بعدما تحدثنا في مقال سابق عن تعريف النقد النصي، نأتي الآن إلى تطبيقه على مخطوطات العهد الجديد.
عدد مخطوطات مؤلفات أدبية تاريخية شائعة
لم يكن بإمكاننا معرفة الكثير عن حضارة الرُّومان لولا أنَّ المُؤرِّخ الرُّوماني “ليفي” الذي عاش في بدايات القرن الأوَّل، كتب لنا الكثير من التَّفاصيل التي تُشكِّل مُعظم ما نعرفه عن الحضارة الرُّومانيَّة. لا نملك المخطوطة الأصليَّة لهذا الكاتب، بل أقدم مخطوطة له تبعد 300 سنة عن النسخة التي خطَّها بيده، وهو فارق زمني كبير. كما أنَّنا قد حصلنا على المعلومات من خلال التَّحقُّق النَّصِّي لـ 30 نسخة فقط موضوعة للبحث، وهو رقم صغير جداً بالمقارنة مع مخطوطات العهد الجديد.
مؤرِّخ روماني آخر يُدعى “تاسيتوس” زوَّدنا أيضاً بمعلومات مهمَّة عن تاريخ الرُّومان. أوَّل نسخة وُجدت له تبعد مدَّة 800 سنة عن النسخة الأصليَّة، مع وجود ثلاث نسخ فقط للبحث فيها.
أمَّا بالنِّسبة للإلياذة، فهي أكثر الكتب القديمة التي لديها مخطوطات، إذ تبلغ 1,757 مخطوطة، وأقدم ورقة موجودة تعود إليها تأتي بعد حوالي 500 سنة من كتابتها. فالفارق الزَّمني بين تاريخ كتابتها أوَّل مرَّة وبين أقدم نسخة موجودة كبيرٌ جداً بالمقارنة مع مخطوطات الكتاب المقدَّس كما سنُبرهن لاحقاً.
كل هذه الوثائق التاريخيَّة موثوق بها، ويُبنى عليها سرد التاريخ، وتُدرَس الحضارات في الأوساط الأكاديميَّة بناءً علی هذه المصادر، على الرغم من قلَّة الكتابات الموجودة التي تعود إليها إذا ما قارنَّاها بمخطوطات العهد الجديد.4321
عدد مخطوطات العهد الجديد
إذا نظرنا إلى مخطوطات كتاب العهد الجديد الموجودة اليوم، فالفرق شاسع، إذ إنَّ عددها يصل إلى 5,800 مخطوطة باليونانيَّة، و10,000 مخطوطة بالتَّرجمة اللَّاتينيَّة، وحوالي 15,000 بترجمات إلى لُغات مختلفة. في اللُّغة القبطيَّة وحدها يوجد حوالي 1,500 نسخة، تعود أقدمها إلى بدايات القرن الثالث. أمَّا في السِّريانيَّة فنجد مئات النُّسخ، كما تمَّت ترجمة بعضها إلى الجورجيَّة والعربيَّة والآراميَّة. هذا عدد كبير ومميَّز مقارنةً بأيّ كتاب قديم، هذا الكَمّ من المخطوطات يُمكِّن الباحثين من التَّحقُّق من النُّصوص الأصليَّة من خلال دراسة المخطوطات وتحليلها ومقارنتها مع بعضها البعض.5
علاوةً على ذلك، تنتشر نصوص العهد الجديد في مناطق جغرافيَّة متباعدة، ممَّا يؤدِّي إلى تعدُّد خطوط النَّقل، وهو ما يمنع أيّ فئة من التَّحكُّم في النُّصوص أو ممارسة أيّ تحريف مُمنهَج. وعند جمع المخطوطات من مناطق جغرافيَّة مختلفة، نجدها تحمل النُّصوص ذاتها والأفكار نفسها، رغم أنَّ النُّسخ لم تبقَ مرتبطة بمكان أو فئة واحدة، بل امتدَّت إلى الشَّرق الأوسط ومصر، مروراً بشمال إفريقيا، وصولاً إلى تُركيا، اليونان، إيطاليا، وغيرها. ورغم أنَّ هذه النُّسخ نُسِخت في فترات زمنيَّة متفاوتة، إلَّا أنَّها تُظهِر في النِّهاية النُّصوص ذاتها، مع اختلافات طفيفة جداً إذا ما قورنَت بعدد المخطوطات الهائل.
في عِلم دراسة المخطوطات، كلَّما زاد عدد المخطوطات أكثر، زادت احتماليَّة الأخطاء أكثر، وهو أمر طبيعي. ومع ذلك، تُحَلّ هذه الأخطاء من خلال المقارنة بين المخطوطات كما سوف نوضح لاحقاً. هذا دليل قوي جداً على سلامة هذه النُّصوص، ويُظهر قوَّة العهد الجديد، ويُثبت أيضاً أنَّه كان محميّاً من تدخُّل السُّلطات البشريَّة. إذ إنَّ تنوُّع خطوط النَّسخ وانتشارها إلى بلدان مختلفة يحمي النُّصوص من أن تتحكَّم بها سُلطة معيَّنة أو أن تُضيف إليها معاني أو أفكاراً لاهوتيَّة جديدة. فأيّ تلاعُب من هذا النَّوع سيظهر لاحقاً عند التَّحقُّق والمقارنة.
مخطوطات العهد الجديد
أقدم نسخة كاملة من العهد الجديد بين أيدي العُلَماء اليوم تُعرَف بِاسم “كودكس سينايتكوس” وهي موجودة في المكتبة البريطانيَّة في لندن، وتعود إلى بدايات القرن الثالث. ما يُثبت سلامة النَّقل هو أنَّ النَّص في كودكس سينايتكوس مطابق تماماً لرُقعة تُعرف بِاسم (P75) والتي يعود تاريخها إلى 175 م، وهي موجودة حالياً في مكتبة الفاتيكان في روما. وعلى الرغم من أنَّ الفارق الزَّمني بينهما 150 سنة، وأنَّ كودكس فاتيكانوس لم يُنسخ مباشرةً عن هذه الرُّقعة، بل يعود إلى خط نقل مختلف، إلَّا أنَّ العُلَماء أكَّدوا بناءً على أدلَّةٍ من عِلم المخطوطات أنَّهما يتطابقان بشكل شِبه تامّ. هذا دليل قوي علی سلامة النَّقل ويؤكِّد ما قلناه سابقاً عن أهميَّة الانتشار الواسع لمخطوطات الكتاب المقدَّس، وهو ما حَماهُ من أيدي المُخرِّبين ومنعَ التَّلاعُب بالنُّصوص. هنا نرى يد لله الحافظة للوَحي. إنَّ هذا التَّطابق شِبه التَّام بين مخطوطتين مختلفتين جغرافيّاً وزمنيّاً هو خير دليل على سلامة الأسفار.
إنَّ (P75) تُعطينا لمحة عن مدى حرص الكنيسة الأولى على العناية والدِّقَّة في نسخ المخطوطات. ولدينا أيضاً رُقع (أي ما تبقَّى من مخطوطات أُتلِفت بفعل الزَّمن)، منها ما يُعرَف بِاسم (P52) وهي محفوظة في جامعة مانشستر بإنجلترا. وُجدت هذه الرُّقعة صُدفةً على يد كولين روبرتس عام 1930، وتعود إلى بدايات القرن الثاني، بل ورُبَّما إلى أواخر القرن الأوَّل. وعلى الرغم من صغر حجمها، فإنَّها تُعَدّ كنزاً تاريخيّاً تُظهر إيمان من احتفظ بها، في ظِل عصر كان يُقتل فيه كُلّ من يقتني كتاباً مقدَّساً أو أجزاء منه. ففي ذلك الوقت كانت الكنيسة لا تزال قوَّة مُستضعَفة وصغيرة تتعرَّض للاضطهادات، ولم تكُن دولة قويَّة لها جيش وسُلطة على كل ما يتعلَّق بالإيمان أو النُّصوص المقدَّسة.
تحتوي هذه الرٌّقعة من جهة على نَصّ من إنجيل يوحنَّا 17 والآيات من 31 إلى 33، ومن الجهة الأُخرى على نَصّ من إنجيل يوحنَّا 18 والآيات 37 و38. ومنذ اكتشافها، تمَّ العثور على العديد من المخطوطات الأُخرى، وجميعها تتطابق مع النُّصوص المُتداولة في الإنجيل، باستثناء الاختلافات الطَّبيعيَّة التي قد تنشأ أثناء عمليَّة النَّسخ، وهو ما نحن بصدد الحديث عنه. إذًا على الرغم من أنَّ (P52) نُسِخت مراراً وتكراراً، فإنَّها تحتوي على نفس الكلمات الموجودة في مخطوطة كودكس ألكسندرينوس، والتي يعود تاريخها إلى حوالي عام 400 م.
غالباً ما يعترض النُّقَّاد المُشكِّكون على إنجيل يوحنَّا، ويقولون إنَّه كُتِبَ في وقت مُتأخِّر من القرن الثاني أو الثالث، وبالتالي يزعمون أنَّ إنجيل يوحنَّا ليس من كتابة يوحنَّا الرَّسول، بل هو انتحال لشخصيَّته. لكنَّ الله بحكمته، ولإسكات أفواه هؤلاء الذين يدَّعون المعرفة والفهم، سمحَ بوجود رُقعة كهذه من إنجيل يوحنَّا يعود تاريخها إلى زمن مُبكِّر جداً، ممَّا يُظهِر خطأ هؤلاء العُلَماء، وغيَّر رأي الكثيرين منهم حول زمن كتابة إنجيل يوحنَّا.
نذكُر أيضاً (P20) التي يعود تاريخها إلى أواخر القرن الثاني، وتحتوي على أجزاء من الإصحاحين الثاني والثالث من رسالة يعقوب، و(P72) التي تعود إلى بدايات القرن الثالث، وتحتوي على أجزاء من رسالة بطرُس الثانية ورسالة يهوذا، وتحتوي على الكلمات الشَّهيرة في رسالة بطرُس الثانية (1:1) التي تدعو الرَّب يسوع له المجد بوَصفهِ (إلهاً ومُخلِّصاً). تُعَدّ هذه المخطوطة (P72) رائعة جداً من ناحية وضوح الكلمات، ويمكن لقُرَّاء العهد الجديد باللُّغة اليونانيَّة قراءتها بسهولة دون ملاحظة أيّ فرق بين نسخة حديثة ونسخة عمرها حوالي 1,800 سنة.
كما لدينا (P66) التي تحتوي على أجزاء من إنجيل يوحنَّا، وتعود إلى نهايات القرن الثاني. تُظهِر هذه المخطوطة الآية الأولى من يوحنَّا (1:1)، التي تشهد بأنَّ “الكلمة كان الله”، وهي محفوظة في متحف كولوين بسويسرا.
أمَّا (P46) التي يعود تاريخها إلى حوالي عام 200 م، فهي محفوظة في إيرلندا وتحتوي على معظم كتابات بولس، بالإضافة إلى الرِّسالة إلى العبرانيِّين. تشمل هذه المخطوطة أيضاً رسالة فيلبِّي والآية الشَّهيرة التي تُشير إلى أُلوهيَّة الرَّب يسوع (فيلبِّي 6:2)، إذافةً إلى العديد من الأجزاء الأُخرى.
ما يقارب نصف العهد الجديد موجود لدينا على مخطوطات تعود إلى القرن الثاني الميلادي، وهي 12 مخطوطة مطابقة بشكل شِبه تامّ مع ما يوجد بين أيدينا اليوم. تحتوي هذه المخطوطات على أجزاء من الأناجيل الأربعة، أعمال الرُّسل، أجزاء من بعض الرَّسائل، ورؤيا يوحنَّا، بالإضافة إلى 120 مخطوطة أُخرى تعود إلى القرن الثالث. وبالتالي، يظهر هنا قِدَم مخطوطات العهد الجديد التي تترواح بين 120 و300 سنة بعد كتابتها، وهي موجودة بين أيدينا الآن. سلامة هذه المخطوطات تتَّضح من النَّاحية التاريخيَّة، المنطقيَّة، وبالمقارنة مع غيرها من الكتابات القديمة.6
والجدير بالذِّكر أنَّه حتى لو لم تكُن لدينا أيّ من المخطوطات القديمة أو النُّصوص المكتوبة أو الأدلَّة المادِّيَّة، يمكننا جمع نصوص العهد الجديد بالكامل من اقتباسات رجالات الكنسية الأوائل للآيات الكتابيَّة التي تتخطَّى المليون اقتباس، وتمتد من القرن الأوَّل حتى نهاية الألفيَّة الأولى. هذه الاقتباسات موجودة في رسائلهم، شروحاتهم، وتفاسيرهم، ممَّا يؤكِّد حفظ النُّصوص ونقلها بدقَّة عبر الزَّمن.
بعض الانتقادات على سلامة مخطوطات العهد الجديد
ولكن على الرغم من كل ما قدَّمناه من أدلَّة كثيرة، نجد انتقادات لاذعة تطال سلامة أسفار العهد الجديد. إذا أردنا أن ننتقد سلامته على الرغم من كل هذه الأدلَّة، فلننسَ إذاً كل ما تعلَّمناه عن التاريخ وكل الكتابات القديمة، لنعود إلى العصور المظلمة. لأنَّ نفس معايير النَّقد التي تُطبَّق على العهد الجديد لو طبَّقناها أيضاً على النُّصوص التاريخيَّة الأُخرى، لما استطعنا أن نثق بأيّ نَصّ قديم. فعندما يتعلَّق الأمر بالكتاب المقدَّس، دائماً تُطلب أدلَّة غير منطقيَّة، لكن حين يكون الموضوع عن كتاب أدبي آخر، فهذه المُطالَبة لا تجد صدى.
بارت إيرمان هو أحد أشهر النُّقَّاد، وهو الذي ردَّد كثيراً في محاضراته ومناظراته أنَّه لا يمكننا الوثوق بالكتاب المقدَّس حتى بعد التَّحقُّق من النُّصوص. وقد ذكر في كتابه (سوء اقتباس يسوع) في إحدى الصَّفحات: “ليس بين يدينا مخطوطة أصليَّة للعهد الجديد ولا حتى نسخة عن الأصليَّة أو حتى نسخة عن نسخة عن الأصليَّة… كل ما بين يدينا هو نُسَخ متأخِّرة ومليئة بالأخطاء”.³ يظهر هنا اعتراضان، الأوَّل تاريخي والثاني عن أخطاء في النَّسخ. وقد أشرنا سابقاً إلى العامل التاريخي وتحدَّثنا عنه، وأمام الأدلَّة الكثيرة التي قدَّمناها يبدو اعتراضاً ضعيفاً، كوننا ما زلنا نملك مخطوطات قديمة جداً.
يظن بارت إيرمان أنَّ النسخة الأولى تختلف عن النسخة الحاليَّة كثيراً بسبب الطُّرق البدائيَّة التي كانت تُنسَخ بها المخطوطات نظراً لغياب المطابع. فهو يقول إنَّ النَّاسخ الأوَّل قد يخطئ، والنَّاسخ الثاني سوف ينسخ الخطأ نفسه بالإضافة إلى أخطاء أُخرى قد يرتكبها، ويتكرَّر الأمر بهذه الطَّريقة. وهذه تشبه لعبة الهاتف التي كنَّا نمارسها في طفولتنا، إذ يهمس أحدنا لآخر في أُذنه كلمة، وهو بدوره يهمسها لآخر، مروراً بعشرة أشخاص، حتى يقول الأخير كلمة مختلفة عن الأولى. لكن التاريخ يُظهر عكس ذلك تماماً، والأدلَّة الأُخرى هي كالتالي:
يقول ترتليان أحد آباء الكنيسة الذي عاش في القرن الثاني، في إحدى كتاباته موضحاً فكرته: “ارجعوا إلى الكنائس التي أسَّسها الرُّسل، واقرأوا النُّصوص الموثوق بها ذات السُّلطة”. والكلمة اللَّاتينيَّة المُستخدَمة هنا لـ (الموثوق بها) تشير الأصليَّة والجديرة بالثِّقة، خاصَّةً أنَّ ما يُسمَّى بالبابايرس (أوراق البردي) أي المخطوطات التي كان يُكتب عليها في تلك الحقبة، كان بإمكانها البقاء لأكثر من مئة عام، وفقاً لما ذكره بارت إيرمان في كتابه (نصوص العهد الجديد).7
أمَّا إيريناوس، بدوره هو الآخر أعلن في كتاباته أنَّه كان بإمكانه الوصول إلى أقدم نُسَخ نصوص العهد الجديد، وكان يراجعها دائماً للدِّراسة. هذا يُظهر بوضوح أنَّ الكنيسة الأولى كانت تحتفظ بالكتابات الأولى للرُّسل، أي بنسختها الأصليَّة.
لذلك، من غير المنطقي الظَّن أنَّه حتى في حال عدم توفُّر الأدلَّة المادِّيَّة التي وصلتنا، أنَّ آباء الكنيسة لم يكن لديهم تلك النُّصوص الأصليَّة. كما يُعَدّ غير منطقي أيضاً الافتراض أنَّه عندما ينسخ أحدهم نَصّاً، كان يرمي النسخة التي نسخ عنها فور الانتهاء من النَّسخ. في الواقع، توجد أدلَّة تشير إلى أنَّ النَّاسخ أو حتى الدَّارس كان يعود إلى النسخة الأصليَّة للتَّأكُّد بنفسه من أيّ مسألة يحتاج إلى حلِّها.
بعدما تحدَّثنا عن الاعتراض التاريخي، دعونا نتناول مسألة الفروقات الموجودة التي تقدَّر بحوالي 400,000. وهذا أمر طبيعي نظراً لكثرة المخطوطات. لو كانت المخطوطات أقلّ، لكانت الأخطاء أقلّ، ولكن إذا كانت هناك مخطوطة واحدة فقط، فكيف يمكننا التَّأكُّد أنَّ ما وُجد فيها هو الصَّحيح؟ في هذه الحالة، لن يكون لدينا معيار نعتمد عليه. إنَّ زيادة عدد المخطوطات تمنحنا دقَّة أكبر، حتى وإن كثُرت الاختلافات بينها.
على كل باحث أن يفهم هذه النقطة جيِّداً: أنَّ الاختلاف يسير جنباً إلى جنب مع كثرة المخطوطات، وهو ما يسمح لنا بالعودة إلى النَّصّ الأصلي. وهذا أمر طبيعي أيضاً، لأنَّ الكتاب المقدَّس كان يُنسَخ يدويّاً على مدى قُرون طويلة.
أمَّا النَّاقد، فيعبِّر عن جهله بتهكُّم قائلاً بأنَّ هناك أخطاء في الكتاب المقدَّس تفوق عدد كلماته، والتي تُقدَّر بـ 138,162 كلمة، أي بمعدَّل ثلاثة اختلافات لكل كلمة. لكن هذا الرَّقم إذا طُرِحَ دون تفنيد يُعَدّ خطأً تاريخيّاً فاضحاً ومُضلِّلاً. فالجمهور عند سماع هذا التَّصريح، يظن أنَّ لكل كلمة موجودة في النَّص احتمالات لا حصر لها لتحلّ محلَّها مئات الكلمات الأُخرى. وهنا سوف يتساءل: كيف يمكننا الاعتماد على نَصّ عمره أكثر من 2,000 سنة ويحتوي على هذا القدر من الاختلافات؟
دعونا ننظر إلى الأدلَّة ونُفنِّد طبيعة هذه الاختلافات. إذا قمنا بتقسيم عدد هذه الاختلافات بناءً على المخطوطات اليونانيَّة الموجودة حاليّاً والبالغ عددها 5,800، والتي تحتوي تقريباً على 2.6 مليون صفحة، نجد أنَّ هناك خطأً واحداً لكل 6.5 صفحات.
وعند تقسيم هذه الاختلافات بناءً على نوعها، نجد أنَّ 75% منها عبارة عن اختلافات لفظيَّة لا تؤثِّر بأيّ شكل من الأشكال على المعنى. على سبيل المثال: كيفيَّة لفظ كلمة “يوحنَّا” هل بشدَّة على النُّون أم بدون شدَّة؟ (في اليونانيَّة: هل تحتوي على حرفَي نون أم حرف واحد؟) أي أُمور تتعلَّق بهجاء الكلمات، وهي تفاصيل لا يمكن ترجمتها أحياناً من اليونانيَّة. هذه الـ 75% تشمل أيضاً اختلافات في الأحرف التي تنتهي بها الكلمات، والتي قد تختلف وفقاً للكلمة التالية إذا كانت تبدأ بحرف صوتي، وهو أمر يسهُل تصحيحه لأنَّه خطأ قواعدي لا يؤثِّر على المعنى.
أمَّا 15% من هذه الاختلافات، فهي اختلافات باستخدام المُترادِفات، وهي أيضاً لا تؤثِّر على المعنى، ويمكن تحديدها من خلال النَّقد النَّصِّي، فهي اختلافات لا تضُرّ ولا تنفع.
9% من الاختلافات هي تغييرات حدثت في نُسَخ أحدث، ويكمن تصحيحها بالعودة إلى المخطوطات الأقدم باستخدام أساليب النَّقد النَّصِّي، ممَّا يجعل تأثيرها محدوداً للغاية.
أمَّا الـ 1% من الاختلافات، فهي فقط التي يمكن أن تؤثِّر على المعنى، وهي التي تشكِّل النقطة التي يُركِّز عليها معارضو الكتاب المقدَّس. ومع ذلك، يُشير بعض العُلَماء إلى أنَّ هذه النِّسبة قد تكون أقلّ من ذلك، وتصِل إلى 0.25% فقط.
حتى هذه الـ 1% التي سبق الحديث عنها، هي اختلافات لا تؤثِّر بأيّ شكل من الأشكال على أُسُس الإيمان المسيحي أو العقائد الكتابيَّة. إنَّ الدِّعاء بأنَّ العهد الجديد مُحرَّف هو أُكذوبة روَّجَها النُّقَّاد وصدَّقوها.
جميع المختصِّين في مجال النَّقد النَّصِّي، مثل دان والاس، وهو أحد أبرز المختصِّين ومدير مركز دراسات العهد الجديد، وفريقه الذين لا يزالون يكتشفون مخطوطات جديدة للكتاب المقدَّس، وحتى النُّقَّاد، يتَّفقون على أنَّ الاختلافات الـ 1% هي اختلافات نسخيَّة أو ناتجة عن فقدان أجزاء من المخطوطات، وليست تغييرات مقصودة. الاستثناء الوحيد هو يوحنَّا الأولى 7:5، التي تمَّ اكتشاف أنَّها أُضيفت لاحقاً.
لم يسمح الله على مَرِّ التاريخ بوجود سُلطة بشريَّة عُليا تتحكَّم في الكتاب المقدَّس لتغييره طوعاً، أو لإضافة عقائد أو حذف آيات بما يتماشى مع مصالحها (كما يزعم البعض).
بعد التَّحليل والتَّفنيد، تصبح هذه الاختلافات الـ 400,000 مجرَّد 4,000، أي 1% فقط. هذا يجعل الكتاب المقدَّس يتمتَّع بدقَّة تصل إلى 99%. لكن ماذا عن الـ 1%؟ هل عدم الحصول على دقَّة بنسبة 100% يمكن أن يؤثِّر على العقيدة المسيحيَّة؟
من المهم الإشارة إلى أنَّ نصف هذه الاختلافات (حوالي 4,000) أو أقلّ من ذلك (ما بين 1,500 إلى 2,000) هي اختلافات لم تُحَلّ تماماً خلال عمليَّة التَّحقُّق من النُّصوص. حتى بارت إيرمان يؤكِّد أنَّ هذه المتغيرات لا تؤثِّر بأيّ شكل من الأشكال على العقائد المسيحيَّة.
إنَّ العدد الكبير من المخطوطات مقارنةً بعدد الاختلافات القليل المُتبقِّي بعد التَّفنيد يُظهر السَّلامة التاريخيَّة للنُّصوص بشكل مدهش. وبالنِّسبة لي كمؤمن، ولكل مؤمن، فإنَّ هذا يدعو للدَّهشة والإعجاب، خاصَّةً عند معرفة أنَّ إخوتنا المؤمنين الأوائل لم يمتلكوا أجهزةً حديثة لتصحيح الأخطاء الإملائيَّة، ولا غُرَفاً مُكيَّفة أو مقاعد مُريحة، ولا حتى الأمان من الاضطهاد. بل كانوا يُقتلون لمجرَّد احتفاظهم بهذه النُّصوص، وكانوا ينسخونها على ضوء الشُّموع في ظروف غير مُريحة أبداً، باستخدام ريشة ودرج وأدوات باهظة الثَّمن تُعادل أُجرة عامل أسبوعيّاً. كان النَّسخ اليدوي يتطلَّب جهداً مُضنياً ووقتاً طويلاً.
ولو أردنا تطبيق هذا المنهج النَّقدي على أيّ كتابات تاريخيَّة أُخرى، كما سبق وقُلنا، لما أمكننا الوصول إلى أيّ خبر أو حادثة تاريخيَّة منقولة عن كُتَّاب مُعاصرين، ولما عرفنا شيئاً عن التاريخ إطلاقاً. فلماذا مع كل هذه الأدلَّة، يتعرَّض الكتاب المقدَّس لهذا النَّوع من النَّقد غير المنطقي؟ الأسباب متعدِّدة، لكن الهدف واحد.
أمَّا هذه الاختلافات، أي الـ 1%، فهي محصورة في 40 سطراً لم تُحَلّ مسألتها بالنِّسبة للعهد الجديد من خلال النَّقد النَّصِّي، بحسب العالِم دان والاس. ويرجع ذلك إلى أنَّ الكلمتين المختلف عليهما تقدِّمان كلتاهما أدلَّة جيِّدة، ما يجعل تحديد النَّص الأصلي صعباً. ومع ذلك، يبقى العهد الجديد أفضل بمراحل عديدة من أيّ نَصّ تاريخي قديم من حيث الدِّقَّة والنَّقل.
صحيح أنَّ هذه السُّطور التي لم تُحَلّ أحياناً تكون مصدر خلاف بين العُلَماء المسيحيِّين، لكنَّها كما أشرنا سابقاً، لا تؤثِّر على محتوى الكتاب المقدَّس أو رسالته ككل. أمَّا الادِّعاء غير المنطقي بأنَّ العهد الجديد مُحرَّف لدرجة تجعل من المستحيل معرفة ما كان موجوداً في المخطوطات الأصليَّة، فهو حجَّة لم ولن تصمد أمام الأدلَّة التاريخيَّة القاطعة.
عمر المخطوطات
هناك اعتراض آخر يطرحه البعض مفاده أنَّ المخطوطات التي تعود إلى القرن الثالث، والتي تحتوي على معظم الاختلافات بين النُّصوص، تشير إلى أنَّ المخطوطات الأقدم، مثل تلك التي تعود إلى القرن الأوَّل، ربَّما كانت مليئة بالمزيد من الأخطاء. لكن هذا الادِّعاء ضعيف للأسباب التالية:
أولاً، ليس بالضَّرورة أن تكون المشاكل التي ظهرت في نسخ المخطوطات في القرن الثالث دليلاً على أنَّ النُّسَخ في القرن الأوَّل كانت مليئة بالأخطاء. فقد كان النَّاسخون في تلك الفترات يمتلكون مهارات مُتقَنة ضروريَّة لكتابة النُّصوص بدقَّة. على سبيل المثال، كان النَّاسخون يخضعون لتدريب مُكثَّف لتجنُّب الأخطاء، لأنَّ أيّ خطأ كان يعني ضياع ورقة ربَّما كانت غالية الثَّمن في ذلك الوقت. وبما أنَّ الكتابة كانت تتم يدويّاً، كان من الضَّروري أن يتحلَّى النَّاسخ بالدِّقَّة. الادِّعاء بأنَّ نُسَّاخ العهد الجديد كانوا جهَلة غير صحيح، حيث تؤكِّد العديد من الكتابات القديمة على أنَّ هؤلاء النَّاس كانوا يهتمُّون بنقل النُّصوص بدقَّة فائقة.
ثانياً، في القرن الأوَّل كان من الممكن العودة إلى النسخة الأصليَّة للتَّحقُّق من النُّصوص أو النَّسخ منها مباشرةً بدلاً من الاعتماد على نسخ أُخرى. كان الرُّسل آنذاك لا يزالون على قيد الحياة، وكانوا يُشرِفون على مراجعة النُّسخ وتصحيح أيّ أخطاء قد تحدث. إضافةً إلى ذلك، كان المسيحيُّون الأوائل يُعانون من اضطهادات شديدة، ممَّا يعكس اعتقادهم الرَّاسخ بأنَّ النُّصوص التي يحملونها هي كلمة الله، وهو ما يعزِّز أهميَّة الحفاظ على هذه النُّصوص بدقَّة.
رغم وجود بعض الاختلافات في المخطوطات، إلَّا أنَّ هذه الاختلافات لا تؤثِّر على المعنى العام للنُّصوص. نحن نؤمن بأنَّ الله حفظَ كلمته عبر العصور، وأنَّ النُّصوص التي بين أيدينا اليوم هي كما أرادها الله أن تصِل إلينا.
السُّؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تؤثِّر هذه الاختلافات على مفهوم حفظ الوحي المقدَّس؟ الجواب هو أنَّ حفظ النُّصوص يعني الحفاظ على التَّعاليم التي ورثناها من الرَّب يسوع والرُّسل، وليس الحفاظ على النُّسخ الأصليَّة حرفيّاً. حتى الرُّسل أنفسهم كانوا يستخدمون ترجمات ولا يلتزمون بالاقتباسات الحَرفيَّة بقدر ما كانوا يهتمُّون بنقل الفكرة اللَّاهوتيَّة وتحقيق النُّبوءات.
الهدف من الإنجيل هو نقل تعاليم الرَّب يسوع وأعماله، وقد تمَّ ذلك بدقَّة تصِل إلى 99%. لدينا العديد من المخطوطات من مناطق جغرافيَّة مختلفة، ورغم وجود بعض الاختلافات، فإنَّ هذه المخطوطات تشهد على النُّصوص نفسها الموجودة بين أيدينا اليوم. الطَّريقة التي اختارها الله لحفظ كلمته المقدَّسة هي أفضل وسيلة لضمان وصولها إلينا دون أيّ تغيير يمسّ المبادئ المسيحيَّة.
إنَّ تعدُّد مصادر المخطوطات يمنع حدوث تحريف مُتعمَّد، على عكس ما يحدث في لعبة “الهاتف” التي كنَّا نلعبها في طفولتنا. لو أراد أحدهم تحريف النُّصوص عمداً، لكان بحاجة إلى سُلطة واسعة للوصول إلى جميع المخطوطات وتغييرها بشكل مُنظَّم، وهو ما لم يحدث في تاريخ الكنيسة. في النِّهاية، وصل إلينا الكتاب المقدَّس دون تغيير.
يقول كريغ إيفانس في هذا السِّياق: “ماذا قال بطرس وبقيَّة الرُّسل في شهاداتهم التَّبشيريَّة؟ أعلنوا للنَّاس قيامة المسيح والخلاص والتَّبرير المجَّاني بدم الرَّب يسوع المسيح. هذا كان الأهم بالنِّسبة لهم، لأنَّنا بالمسيح صار لنا قيامة وحياة أبدية. هذا هو الخبر السَّارّ. لم يقل بطرس ولا أيّ أحد من الرُّسل: نعِدكم بحفظ الكلمات بدقَّة تصِل إلى %100”.8
ويُضيف دان والاس وفريقه، الذين اكتشفوا أكثر من 9 مخطوطات في السَّنوات الأخيرة، أنَّ كل الاكتشافات الحديثة تؤكِّد أنَّ المخطوطات تتطابق مع النُّصوص التي بين أيدينا، ممَّا يُعزِّز ثقتنا باستمراريَّة النُّصوص دون تغيير، التي قد تكتشف في المستقبل.
- The Books and the Parchments. F F Bruce.
- Revisiting the Corruption of the New Testament: Manuscript, Patristic, and Apocryphal Evidence (Text and Canon of the New Testament). Wallace, Daniel B., Miller, Philip, Morgan, Matthew, Messer, Adam, Ricchuiti, Tim, Wright, Brian.
- New Testament Textual Criticism:The Application of Thoroughgoing Principles: Fundamentals of New Testament Textual Criticism. Stanley E. Porter, Andrew W. Pitts.
- The Text of the New Testament: Its Transmission, Corruption, and Restoration (4th Edition). J.K. Elliott.
- A Textual Commentary on the Greek New Testament. Metzger, Bruce M.
- Misquoting Jesus: The Story Behind Who Changed the Bible and Why. Ehrman, Bart D.
- The New Testament: A Historical Introduction to the Early Christian Writings. Ehrman, Bart D.
- Fabricating Jesus: How Modern Scholars Distort the Gospels. Evans, Craig A.
مقالات مُشابِهة
ما هو التحقق (النقد) النصي؟
آيات عن الثالوث
هل ترك الله السماء عند التجسد؟