هذا المقال.

اكتُشِفَ إنجيل توما في مصر مع مُكتشَفات نَجْع حمَّادي في مخطوطة مكتوبة باللُّغة القبطيَّة، وقد اكتُشِفَت قبلها ثلاث رُقَع منه باللُّغة اليونانيَّة، وتختلف المخطوطتان (القبطيَّة واليونانيَّة) بشكلٍ لافِت من حيث المحتوى، ممَّا يعطي انطباع أنَّ تغيُّراً لا بأس فيه قد حصل تاريخيّاً في هذا الإنجيل³. وقد انكبَّ العُلَماء على دراستهِ منذ ذلك الحين لمعرفة تاريخ كتابته، لكي يُحدِّدوا دِقَّتهُ وإن كان له أيّ تأثير على الأناجيل القانونيَّة.

Good News in Arabic

متى كُتب إنجيل توما؟

حاولَ بعض العُلَماء نَسب تاريخ إنجيل توما للقرن الأوَّل الميلادي، مثل “جون دومينيك كروسون” الذي طَرحَ بعض الحجَج لكي يُظهِر أنَّ بعض الأقوال الموجودة فيه تسبِق كتابة الأناجيل القانونيَّة، لكنَّ هذه المحاوَلة لم تؤتِ ثمارها وذلك للأسباب التَّالية:

أوّلاً: محتوى إنجيل توما

أكثر من نصف الأقوال الموجودة في إنجيل توما، موجودة في العهد الجديد، واستخدام كاتب إنجيل توما لآيات من الأناجيل الصَّحيحة يُظهِر أنَّه كان يعتمِد عليها وأنَّه هو من اقتبَس منها وليس العكس، حيث من الملحوظ أنَّه كان يقوم بإعادة تفسير هذه الآيات لتتوافَق مع مُعتقَد يُنادي بالعِلم السِّرِّي المَخفي الذي يقود للخَلاص ويُعرَف بِاسم “الغَنُّوصِيَّة”. لكن هذا العِلم لم تكتمل معالمهُ قبل منتصف القرن الثَّاني، ممَّا يعطينا الانطِباع الأوَّلي عن تاريخ “إنجيل توما” أنَّه كُتِبَ مع نهاية القرن الثَّاني لأنَّ تعاليم الغَنُّوصِيَّة فيه شديدة الوضوح. يقول كريغ إيفانز: “من الممكن جدّاً أن يكون نَصّ توما هو مجموعة مُنتَقاة من العهد الجديد ومن نُصوص أبّوكريفيَّة أيضاً، وغالباً ما أعادَ الكاتب تفسيرها بشكل مَجازي، في نِيَّة تعليم أفكار روحانيَّة غَنُّوصِيَّة تعود للقرنين الثَّاني والثَّالث، لذلك من البعيد جدّاً أن تكون التَّعاليم الموجودة فيه سابِقة لتاريخ كتابة الأناجيل القانونيَّة.”
لهذا السَّبب لم يدَّعِ أيّ عالِم أنَّ (النَّصّ الكامل لهذا الإنجيل) قديم بما يكفي ليحتوي على معلومات جديدة وصحيحة عن المسيح، بل حاولَ البعض كجون كروسون الادِّعاء بأنَّ جزءاً من إنجيل توما يتمتَّع بهذه الميزة، لكن هذا الأمر صعب إثباته، أوَّلاً لأنَّ جزءاً كبيراً من هذا الإنجيل يعتمد على الأناجيل القانونيَّة ويستخدمها كمصدَر معلومات وليس العكس، وسنُفنِّد ذلك في المقطع التَّالي، ثانياً لا يمكن تقديم حجَج مُعتبَرة لقِدَم إنجيل توما بسبب عدم توفُّر معلومات كافية عنه، فكل ما قد طُرِحَ في هذا السِّياق هو مجرَّد تكهُّنات.

ثانياً: اعتماد إنجيل توما على العهد الجديد

حين يتحدَّث كاتب إنجيل توما عن الصَّلاة والصَّوم، نجِد أنَّه ينتقِد فيها التَّعليم المسيحي المَبني على التَّقوى التي يُعلِّم عنها العهد القديم، ممَّا يوحي بوجود نَزعة غَنُّوصِيَّة واضِحة لمُحاوَلة تغيير التَّعليم السَّائِد، وهذا يعطي انطِباعاً بأنَّ كاتب إنجيل توما يستخدِم إنجيل متَّى كمصدَر ليَرُدّ عليه وليس العكس، وقد وردَ في متَّى عن الصَّوم:

“فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «هَلْ يَقْدِرُ أَهْلُ الْعُرْسِ أَنْ يَحْزَنُوا مَادَامَ الْعَرِيسُ بَيْنَهُمْ؟ وَلَكِنْ، سَتَأْتِي أَيَّامٌ يَكُونُ فِيهَا الْعَرِيسُ قَدْ رُفِعَ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَعِنْدَئِذٍ يَصُومُونَ!” (إنجيل متَّى 15:9)

يقول المسيح بحسب متَّى البَشير أنَّه سيأتي وقت ويصوم فيه المؤمنون به حين ينتقل هو إلى السَّماء، أمَّا طالما أنَّه لا يزال معهم فهُم ليسوا بحاجة للصَّوم. كان اليهود المُوَجَّه إليهم هذا الكلام يؤمنون بأهمِّيَّة الصَّوم لذلك لم يُحاوِل متَّى إثبات أهمِّيَّة وضَرورة الصَّوم في هذا النَّص لأنَّه هو أيضاً يهودي ويعرف أهميَّته، كما أنَّه لم يكُن يَرُدّ على حجَّةٍ ما (كالرَّد على التَّعليم الغَنُّوصي) الذي يُقلِّل من أهمِّيَّة الصَّوم. وذلك بعكس إنجيل توما الذي يوحي كلامه عن الصَّوم بأنَّه يَرُدّ على متَّى إذ يستخدِم الحادِثة نفسها ليحاول أن يُظهِر فيها عدم أهمِّيَّة الصَّوم، وقد وردَ في توما:

“قالوا ليَسوع: هيَّا نُصلِّي اليوم ونَصوم. قال يسوع: أيُّ خطيئةٍ اقتَرَفتُ، أو بالأحرى كيف انهزَمتُ؟ لكن عندما يُغادر العريس مخدَع العُرس، دَعوا النَّاس يصومون ويُصَلُّون.” (إنجيل توما القول 104)

لو كانَ متَّى من كَتبَ لاحِقاً واقتَبسَ من توما، لكانَ حاولَ على الأقَلّ الرَّدّ على الفِكرة الوارِدة في القول 104 ولكانَ أخبرَنا عن أهمِّيَّة الصَّوم من هذه الحادثة.

هناك دليلٌ أيضاً أنَّ توما اعتمدَ على إنجيل لوقا، حيث يظهر استخدامه للكلمات وكأنَّه يرُدّ على لوقا إذ غيَّرَ القَول الوارِد في إنجيل لوقا (17:8) “فَمَا مِنْ مَحْجُوبٍ لَنْ يُكْشَفَ، وَلاَ سِرٍّ لَنْ يُعْلَمَ وَيُعْلَنَ.” وجَعلَهُ “أن لا سِرّ سوفَ يُعلَن”.

يعتمِد كاتب إنجيل توما أيضاً على رسالة بولُس الرَّسول إلى أهل روما ورسالته الثَّانية إلى أهل كورِنثوس، فمن غير الممكن أن يكون توما هو المصدَر لها لأنَّ هذه الرِّسالة تعود لخَمسينيَّات القرن الأوَّل بحسب العُلَماء، لذلك من غير الممكن أن يكون الإنجيل المُسمَّى بتوما قد كُتِبَ في أربعينيَّات القرن الأوَّل، فهذا التَّاريخ لا يقبلهُ حتَّى أشدّ الدَّاعمين لإنجيل توما.


ممَّا يوحي بوجود نَزعة غَنُّوصِيَّة واضِحة لمُحاوَلة تغيير التَّعليم السَّائِد


ثالثا: القرون الأولى للمسيحية وإنجيل توما

لم يُذكَر إنجيل توما بالاِسم من آباء الكنيسة قبل القرن الثَّالث، بعكس الأناجيل القانونيَّة التي عُرِفَت مع بدايات القرن الثَّاني. الآباء الذينَ عرفوا هذا الإنجيل، علِموا أيضاً أنَّه لا يعود لتوما الرَّسول وأنَّه ليسَ إنجيلاً صحيحاً، ونذكُر منهم (أوريجانُس، إكلِمندُس الإسكندري، سيريل الذي من القُدس، وجيروم). إلَّا أنَّ بعض آباء القرن الثَّاني اقتبَسوا اقتِباسات قليلة ومُتفرِّقة منه دونَ ذِكر اسمه، والاحتمال الأكبر أن تكون تلك الاقتِباسات من مصدَر آخَر غير إنجيل توما حتَّى ولو وردَت فيه، وقد عالَجنا موضوع الاقتِباسات من أبّوكريفا العهد الجديد في مقالٍ آخر.


لم يُذكَر إنجيل توما بالاِسم من آباء الكنيسة قبل القرن الثَّالث


رابعاً: هيكلية إنجيل توما

هو كِتاب مؤلَّف من أقوالٍ فقط، ولن تجِد فيه أيّ مُحاوَلة لرَبط أيّ حدَث بآخر، وهذا يعني سُهولة زيادة أقوال أو حذف أقوال عند النَّسخ دونَ أن يُخلِّف ذلكَ أثَراً يمكن تتبُّعه. صحيح أنَّه لا يوجد لدينا كمّ كافٍ من المخطوطات لكي نتأكَّد من هذا الأمر بشكل قطعي، لكنَّه يبقى احتمالاً كبيراً نظَراً لطبيعة هذا النَّصّ، ممَّا يترك شَكّاً لا بأسَ فيه حولَ نِّيَّة الكاتب بأن يكتُب إنجيلاً بهذه الطَّريقة الغامضة، ولا يوجد تفسير لماذا هذا الإنجيل الذي من المفروض أن يحتوي على مصادِر من شُهود عيان، لا يذكُر أيّ تفصيل تاريخي حول المسيح وخِدمته، بعكس الأناجيل القانونيَّة.

العالِمان داريل بوك وويليام والاس يقولان: “واحدة من الأسباب التي تُصعِّب إمكانيَّة تحديد تاريخ هذا الإنجيل هو أنَّه لا يحتوي على تسلسُل أحداث. فهو مؤلَّف من مجموعة من الأقوال التي من الممكن أن تكون كُتِبَت في مرَّة واحدة ومن الممكن أن تكون قد كُتِبَت تدريجيّاً، تماماً ككُرَة ثلجٍ مُتزحلِقة بإمكانها أن تكبر وتجمع أشياء أُخرى في طريقها. من دون سَرد تاريخي ليُعطي للنَّصّ وحدةً وترابُط، وبذلك بإمكان أيّ ناسِخ أن يزيد عليه ما يريد دون أن يترك أيَّ أثَر”.

خامساً: الخلفية السريانية لإنجيل توما

العُلَماء العالِمون باللُّغة السِّريانيَّة الذينَ درَسوا طريقة صياغة هذا الإنجيل لغويّاً، لاحَظوا أنَّه يعتمِد بشكل كبير على قراءة سريانيَّة كصِياغة وأُسلوب، ابتداءً من طريقة كتابة اِسم توما، مُروراً بنُصوص كثيرة فيه، والتي تُظهِر اعتماداً واضحاً على نَصّ الدِّيتاستيرون السِّرياني لتاتيان، والذي يعود تاريخه لنهاية القرن الثَّاني، خاصَّةً عندما يستخدِم هذا الإنجيل في نَصِّه آيات من إنجيل متَّى الذي لم يكُن مُتاحاً إلَّا باللُّغة السِّريانيَّة في تلك المنطقة الجغرافيَّة (سورية). نذكُر من هؤلاء العُلَماء نيكولاس بيرين الذي درَسَ إنجيل توما ولاحظَ اعتماده الواضح على النُّصوص السِّريانيَّة. يقول كريغ إيفانز: “الذي نراهُ على نحوٍ مُتكرِّر في إنجيل توما، أنَّ النُّصوص التي يختلف فيها عن الأناجيل القانونيَّة، يتَّفِق فيها مع التَّقليد السِّرياني (الاعتماد على الدِّيتاستيرون).

الكاتب: الأخ فرح

Minister & Theologian

  1. . قام عُلماء مثل ريتشارد بوريج Richard Burridge مؤلِّف كتاب What are the Gospels? ، وكريغ كينير Craig Keener صاحب كتاب Christobiography ، بمُقارَنة بين الأناجيل والسِّيَر الحياتيَّة المعاصرة لها، وقد أثبتا أنَّها تُصنَّف كسِيَر حياتيَّة. والغالبيَّة السَّاحقة من العُلماء اليوم باتوا يوافقون على هذا.
  2. لا يمكن أن نحكُم على الأناجيل من خلال السِّيَر الذَّاتيَّة المعروفة في أيَّامنا هذه، بل كان هناك أُسلوباً مختلفاً في كتابة السِّيَر الذَّاتيَّة آنذاك، لذلك نراها تُركِّز على تفاصيل مُعيَّنة من حياة المسيح دون أُخرى.
  3. من الطَّبيعي أن توجد أخطاء نَسخ بين مخطوطة وأُخرى، وهنا تكمُن أهميَّة مُقارَنة المخطوطات حيث نستطيع أن نصِل للقراءة الصَّحيحة عبر مُلاحظة عدد منها ومُقارَنة المحتوى، لكن وجود تغيير ملحوظ في مخطوطات قليلة متوفِّرة يطرح علامة استفهام كبيرة.
  4. Four Other Gospels: Shadows on the Contour of Canon. Crossan, John Dominic.
  5. Exploring the Origins of the Bible: Canon Formation in Historical, Literary, and Theological Perspective (Acadia Studies in Bible and Theology). Evans, Craig A., Tov, Emanuel, Evans, Craig A., McDonald, Lee.
  6. لماذا اقتبس الآباء الرسوليون من أبوكريفا العهد الجديد؟ (annamu-fi-almassih.com)
  7. Dethroning Jesus: Exposing Popular Culture’s Quest to Unseat the Biblical Christ. Bock, Darrell L., Wallace, Daniel B.
  8. Exploring the Origins of the Bible: Canon Formation in Historical, Literary, and Theological Perspective (Acadia Studies in Bible and Theology). Evans, Craig A., Tov, Emanuel, Evans, Craig A., McDonald, Lee.


مقالات مُشابِهة

ما هو إنجيل برنابا؟
هل الإنجيل محرف؟
ما هو الإنجيل؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.