يسوع يهدئ عاصفة وهو على القارب

يقول المسيح أنَّ الآب هو الإله الحقيقي وحده، لكن هل أنكَرَ المسيح أُلوهِيَّة نفسه بهذا القول؟ هذا هو السُّؤال الذي سنجيب عنه في المقال التَّالي.

يقول الرَّب يسوع: “وَالْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ هِيَ أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقَّ وَحْدَكَ، وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ) .”إنجيل يوحنَّا 3:17)

يقول البعض أنَّ يسوع في هذا القول ينكر أنَّه إله ويُلغي أقواله الأُخرى وشهادة الكتاب المقدَّس ككل عن إعلان أُلوهيَّته، وأنَّنا يجب أن نعيد صياغة كل أقوال المسيح لتتوافق مع هذه الآية (أي ننفي أُلوهيَّة المسيح). لكن تصريح يسوع هنا لا ينفي أُلوهيَّته، ولا يقصد به أن ينكرها، وإليكم ثلاث أسباب نشرح بها ذلك.

أوّلاً: الأسلوب الذي تحدث به يسوع ليس جديداً

هذا النَّمط من الأقوال ليس جديداً ولم يبتكِرهُ المسيح، بل يمتلئ به الكتاب المقدَّس بعهديه، ففي أكثر من آية يذكُر لنا الله شخص مُعيَّن يشاركه رُبوبيَّته في إطار الوحدانيَّة الإلهيَّة دون أن ينفي الرُّبوبيَّة عن نفسه، مثال على ذلك: “قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ.” (مزمور 1:110)

هذه الآية من العهد القديم هي من أكثر الآيات المُستخدَمة في العهد الجديد ودائماً ما يُقصد بها الإشارة للمسيح، وقد استخدَمها يسوع لكي يُظهِر لليهود أنَّه أكثر من مُجرَّد اِبن داوُد، بل هو رَبّ داوُد أيضاً:

Old testament in arabic

“وَفِيمَا كَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ مُجْتَمِعِينَ، سَأَلَهُمْ يَسُوعُ: «مَا رَأْيُكُمْ فِي الْمَسِيحِ: ابْنُ مَنْ هُوَ؟» أَجَابُوهُ: «ابْنُ دَاوُدَ!» فَسَأَلَهُمْ: «إِذَنْ، كَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبّاً لَهُ إِذْ يَقُولُ: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟ فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبَّهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟»” (إنجيل متَّى 42:22-45)

وقد سبقَ وأعلنَ الله عن وحدانيَّة ربوبيَّته أيضاً:

“اسْمَعُوا يَابَنِي إِسْرَائِيلَ: الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ” (سِفر التَّثنِية 4:6)

ولا تفسير لهذه الآيات كوِحدة مُتناسِقة بمعزِل عن وحدانيَّة الآب والاِبن في الجوهر، ولا توفيق بين كل النُّصوص التي تُعلِن أُلوهيَّة الاِبن والأُخرى التي تُعلن أُلوهيَّة الرُّوح القدُس سِوى عبر عقيدة الثَّالوث فالآب والاِبن يتشاركان الرُّبوبيَّة الواحدة، والصُّورة المُستخدَمة في مزمور 1:110 هي لمَلِك جالِس على العرش وعن يمينه يجلس من يُشاركه العرش.

وردَ في كتاب “جَعلْ المسيح في مكانهِ الصَّحيح” كتفسير لهذا الأمر ما يلي: “تطلَّبت البروتوكولات (تلك الأيَّام) أن يُبقي كل رعايا الملك رؤوسهم بمستوى أدنى من رأس الملك بكل الأحوال والظُّروف. وهذا النَّوع من البروتوكول المُلوكي كان معروفاً في مُعظَم الحضارات إلى حين قيام الدِّيمُقراطِيَّات في العالَم المُعاصر. وإعلان يسوع أنَّه سيجلس عن يمين الآب كأنَّه يقول بحسب مفهوم تلك الحضارات أنَّ رأسه سيكون نفس مستوى رأس الملك (الآب)”.¹

trinity in arabic

نفهم بذلك أنَّ يسوع بهذا القول لا يقصد نَفي الأُلوهيَّة عن نفسه. وحين استخدَم كلمة “الإله الحق وحدكَ” في يوحنَّا 3:17 فذلك لتمييز الله عن الآلِهة المُزيَّفة، وبهذا القول لا ينكر يسوع الثَّالوث بل يُثنِّي عليه فهو يستخدم في قوله ذاك نفس الصِّياغة التي وردَت في الآية الأولى من مزمور 110. يقول العالِم جيمس وايت: “كيف كان من الممكن للمسيح أن يُعلِن الحق التَّوحيدي؟ بما أنَّه ليس إله مُنفصِل عن الآب (هو أُقنوم مُنفصِل لكنَّه مُساوٍ للآب في الجوهر)، كيف يمكن لإعلانه أُلوهيَّة الآب أن يكون نُكران لأُلوهيَّته؟… هل كان ممكن للمسيح أن ينكر أُلوهيَّة الآب؟… يسوع قال الحق أنَّه يوجد إله واحد، وبكونه إله كامل وإنسان كامل، صلَّى للإله الوَحيد كما هو مُتوقَّع (أُقنوم الاِبن صلَّى لأُقنوم الآب)”.²

يقول العالِم ريتشارد بوخوم: “إنَّ ترفيع يسوع لعرش الله السَّماوي، لم يكُن يعني للمسيحيِّين الأوائل الذي كانوا من خلفيَّة يهوديَّة مُوَحِّدة سوى تضمينه في الهويَّة المُميَّزة لله، والآية المُقتبَسة في العهد الجديد من (مزمور 1:110) تُظهِر إدراكهم الكامل لهذه الحقيقة، وقد تعمَّدوا استخدام مفهوم التَّوحيد اليهودي (في تعليمهم عن المسيح) لجعل هذه الفكرة لا لَبس فيها”.³


نفهم بذلك أنَّ يسوع بهذا القول لا يقصد نَفي الأُلوهيَّة عن نفسه


ثانيا: الآب يتكلم بنفس اللغة عن المسيح

في الإصحاح الأوَّل من الرِّسالة إلى العبرانيِّين يسرد الكاتب أقوال الله الآب، وفي إحداها يقول عن المسيح أنَّه الله أيضاً:

“إِنَّ اللهَ… كَلَّمَ آبَاءَنَا بِلِسَانِ الأَنْبِيَاءِ… فَلأَيِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ قَالَ اللهُ… وَلَكِنَّهُ يُخَاطِبُ الابْنَ قَائِلاً: «إِنَّ عَرْشَكَ، يَااللهُ، ثَابِتٌ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ”.

يتحدَّث هذا الإصحاح بشكل بارِز عن أُلوهيَّة الاِبن، والتي يُعلِنها الله الآب بنفسه، فهل نفهم أنَّ الآب بذلك ينفي الأُلوهيَّة عن نفسه؟ إذا فهمنا قول يسوع في يوحنَّا 3:17 أنَّه نَفي للأُلوهيَّة فيجب أن نفهم وفق نفس المعيار التَّفسيري أنَّ قول الآب في الرِّسالة إلى العبرانيِّين هو نَفي لأُلوهيَّته، الأمر الذي يُعتبَر مُغالَطة كُبرى. وهذا يقودنا للنُّقطة الثَّالثة وهي ضرورة وُجوب أساس تفسيري مُتَّسِق لنُصوص الكتاب المقدَّس يُثبِت صحَّة عقيدة ما من عدَمها.

ثالثا: الأسلوب التفسيري المتسق يدعم التفسير المسيحي

لكي نفهم طبيعة الله علينا أن نفهم إعلان الكتاب المقدَّس ككُل وليس عبر انتقاء جزء دون آخر. التَّفسير يجب أن يكون عبر مُلاحظة سِياق النَّص والقرائِن القريبة والبعيدة والخلفيَّة التَّاريخية ومُقارنة كل نَصّ عَسِر الفهم بنَصّ أوضَح حول نفس الموضوع لكي نفهم المقصود. والنِّظام التَّفسيري الصَّحيح هو الذي يستطيع تفسير كل النُّصوص بنفس الطَّريقة بشكل مُتَّسِق دون الاضطِرار إلى فرض طريقة مختلفة في التَّفسير على كل نَصّ لكي نجعله يتوافق مع أفكارنا اللَّاهوتيَّة.

لا نستطيع أن نُفسِّر كل النُّصوص التي تتحدَّث عن أُلوهيَّة أو بشَرِيَّة المسيح بشكل مُتَّسِق سوى عبر الثَّالوث والتَّجسُّد. هذه العقائد كانت الرَّكائز الأساسيَّة لإيمان المسيحيِّين الأوائل، والتي لا تزال معيار الإيمان المسيحي القويم وكل من يُخالِف ذلك يبتعد كل البُعد عن العقائد المسيحيَّة الأُخرى، فكُلّها ترتكز على الإله المُثلَّث الأقانيم كنُقطة انطلاقة لتعاليم الإيمان المسيحي ككُل.

  1. Putting Jesus in His Place: The Case for the Deity of Christ. Robert M. Bowman Jr., J. Ed Komoszewski, Darrell L. Bock.
  2. The Forgotten Trinity. James R. White.
  3. God Crucified: Monotheism and Christology in the New Testament. Richard Bauckham.


مقالات مُشابِهة

ما هي نبوءات العهد القديم التي تممها يسوع؟
لماذا قال يسوع أنه لا يعرف ساعة مجيئه؟
ماذا يعني أن يسوع هو رئيس كهنتنا؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.