افتح الكتاب المقدس جالسًا على صخرة في غابة

في هذا المقال سوف نشرح أهم ما يجب معرفته عن الكتاب المقدس وكيفية دراسته وفهمه.

لقد لعب الكتاب المقدَّس على مرّ العصور دوراً بارزاً في حياة النُّفوس ولا يزال يفعل، فهو يقود للسَّلام مع الله عبر المسيح ويُعطي تعزية ورجاء في هذا العالَم المضطرب، ويُكلِّم القلوب ويهدي النُّفوس لطريق الخلاص. وقد كان له تأثير تاريخي على الكثير من الحضارات، فالعديد من البلدان المعاصرة تأثّرت قوانينها بتعاليم المسيحيَّة، والعديد من التَّشريعات الدُّوليَّة العالميَّة كانت نتاج تأثير الفكر المسيحي. وقد تمَّ تحويل العديد من اللُّغات إلى الكتابة لأوَّل مرَّة لكي تتم قراءة الكتاب المقدَّس سواء بشكل كُلّي أو جزئي، وكان للعديد من التَّرجمات تأثيراً مباشراً على اللُّغة التي تُرجِمَ إليها الكتاب المقدَّس. الكثير من المفاهيم العامَّة التي نُسلِّم بها جدلاً أتت نتيجةً لتأثُّر المجتمع بتعاليم المسيحيَّة، وسواء تمَّ إدراك ذلك أم لا، يبقى أثر الفكر المسيحي في الكثير من الجوانب الاجتماعيَّة، النَّفسيَّة، السِّياسيَّة، والثَّقافيَّة كبير جدّاً حتى في الدُّول التي أصبحت علمانيَّة.

الكتاب المقدَّس ليس مجرَّد كتاب بل هو مكتبة تضم عدَّة كُتب، لكن فيها رسالة مركزيَّة واحدة لذلك يُدعى بـ”الكِتاب” أي بالمُفرد. ولأنَّه إعلان ووَحي الله القدُّوس ولأنَّه مُخصَّص لخلاص النُّفوس وتقديسهم، لذلك نصِفهُ بـ”المقدَّس”. قد يكون من المُستغرَب أن نتحدَّث عن رسالة مركزيَّة في مجموعة من الكتابات التي تعكس تاريخ الحضارة في الشَّرق الأدنى على مدى آلاف السِّنين والتي تناوَب على كتابتها حوالي 40 كاتباً. ولكن نعم هناك رسالة مركزيَّة، لذلك التَّعامل الشَّائع مع الكتاب المقدَّس اليوم هو عبر اعتباره كتاباً واحداً، وليس مجرَّد مجموعة منفصلة من الكُتب.

في الغالب نتجاهل أمراً مهمّاً يخصّ الكتاب المقدَّس وهو قِدَم هذا الكتاب، وعلى الرَّغم من ذلك لا يزال هو أكثر كتاباً يُدرَّس ويُطبَع ويُنسَخ ويترك أثراً في النُّفوس، وأثره واضح حتى في الأديان التي تُعاديه أيضاً، فهي نشأت أساساً بالتَّباين معه دون أن يكون لها رؤية كونيَّة إيجابيَّة منعزلة عن المسيحيَّة، وهذا بعكس الإيمان المسيحي الذي يستطيع أن يكشف تعاملات الله عبر كل العصور وكيف أن إله التَّاريخ كان يقود التَّاريخ إلى غايته.

إنَّ رسالة الكتاب المقدَّس المركزيَّة هي قصَّة الخلاص في كِلا العهدين القديم والجديد وفيها يُعلِّم الله عن طريق الخلاص، وعن ورَثة هذا الخلاص. بكلمات أُخرى إنَّ الرِّسالة المركزيَّة للكتاب المقدَّس هي عهد الله مع بني إسرائيل أوَّلاً، وترقُّب مجيء وسيط العهد يسوع المسيح الذي سيصنع عهد الله الجديد مع شعبه الجديد الذي يضم بني إسرائيل والشُّعوب الأُخرى أيضاً، أي كنيسة العهد الجديد.

الكتاب المقدس العبري

العهد القديم، الكتاب المقدَّس العبري، التَّناخ، جميها أسماء مجموعة الكُتب المقدَّسة السَّابقة لمجيء المسيح. وتُسمَّى بالكتاب المقدَّس العبري لأنَّها كُتبت بشكل رئيسي باللُّغة العبريَّة، والتنَّاخ (في العبريَّة تنَّك) هي تسمية اليهود لمجموعة الأسفار هذه، وتُسمى كذلك لأنّ التنَّاخ كلمة تجمع بين مكوِّنات هذا الكتاب وهي “ت” للتَّوارة، “ن” للنّفيئيم (كُتب الأنبياء)، و”ك” للكيتوفيم وتعني الكتابات. تسمية “العهد القديم” تفترض وجود “عهد جديد” وهي تسمية مسيحيَّة للكتاب المقدَّس العبري كونه الرَّكيزة الأساسيَّة لما جاء في العهد الجديد، والهدف من التَّسمية ليس التَّقليل من قيمة هذه النُّصوص ولكن لتحديد طبيعة العهدين وارتباطهما بالحياة المسيحيَّة.
ينقسم الكتاب المقدَّس العبري إلى 66 سِفراً وهي كالتَّالي:

Traditional order of the Bible EN

التَّرتيب الموضوعة فيه هذه الأسفار هو التَّرتيب الموجود في التَّرجمة السَّبعينيَّة وبعدها اللَّاتينيَّة (الفولجاتا، لجيروم من القرن الخامس)، لكن التَّرتيب في النَّص الميزوري العبري مختلف وفيه تقسَّم الكتابات إلى: التَّوراة، الكُتب التَّاريخيَّة، وأسفار الأنبياء.
يبدأ العهد القديم بأسفار التَّوراة وتحديداً سِفر التَّكوين الذي يروي لنا صراعات الجنس البشري وسَقطاته ابتداءً من آدم وصولاً إلى يعقوب وأبنائه، وتعاملات الله مع البشر من خلال عهود قطعَها معهم، أبرزها العهد مع إبراهيم والذي يرتبط بشكل مباشر بمجيء المسيح المُخلِّص.

السِّفر التَّالي هو سِفر الخُروج والذي يبدأ حيث انتهى سِفر التَّكوين أي عندما كان أبناء يعقوب في مصر وكيف استُعبِدوا وأخرجهم الله على يد موسى، لتُكمِل الأسفار الثلاثة الأُخرى الحديث عن الشَّعب وترحاله في البرِّيَّة قُبيل دخول أرض الموعد، وتوصيات الله الكهنوتيَّة لهم.

التوراة

تنتهي التَّوراة عند سِفر يشوع ودخول الشَّعب أرض الموعد، وتبدأ مع سِفر يشوع الأسفار التَّاريخيَّة أي التي تروي تاريخ بني إسرائيل بانتصاراتهم وأمجادهم أيَّام داود وسليمان وصولاً للدَّمار النِّهائي على يد مملكة بابل في القرن الخامس قبل الميلاد. تخلَّلت تلك الفترة كتابات عديدة لأنبياء أرسلهم الله للشَّعب، وقد كانت رسالتهم دعوة الشَّعب للرُّجوع إلى الله وتحذيرهم من الدَّينونة القادمة، وفي نفس الوقت كانت الرِّسالة تتحدَّث عن مجيء المسيح وعن الخليقة الجديدة التي تمثَّلت بوعود عن إعادة البناء.

يضم العهد القديم أيضاً أسفار الحكمة وتبدأ بسِفر أيُّوب الذي يتحدَّث عن مُعاناة أيُّوب البارّ، ويُعطينا الكتاب جواباً عن سبب مُعاناته وسيادة الله على كل شيء. ثمَّ يأتي سِفر المزامير والذي هو عبارة عن قصائد شِعريَّة وترانيم كتبَ داود معظمها. أيضاً الأسفار الثَّلاثة التي تُنسَب لسُليمان المَلِك وهي: الأمثال والجامعة ويتحدَّثان عن الحِكمة والسُّلوك الصَّحيح، وسِفر نشيد الأنشاد الذي يروي قصَّة زوجين بهدف تعليم الأزواج عن قُدسيَّة العلاقة الزَّوجيَّة وضرورة الحفاظ عليها رغم كل التَّحدِّيات. سِفرا عزرا ونحميا يتحدَّثان عن عودة المسبيِّين من اليهود إلى أرضهم أيَّام الملوك الفُرس، وكيف أعادوا بناء الهيكل وكل التَّحدِّيات التي رافقت عودتهم.

نجد جوهراً واحداً في كل هذه الأسفار المختلفة، وهو قصَّة بني إسرائيل التي لم تنتهِ هناك بل كانت تنتظر أن تُكمَّل عبر مجيء المسيح المُخلِّص وهو ما أخبرنا عنه العهد الجديد. لم تتوقَّف قصَّة بني إسرائيل مع سِفر ملاخي آخر أسفار العهد القديم ولم تبدأ من جديد مع المسيح، بل استمرَّت تعاملات الله معهم. صحيح أنَّ الوَحي توقَّف مع النَّبي ملاخي، لكن تعاملات الله في التَّاريخ لم تتوقَّف، كان الله يقود المنطقة كلّها لأهم حدَث في التَّاريخ وهو ولادة المسيح. وقد حصل ذلك عبر عدَّة تمهيدات تاريخيَّة ساهمت بشكل كبير في انتشار الرِّسالة المسيحيَّة، كان أوَّلها مع غزو الإسكندر للمملكة الفارسيَّة ودوره في نشر الحضارة الهيلّينيَّة وجعل اللُّغة اليونانيَّة لغة التَّواصل بين كل الشُّعوب، وهي اللُّغة التي استخدمها الرُّسل في التَّبشير وكتابة العهد الجديد، وصولاً إلى السَّلام العالَمي الرُّوماني الذي صنعه أوغسطس قيصر في أرجاء الإمبراطوريَّة والذي يشمل تأمين وتعبيد الطُّرقات. كل هذه العوامل مهَّدت لمجيء المسيح وإمكانيَّة انتشار رسالته.

” وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَ تَمَامُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ…” (رسالة بولُس الرَّسول إلى أهل غلاطية 4:4)

Old testament in arabic

أبوكريفا العهد القديم ودورها في الحياة اليهودية

نشر الحضارة الهيلِّينيَّة لم يقبَله اليهود بصدر رحب بل ولَّد مشاكل وصراعات وحروب دامية كان أبطالها يهوذا المكابي وأولاده المسجَّلة أعمالهم في سِفرَي الرَّكابيِّين، ومقاومتهم لخليفة الإسكندر على سوريا وهو أنطيخيوس أبّيفانيس الذي حارب اليهود فانتصروا هم عليه في النِّهاية. كانت تلك الفترة حرجة لاهوتيّاً، فقد ظهرَ توجُّه فكري يُرحِّب بالحضارة الهيلِّينيَّة وتوجُّهٌ آخر مُحافِظ رفضَ ذلك لأنَّه اعتبر الأمر مُساوَمة على المبادئ الدِّينيَّة. في هذا السِّياق التَّاريخي نشأت أسفار الأبّوكريفا لتشجيع الشَّعب من أجل المحافظة على التَّعاليم المُستمَدَّة من الأنبياء (كسِفر باروخ، طوبيَّا، ويشوع بن سيراخ)، ولتحفيز الشعب على القتال (كسِفرَي المكابيِّين الأوَّل والثَّاني وسِفر يَهوديت).

هذه الأسفار من العهد القديم تُشكِّل جزءاً من أسفار العهد القديم القانونيَّة عند الكنيسة الكاثوليكيَّة مع العِلم أنَّها ليست جزءاً من الكتاب المقدَّس العبري، ولم يعتبرها اليهود الذين استُئمِنوا على أقوال الله أنَّها جزءٌ من الكُتب الموحى بها. لكنَّها كانت جزءاً من التَّرجمة اليونانيَّة للعهد القديم المعروفة بالتَّرجمة السَّبعينيَّة كونها كُتِبت باليونانيَّة أيضاً وقد استخدمها المسيحيُّون الأوائل لعدَّة قرون (أي جيل ما بعد الرُّسُل) وذلك بحسب (ف. ف. بروس) ظنّاً منهم أنَّها جزء من الكتاب المقدَّس، وقد ساعد على ذلك انقطاع أيّ تواصل بين الكنيسة والمجامع اليهوديَّة باستثناء النِّقاشات بين بعض اليهود وبين المدافعين المسيحيِّين.

نتيجةً لذلك نالت هذه الأسفار الأبّوكريفيَّة اهتماماً كبيراً من المسيحيِّين الأوائل، وقد اقتبَسوا منها وعلَّموا منها مع العِلم أنَّ العُلَماء المسيحيِّين الذين احتكُّوا باليهود كأوريجانوس، جيروم، وسيريل الأورشَليمي، عَلَّموا وقالوا صراحةً أنَّها ليست جزءاً من الكتاب المقدَّس العبري. تُخبرنا هذه الأسفار عن حقبة مهمَّة في تاريخ الفكر اليهودي وعن تطوُّر مفاهيم اليهود حول بعض الأُمور اللَّاهوتيّة ونظرتهم للتَّاريخ وتوقُّعاتهم المسيانيَّة (مجيء المسيح). سقطت أورشليم مرَّة أُخرى على يد بومباي الرُّوماني وأصبحت تحت حُكم الرُّومان وأقاموا عليها هيرودُس الكبير كوالي لها. إلَّا أنَّ توقُّعات اليهود لم تتغيَّر بأنَّ مَلِكاً سيأتيهم ويُنقذهم من الرُّومان، وأنَّ الله سيُحقِّق ملكوته. وفي هذه المرحلة التَّاريخيَّة ظهر يوحنَّا المعمدان في بريَّة يهوذا قائلاً:

“…«تُوبُوا، فَقَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ!»” (إنجيل متَّى 2:3)

يبدأ يوحنَّا رسالته ودعوته حيث يتنهي سِفر ملاخي الذي هو السِّفر الأخير في الأسفار القانونيَّة، ويُكمِّل الرِّسالة التي يجب أن تُكمَّل كما تنبَّأ أنبياء بني إسرائيل وكما تقول آخر آية في سِفر ملاخي:

“هَا أَنَا أُرْسِلُ إِلَيْكُمْ إِيلِيَّا النَّبِيَّ قَبْلَ أَنْ يَجِيءَ يَوْمُ قَضَاءِ الرَّبِّ الرَّهِيبُ الْعَظِيمُ فَيَعْطِفُ قَلْبَ الآبَاءِ عَلَى أَبْنَائِهِمِ وَقَلْبَ الأَبْنَاءِ عَلَى آبَائِهِمْ، لِئَلا آتِيَ، وَأُصِيبَ الأَرْضَ بِاللَّعْنَةِ.” (سِفر ملاخي 5:4)

يوحنَّا المعمدان لم يكُن هو إيليَّا، لكنَّه أتى بروح إيليَّا وقوَّته، فالنُّبوءة لا تتطلَّب التَّتميم الجسدي بل المعنى الرُّوحي الذي سيقوم به إيليَّا الثَّاني (يوحنَّا)، وهذا النَّمط في التَّفسير والتَّتميم كان مُتعارَفاً عليه في تتميم النُّبوءات. يقول يسوع المسيح:

“فَمُنْذُ أَنْ بَدَأَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ خِدْمَتَهُ وَالنَّاسُ يَسْعَوْنَ جَاهِدِينِ لِدُخُولِ مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالسَّاعُونَ يَدْخُلُونَهُ بِمَشَقَّةٍ! فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ وَالأَنْبِيَاءَ تَنَبَّأُوا جَمِيعاً حَتَّى ظُهُورِ يُوحَنَّا. وَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ تُصَدِّقُوا، فَإِنَّ يُوحَنَّا هَذَا، هُوَ إِيلِيَّا الَّذِي كَانَ رُجُوعُهُ مُنْتَظَراً.” (إنجيل متَّى 12:11-14)

العهد الجديد في الكتاب المقدس

بشَّر الملاك مريم العذراء بأنَّها ستلِد ابناً وأنَّ هذا الاِبن سيكون ملِكاً على بني إسرائيل وسيقود الشَّعب نحو الخلاص. كانت مريم مخطوبة من يوسف النَّجَّار وكان الأمر من الممكن أن يكلِّفها حياتها كَونها حبِلَت قبل أن يدخل عليها رجُلها، لكنَّ ملاك الرَّب ظهرَ ليوسف في حُلم وطمأنه من ناحية مريم. تربَّى المسيح في كنَف هذه العائلة وعندما كبُر بدأ ينادي ببشارة الإنجيل ويكرِز باقتراب تحقيق الملَكوت الذي وعدَ به الله عبر الأنبياء. صنع المسيح معجزات عظيمة وعلَّم النَّاس بتعاليم كثيرة، لكنَّه صُلِب في النِّهاية بعدما اتُّهِمَ بالتَّجديف كَونه وهو إنسان جعلَ نفسه إلهاً، ولأنَّه أصبح مزعِجاً للقادة الدِّينيِّين الذين خافوا أن تتأثَّر سُلطتهم على الشَّعب بسببه. صُلِب المسيح وتألَّم ومات لكنَّه قام في اليوم الثَّالث كما سبقَ وقال، وظهرَ لتلاميذه وأوصاهم أن يُنادوا بالبشارة. نعرف عن قصَّة المسيح من خلال الأناجيل الأربعة وهي عبارة عن 4 شهادات مختلفة عن سيرة حياة المسيح، 4 كُتب تحكي قصَّة واحدة.

تتشابه الأناجيل الثَّلاثة الأولى كثيراً، لذلك يُطلَق عليها اِسم الأناجيل الإزائيَّة أي السِّينوبتيكيَّة المعرَّبة من اليونانيَّة والتي تعني “النَّظَر المتوازي” كَونها 3 أناجيل متشابهة جدّاً في المحتوى، وهناك عدَّة آراء حول أيّ من الأناجيل كُتب قبل الآخر، ومن من الكُتَّاب استخدَم النُّصوص من الآخر كمصدر إضافي للمعلومات. وهناك إنجيل رابع وهو إنجيل يوحنَّا آخر إنجيل كُتب، وفيه نرى نمطاً مختلفاً قليلاً بأحاديث مطوَّلة للمسيح مع أفراد وأحداث أُخرى لا نقرأ عنها في الأناجيل الإزائيَّة، وذلك لأنَّ يوحنَّا يُصوِّر نفسه في الإنجيل كالشَّاهِد المثالي المقرَّب من يسوع والذي يستطيع أن يخبرنا عن تفاصيل أعمق، كما يركِّز على خدمة المسيح في أورشليم بعكس الأناجيل الأُخرى التي تركِّز على خدمة المسيح في الجليل. يقول دونالد هاجنر: “على الرَّغم من أنَّ الأناجيل كُتبت في وقت محدَّد، وفي مكان محدَّد، ولأغراض محدَّدة، إلَّا أنَّها ذات فائدة أبديَّة للكنيسة. إنَّ الوحدة والتَّنوُّع الفريدَين بالأناجيل الأربعة يُزوِّدان الكنيسة في جميع العصور بصورة موثوقة ومُلهِمة عن يسوع المسيح.”

بعد الأناجيل يوجد سِفر اسمه “أعمال الرُّسل” وفيه نرى أوَّل عمل يؤرِّخ تاريخ الكنيسة إذ يوثِّق لنا لوقا (نفسه كاتب إنجيل لوقا) الأحداث منذ صعود المسيح للسَّماء إلى حين ذهاب بولُس إلى روما مع بداية ستينيَّات القرن الأوَّل. يخبرنا لوقا في هذا السِّفر الذي هو تتمَّة لإنجيله كيف بدأت المسيحيَّة بالانتشار ابتداءً من اليهوديَّة مروراً بالسَّامرة وصولاً إلى أقاصي الأرض.

بعدها تأتي 13 رسالة لبولُس الذي كان فرِّيسي يهودي يضطَّهِد المسيحيَّة بشراسة سابقاً، لكنَّه التَقى بالمسيح في دمشق وتغيَّرت حياته بعد هذا اللِّقاء وصارَ من أعظم المبشِّرين بالمسيح، وحملَ رسالته إلى أقاصي الأرض ومات شهيداً لأجل اِسم المسيح.

بعد ذلك تأتي رسالة ليعقوب أخي الرَّب الذي كان أحد أعمِدة الكنيسة في أورشليم. من ثمَّ نرى الرِّسالة إلى العبرانيِّين والتي نجهل من كتَبها. بعد ذلك لدينا رسالتان لبطرُس أحد التَّلاميذ الاثني عشر. ثمَّ ثلاث رسائل ليوحنَّا وهو أيضا أحد التَّلاميذ. ورسالة ليهوذا أخو يعقوب وأخو الرَّب يسوع. وفي النِّهاية سِفر رؤيا يوحنَّا الذي يخبرنا عن استرداد الجنَّة التي فقدناها في بداية سِفر التَّكوين. كل العهد الجديد كُتِب باللُّغة اليونانيَّة التي كانت تُعدّ تلك الأيَّام لُغة عالميَّة (في الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة) تماماً كما اللُّغة الإنجليزيَّة اليوم.

تسمية العهد الجديد أتت بناءً على ما جاء في العهد القديم، لتصبح كلمتَي قديم وجديد تصِفان العلاقة بين العهدين ودورها في اللَّاهوت المسيحي. يقول النَّبي إرميا في العهد القديم:

“«هَا أَيَّامٌ مُقْبِلَةٌ»، يَقُولُ الرَّبُّ أَقْطَعُ فِيهَا عَهْداً جَدِيداً مَعَ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ وَيَهُوذَا، لاَ كَالْعَهْدِ الَّذِي أَبْرَمْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ، يَوْمَ أَخَذْتُهُمْ بِيَدِهِمْ لأُخْرِجَهُمْ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ، فَنَقَضُوا عَهْدِي، لِذَلِكَ أَهْمَلْتُهُمْ. وَلَكِنْ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أُبْرِمُهُ مَعَ ذُرِّيَّةِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ»، يَقُولُ الرَّبُّ: «سَأَجْعَلُ شَرِيعَتِي فِي دَوَاخِلِهِمْ، وَأُدَوِّنُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً. وَلاَ يَحُضُّ فِي مَا بَعْدُ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ قَائِلاً: اعْرِفِ الرَّبَّ إِلَهَكَ لأَنَّهُمْ جَمِيعاً سَيَعْرِفُونَنِي، مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ، لأَنِّي سَأَصْفَحُ عَنْ إِثْمِهِمْ وَلَنْ أَذْكُرَ خَطَايَاهُمْ مِنْ بَعْدُ».” (سِفر إرميا 31:30-34)

new testament in arabic

تتحدَّث هذه الآية عن الوعد الآتي بالعهد الجديد الذي سيُصنع بدماء المسيح وسيكون لمغرفة الخطايا، وقد وردَ في نصوص العهد الجديد:

“وَكَذلِكَ أَخَذَ (يسوع) الْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ الْعَشَاءِ، وَقَالَ: «هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ لأَجْلِكُمْ.” (إنجيل لوقا 20:22)

“فَلَوْ كَانَ الْعَهْدُ السَّابِقُ بِلاَ عَيْبٍ، لَمَا ظَهَرَتْ الْحَاجَةُ إِلَى عَهْدٍ آخَرَ يَحُلُّ مَحَلَّهُ. وَالْوَاقِعُ أَنَّ اللهَ يَلُومُ شَعْبَهُ قَائِلاً: «لاَبُدَّ أَنْ تَأْتِيَ أَيَّامٌ، يَقُولُ الرَّبُّ، أُبْرِمُ فِيهَا عَهْداً جَدِيداً مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَنِي يَهُوذَا. هَذَا الْعَهْدُ الْجَدِيدُ لَيْسَ كَالْعَهْدِ الَّذِي أَبْرَمْتُهُ مَعَ آبَائِهِمْ، حِينَ أَمْسَكْتُ بِأَيْدِيهِمْ وَأَخْرَجْتُهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ. فَبِمَا أَنَّهُمْ خَرَقُوا ذَلِكَ الْعَهْدَ، أَهْمَلْتُهُمْ، يَقُولُ الرَّبُّ! فَهَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أُبْرِمُهُ مَعَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ، يَقُولُ الرَّبُّ: أَضَعُ شَرَائِعِي دَاخِلَ ضَمَائِرِهِمْ، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً، وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً. بَعْدَ ذَلِكَ، لاَ يُعَلِّمُ أَحَدٌ مِنْهُمُ ابْنَ وَطَنِهِ وَلاَ أَخَاهُ قَائِلاً: تَعَرَّفْ بِالرَّبِّ! ذَلِكَ لأَنَّ الْجَمِيعَ سَوْفَ يَعْرِفُونَنِي، مِنَ الصَّغِيرِ فِيهِمْ إِلَى الْعَظِيمِ. لأَنِّي سَأَصْفَحُ عَنْ آثَامِهِمْ، وَلاَ أَعُودُ أَبَداً إِلَى تَذَكُّرِ خَطَايَاهُمْ وَمُخَالَفَاتِهِمْ!» وَاللهُ بِكَلاَمِهِ عَنْ عَهْدٍ جَدِيدٍ، جَعَلَ الْعَهْدَ السَّابِقَ عَتِيقاً. وَطَبِيعِيٌّ أَنَّ كُلَّ مَا عَتَقَ وَشَاخَ، يَكُونُ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الزَّوَالِ!” (الرِّسالة إلى العبرانيِّين 7:8-13)

ترتيب الأسفار في الكتاب المقدس

رتَّب اليهود أسفارهم المقدَّسة بحسب المواضيع، في حين أنَّ الأسفار في التَّرجمة السَّبعينيَّة مُرتَّبة بحسب تاريخ الكتابة المُقترَح لكل سِفر، وقد اتَّبع المسيحيُّون نمط ترتيب التَّرجمة السَّبعينيَّة وذلك أيضاً لأنَّ جيروم صاحب التَّرجمة اللَّاتينيَّة للكتاب المقدَّس في القرن الخامس استخدمَ نفس نمط التَّرتيب.

ترتيب الكتاب المقدَّس بحسب اليهود هو:

Arrangement of the Hebrew Bible

ترتيب الكتاب المقدَّس المسيحي هو:

Table

الترجمة السبعينية للكتاب المقدس

مع توسُّع الحضارة الهيلِّينيَّة وتأثيرها الكبير على اليهوديَّة الذي تخلَّله انتشار كبير للُّغة اليونانيَّة، وجدَ بعض اليهود ضرورة أن يُترجَم الكتاب المقدَّس العبري إلى اللُّغة اليونانيَّة. وكان اليهود حينها قد بدأوا يفقدون لُغَتهم الأُمّ ويستخدمون الآراميَّة عوضاً عنها، أي اللُّغة التي سادَت في تلك المنطقة بدءاً من الحُكم البابلي وصولاً إلى الحُكم الفارسي الذي جعل من اللُّغة الآراميَّة لُغة الكتابات الرَّسميَّة ولُغة تواصل بين الشُّعوب تلك الأيَّام، وقد تُرجِمت أيضاً النُّصوص العبريَّة إلى النُّصوص الآراميَّة، اللُّغة التي تكلَّم بها المسيح وتلاميذه بشكل أساسي.

تُرجِم الكتاب المقدَّس العبري إلى اللُّغة اليونانيَّة بطلَب من الملِك بطليموس الذي هو أحد خُلفاء الفتوحات اليونانيَّة على مصر. تقول القصَّة أنَّ التَّرجمة السَّبعينيَّة تمَّت من قِبَل 70 شيخاً توصَّلوا إلى نفس النَّتيجة في التَّرجمة بالرَّغم من أنَّهم ترجَموا بمعزل عن بعضهم البعض، لذلك سُمِّيَت هذه التَّرجمة بالسَّبعينيَّة نِسبَةً إلى عددهم. طبعاً هذه القصَّة لا تتعدَّى كَونها أُسطورة، فالأدلَّة من المخطوطات تقول إنَّ هذه التَّرجمة تمَّت على مراحل بدءاً من القرن الثَّالث قبل الميلاد.

تكمُن أهميَّة التَّرجمة السَّبعينيَّة بأنَّها التَّرجمة التي استخدَمها كُتَّاب العهد الجديد في كتاباتهم وذلك بحوالي 90 بالمئة من اقتباساتهم من العهد القديم. تُعلِّمنا أيضاً التَّرجمة السَّبعينيَّة درساً مهمّاً ففيها انتقال من الخصوصيَّة اليهوديَّة إلى الأُمَم، لذلك هي مهَّدت لانتشار المسيحيَّة إلى الأُمَم بطريقة لا يسَعنا سوى أن نرى فيها قيادة إلهيَّة.

فقد تُرجِمت فيها كلمات عبريَّة تحمل مفاهيم خاصَّة باليهوديَّة إلى لُغة لا تحتوي على هذه المفاهيم، مثلاً لا يوجد في اللُّغة اليونانيَّة ما يوازي الكلمة العبريَّة للتَّوراة والتي تعني “توجيهات إلهيَّة للسُّلوك في الحياة”، بل أقرب كلمة لها في اليونانيَّة هي “نوموس” والتي تعني قانون الدَّولة، وهي نفس الكلمة التي استخدَمها مُترجِموا التَّرجمة السَّبعينيَّة وكُتَّاب العهد الجديد. وهكذا كان الحال مع العديد من الكلمات كالتَّوبة والمجد والكفَّارة وغيرها. صحيح أنَّ الكلمات اليونانيَّة لا تعبِّر عن العمق اليهودي للمفاهيم، لكنَّنا نفهم الكلمات اليونانيَّة اليوم بالتَّوافق مع الأصل اليهودي ودون التَّقليل من المعنى اليوناني الجديد، فالحقيقة هي كما عبَّر عنها أحدهم أنَّ كُتَّاب العهد الجديد كانوا يكتبون باليونانيَّة لكن يفكِّرون بالعبريَّة. تُرجِم أيضاً اِسم “الله” وتغيَّر لفظ بعض أسماء الأنبياء لكي يتوافق مع اللَّفظ اليوناني الجديد.

من ألّف الكتاب المقدس؟

قبل أن نُجيب عن هذا السُّؤال يجب أن نفهم مفهوم الوَحي في المسيحيَّة. نحن لا نؤمن أنَّ هناك كُتب أُنزِلت من السَّماء، بل استخدَم الله كُتَّاباً بشريِّين لإيصال رسالته الإلهيَّة من خلالهم، فهناك إذاً عنصر بشَري وعنصر إلهي في كتابة الكتاب المقدَّس. وكما يُعبِّر عنها بطرُس الرَّسول:
“إِذْ لَمْ تَأْتِ نُبُوءَةٌ قَطُّ بِإِرَادَةٍ بَشَرِيَّةٍ، بَلْ تَكَلَّمَ بِالنُّبُوآتِ جَمِيعاً رِجَالُ اللهِ [الْقِدِّيسُونَ] مَدْفُوعِينَ بِوَحْيِ الرُّوحِ الْقُدُسِ” (رسالة بطرس الثانية 21:2)

صحيحٌ أنَّ الكتاب المقدَّس كُتب بواسطة بشَر لكن بإلهام الرُّوح القدُس، لتكون الإجابة عمَّن ألَّف الكتاب المقدَّس أنَّه كُتب بواسطة الأنبياء والرُّسل بحسب قيادة وإرشاد الله. هذا طبعاً يؤثِّر على كيفيَّة تفسيرنا للكتاب المقدَّس، فالرُّوح القدُس استخدَم المفاهيم الثَّقافيَّة السَّائدة والمعايير الحضاريَّة واللُّغويَّة والتَّاريخيَّة، وكُلُّها تؤخَذ بعين الاعتبار في التَّفسير، ناهيكم عن الأساليب الأدبيَّة. أمَّا بالنِّسبة للعامل الإلهي فهو يفترِض إذاً وجود وحدة وسط هذه التَّعدُّديَّة من الكُتَّاب والحضارات والأنواع الأدبيَّة، كَون المؤلِّف الرَّئيسي واحد حتَّى لو استخدَم كُتاباً بشريِّين في إيصال الوَحي.

وردَ في كِتاب مقدِّمة العهد الجديد لدونالد هاجنر: “إذا كانت قصَّة الخلاص هي قبل كل شيء قصَّة تاريخيَّة، فكذلك وثائق العهد الجديد التي تُسجِّل تلك الأحداث التَّاريخيَّة هي وثائق نشَأت في التَّاريخ. لم ينزل العهد الجديد من السَّماء مباشرةً من الله، ولم تمَسَّه أيدي البشر. على العكس من ذلك، فإنَّ كتاباته هي نتاج بشَر معيَّنين، عاشوا في أزمنة وأماكن محدَّدة، وكان لهم شخصيَّاتهم الخاصَّة ووجهات نظرهم المتميِّزة. ولم يكُن هؤلاء الكُتَّاب مجرَّد قنوات فارغة يتلقّون إملاءات خارقة للطَّبيعة. فكما جاء الله إلينا من خلال كائن بشَري، يسوع، كذلك تأتي كلمة الله إلينا بطريقة مماثلة من خلال الكلمات البشريَّة. هذا هو جوهر المسيحيَّة وهو في غاية الأهميَّة. ومن ثمَّ فإنَّ تسجيل وتفسير أعمال الله الخلاصيَّة الواردة في العهد الجديد هو في حدّ ذاته مجموعة من البيانات التَّاريخيَّة… يظلّ اللَّاهوت والتَّاريخ مرتبطَين ببعضهما البعض بشكل لا ينفصِم.”

فهم الكتاب المقدَّس مهمّ جدّاً لأنَّه مصدر التَّطبيقات التي يجب أن نتمِّمها وهو المشرِّع للحياة المسيحيَّة، لذلك نحن نحتاج لفهم ما كان يقصِده النَّص لقُرَّائه الأوائل لكي نستطيع أن نعرف ما يريد أن يقوله لنا اليوم وكيف يمكننا تطبيقه في حياتنا. يتطلَّب هذا اتِّباع أُسُس تفسيريَّة محدَّدة، فلَطالما نحن نفترض أنَّ هناك عاملاً إلهيّاً بالتَّأليف فهذا يعني أنَّ الكتاب يقدِّم رسالة واحدة لا يمكن أن تُناقِض بعضها، لذلك لا يجب أن تصِل الاستنتاجات التَّفسيريَّة إلى إظهار تناقُضات وإلَّا سيكون تفسيرنا خاطئ، بل يجب أن نركِّز على السِّياق الأوسع لكل نَصّ وذلك يتضمَّن سِياق كل آية في النَّص الذي ذُكِرت فيه، سِياق كل نَصّ في السِّفر الذي ذُكِر فيه وسِياق كل سِفر في الكتاب المقدَّس ككُل. عامل مهمّ آخر في التَّفسير هو الأنواع الأدبيَّة المختلفة في الكتاب المقدَّس.

Work of the holy spirit AR graphic

الأنواع الأدبية في الكتاب المقدس

من المهم معرفة الأنواع الأدبيَّة للكتاب المقدَّس لأنَّ ذلك أساسي في تفسير وفهم الكتاب المقدَّس. لا يمكننا أن نفسِّر الأسفار النَّبويَّة الرُّؤيَويَّة كما نفسِّر أيّ نَصّ فيه سِفر تاريخي، فكل أُسلوب أدبي له نمط معيَّن في التَّفسير. بإمكاننا أن نعطي مثالاً من الجرائد المحلِّيَّة، فعند قراءتك لإحداها لن تفهم الرَّسم الكاريكاتوري كما تفهم المقال الافتتاحي، فكل فقرة تستخدِم معها أُسلوب معيَّن للفهم، في الرَّسم الكاريكاتوري تحاول أن تفهم المعنى المتضَّمن في الرَّسم الذي أراده الكاتب، ويتمّ ذلك عبر تفكيكك لبعض الرُّموز ومعرفتك بالأحداث الحاصلة في البلاد. أمَّا في قراءة النَّص العادي فلن تحتاج إلى هذا العمق لأنَّ الكاتب يوضح قصده في النَّص، إذ لا يكون هدفه أن يكتب بطريقة مبطَّنة بل واضحة ومُعلَنة.

في الكتاب المقدَّس توجد أسفار تستخدِم رموزاً لإيصال الحقائق الرُّوحيَّة (كسِفر رؤيا يوحنَّا)، ونصوص أُخرى أيضاً (كأجزاء من الأسفار التَّاريخيَّة والأنبياء) وجميعها تحتاج إلى معرفة بالرُّموز التي نكتسبها من المعرفة العامَّة بالكتاب المقدَّس ومن الخلفيَّة التَّاريخيَّة للأحداث (ما كان يحصل حينها). أمَّا النُّصوص التَّاريخيَّة ففيها سَرد لأحداث تاريخيَّة نفهمها كما نقرأ أيّ نَصّ تاريخي لكن مع الأخذ بعين الاعتبار أنَّها كُتِبت من وجهة نظر الرُّوح القدُس ومن أجل تعليمنا.

“فَإِنَّ كُلَّ مَا سَبَقَ أَنْ كُتِبَ فَإِنَّمَا كُتِبَ لِتَعْلِيمِنَا، حَتَّى يَكُونَ لَنَا رَجَاءٌ بِمَا فِي الْكِتَابِ مِنَ الصَّبْرِ وَالْعَزَاءِ.” (رسالة بولُس إلى أهل روما 4:15)

هناك أنواع أدبيَّة أُخرى في الكتاب المقدَّس:

Bible genres

ترجمات الكتاب المقدس

في بداية ثلاثينيَّات القرن السَّادس عشر كانَ وِليَم تِندِل على وشك أن يواجه الحُكم بالإعدام بتهمة ترجمة الكتاب المقدَّس. قد نستغرب هذه التُّهمة ولماذا كانت سبباً في إدانة وِليَم، لكن تلك الأيَّام كان الدِّين مُعتقَد الدَّولة، لذلك أيّ تعليم يُخالِف السُّلطة الدِّينيَّة آنذاك كان يُعتبَر جريمة يُعاقِب عليها القانون. طبعاً هذه الممارسة تخلَّت عنها الدُّوَل ذات الطَّابع المسيحي، فقد أظهرَ لنا التَّاريخ أنَّها ممارسات خاطئة وهي في الأساس تُعاكِس تعاليم المسيح. والدُّوَل المسيحيَّة كانت هي السَّبَّاقة في إرساء حريَّة التَّعبير في قوانينها لاحقاً.

بالنِّسبة لكنيسة روما وسُلطتها الدِّينيّة في ذاك الوقت كان ممنوعاً على الكتاب المقدَّس أن يُترجَم بل يجب أن يُقرأ باللُّغة اللَّاتينيَّة التي هي لُغة المثقَّفين واللُّغة التي تليق بمقام الكتاب المقدَّس، ولا يمكن ترجمته للُّغات العامَّة البربريَّة على حَدّ تعبيرهم. واحدة من الخلافات الكبيرة بين المُصلِحين البروتستانت وبين كنيسة روما الكاثوليكيَّة هي عقيدة تُسمَّى “وضوح الكتاب المقدَّس”. بالنِّسبة للمُصلِحين كل من يقرأ الكتاب المقدَّس بلُغته سيَفهم الرِّسالة الأساسيَّة فيه. لم يُنكِر المُصلِحون البروتستانت الذين كان وِليَم تِندِل واحداً منهم أنَّ هناك أجزاء صعبة الفهم في الكتاب المقدَّس، لكن ما قصَدوه بـ”وضوح الكتاب المقدَّس” أنَّ رسالة الإنجيل أي رسالة الخلاص ستكون واضحة لكل من يقرأها. أمَّا بالنِّسبة لكنيسة روما الكاثوليكيَّة فيجب أن يُقرأ الكتاب المقدَّس فقط بعيون رجال الدِّين التَّابعين لكنيسة روما.

لكن المشكلة هنا أنَّ الكتاب المقدَّس لم يُكتَب باللَّاتينيَّة بل باليونانيَّة القديمة. وأيَّة يونانيَّة التي كُتب بها العهد الجديد طالما هي ليست اليونانيَّة الكلاسيكيَّة وليست اليونانيَّة المعاصرة؟ احتار العلَماء في تصنيف اللُّغة التي كُتب بها العهد الجديد، فبالنِّسبة للعلَماء المسيحيِّين: استخدَم الرُّوح القدُس لُغة خاصَّة لكي يُعلِّم بها الكنيسة، لكن مُكتشَفات حديثة من القرن الماضي لوثائق تاريخيَّة أظهرَت أنَّ اللُّغة اليونانيَّة التي كُتب بها العهد الجديد هي لُغة التَّواصل العامِّيَّة بين النَّاس تلك الأيَّام أي لُغة الشَّعب التي كان يتحدَّث بها كل يوم، لذلك سُمِّيت بـ”اليونانيَّة العامَّة” ليُعلِّمنا التَّاريخ درساً ثميناً يجب أن نُبقيه في أذهاننا أنَّ اللُّغات التي يستخدمها الرُّوح القدُس هي لُغات النَّاس العامَّة التي يفهمها الجميع.

كان وِليَم تِندِل مُصِرّاً على ترجمة الكتاب المقدَّس وقد كانت صرخته عند تلقِّيه حُكم الإعدام: “يا رب اِفتح عيون ملِك إنجلترا”. كان ملِك إنجلترا في ذلك الوقت هو هِنري الثَّامن الذي كان منفصِلاً سياسيّاً عن كنيسة روما لكنَّه لا يزال قريباً فكريّاً منها. استجاب الله لصلاة تِندِل وفي فترة لاحقة أدخَل الملِك هِنري إلى بلاده بعض النُّسَخ من الكتاب المقدَّس بترجمة تِندِل بهدف إغاظة كنيسة روما، فكانت نتيجة ذلك مهولة وغير متوقَّعة حتَّى من الملِك نفسه، وقد أحدثت هذه التَّرجمة نهضة واسعة في البلاد بسبب عودة النَّاس إلى مسيح الأناجيل عبر قراءتهم للكتاب المقدَّس بلُغتهم الأُمّ.

إحدى مخاوف كنيسة روما كانت الانشقاقات التي من الممكن أن تحصل إذا أخذَ كل شخص على عاتقه تفسير الكتاب المقدَّس بنفسه أو إذا ظهرت كنائس كثيرة ومتنوِّعة بعيداً عن سُلطتها. هذا التَّخوُّف قد يبدو مُبرَّراً للوهلة الأولى، وقد أظهره أبو الإصلاح البروتستانتي “مارتن لوثر” عندما بدأت جماعات دينيَّة مختلفة تظهر آنذاك في ألمانيا وتدَّعي تفسيرها للكتاب المقدَّس، لكنَّه قال إن وجود الكتاب المقدَّس في أيدي عامَّة النَّاس بلُغتهم يستحق هذا العناء ولا يجب أن نسمح لهذه المخاوف أن تمنع الكتاب المقدَّس عن العامَّة. ومنذ ذلك الوقت ابتدأت الإرساليَّات المسيحيَّة المختلِفة تُترجِم النُّصوص المقدَّسة إلى لُغات عديدة ليصبح الكتاب المقدَّس أكثر كتاب تُرجِم إلى لُغات أُخرى عبر التَّاريخ، وأوسَع الكُتب انتشاراً.

لدينا مقال آخر يتحدَّث بشكل مختصر عن التَّوجُّه العام والأُسلوب لكل ترجمة عربيَّة في التَّرجمات الأكثر تداولاً اليوم، لكنَّنا سنذكُر هنا بشكلٍ عام ما يجب أن تعرفه قبل اختيارك لقراءة ترجَمة محدَّدة للكتاب المقدَّس. أكثر التَّرجمات انتشاراً عند المسيحيِّين العرب هي (ترجمة البُستاني-فاندايك)، لكن هذه التَّرجمة قديمة وعمرها أكثر من 100 سنة وهي تستخدم بعض الكلمات العربيَّة التي لم يعُد من الشَّائع استخدامها حاليّاً، بالإضافة إلى أنَّها تتبِّع نهجاً حرفيّاً في ترجمة النُّصوص التي لا تحتمل التَّفسير الحرفي كالنُّصوص الشِّعريَّة العبريَّة مثلاً والتي ستكون صعبة على القارئ العربي الذي لا يفهم خصوصيَّتها، وهذه النُّصوص يجب أن تُترجَم بطريقة تفسيريَّة أي ترجمة المعنى وليس كلمة لكلمة.

هناك ترجَمات أحدَث وأسهل (كترجَمة الحياة والتَّرجمة العربيَّة المبسَّطة)، نصيحتي هي أن تقرأ عدَّة ترجَمات وأن تجعل قراءتك الرَّئيسيَّة من التَّرجمة التي ترتاح في قراءتها. أيضاً توجد ترجَمتان تُغاليان في التَّرجمة التَّفسيريَّة (كالتَّرجمة العربيَّة المُشترَكة وترجمة الشَّريف)، وهذا أيضاً غير مُحبَّذ لأنَّ المُترجِم سيكون مُجبَراً على وضع تفسيره خلال ترجمة بعض النُّصوص والذي قد يكون مخطئاً به. أيضاً توجد (ترجمة ما بين السُّطور) والتي تذكُر أمام كل كلمة من اللُّغة الأصليَّة نظيرتها من اللُّغة العربيَّة، وهي تُستخدَم في الدِّراسات اللَّاهوتيَّة. يوضِّح الرَّسم التَّالي توجُّه كل ترجمة بالتَّبايُن مع الأُخرى.

Bible translation comparison in arabic

كيف ندرس الكتاب المقدس؟

صحيحٌ أنَّ الرِّسالة الأساسيَّة للكتاب المقدَّس واضحة وسيَفهم أيّ قارئ جَدّي حاجته للمسيح وما صنع المسيح من أجله، لكن هذا لا يعني أنَّنا لن نصطدِم بنصوص صعبة وعسِرة الفهم ونشعر فيها أنَّنا بحاجة للمساعدة. واحدة من أبرز الأسباب التي تجعل النُّصوص صعبة الفهم هي ابتعادنا زمنيّاً عن الشُّعوب التي كُتِبت لها النُّصوص أي القُرَّاء الأوائل، فالعديد من التَّفاصيل تغاضى الكُتَّاب عن ذِكرها لأنَّهم يفترضون أنَّ القارئ الأوَّل يعرف التَّفاصيل المطلوبة لفهم النَّص ولا يحتاج إلى شرح مُفصَّل للأحداث والأُمور. فمثلاً كل رسالة من رسائل العهد الجديد هي موجَّهة لمعالجة قضايا محدَّدة أو للرَّد على انتقادات التي في الكثير من الأوقات لا نعرف ما هي بل فقط نحاول أن نستنبطها من الرِّسالة نفسها، الأمر يُشبه سَماعك لمُكالمة هاتفيَّة من طرَف واحد ومحاولة استنتاج ما يقوله الطَّرف الآخر.

لذلك من المهمّ معرفة الخلفيَّة التَّاريخيَّة لكل نَصّ (أي ما كان يحصل حينها) وذلك عبر العودة إلى التَّاريخ وفهم تلك الحضارات وكيف كانت تعيش الشُّعوب آنذاك. كما أنَّه من المفيد النَّظر إلى الخرائط الموجودة في كل نسخات الكتاب المقدَّس. وأحياناً أيضاً يكون من الضَّروري الاطِّلاع على النَّص في اللُّغة الأصليَّة لأنَّ التَّرجمات قد لا توصِل لنا المعنى المطلوب في بعض المواضع، لذلك نستعين بكتابات من درَسوا تلك الأُمور (كُتب التَّفاسير أو كُتب لاهوتيَّة عامَّة).

هناك العديد من المواقع التي بإمكانك التَّوجُّه إليها فهي توفِّر ترجمة ما بين السُّطور مع تفاصيل لمختلف النُّصوص الكتابيَّة. لا تتردَّد بالتَّواصل معنا إن كان لديك أي سؤال أو استفسار.


مقالات مُشابِهة

الثالوث في الكتاب المقدس
آيات من الكتاب المقدس عن الإيمان
عدد أسفار الكتاب المقدس


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.