في حين أنَّ البشَر يُحاوِلونَ سَتر مَعاصيهِم بمَجهوداتهِم الخاصَّة إلَّا أنَّ الله يُخبرنا عن عَجز الحسَنات على إلغاء الذُّنوب والخطايا، ويُعطينا بنفسهِ الحَلّ لهذه المُشكِلة.
مآزر من ورق التين
“…فَخَاطَا لأَنْفُسِهِمَا مَآزِرَ مِنْ أَوْرَاقِ التِّينِ.” (سِفر التَّكوين 7:3)
لو أرادَ المُذنِب أن يَتوب سَواء كانَ زانٍ، سارِق، قاتِل، أو مُجَدِّف على اِسم الرَّب، أو مُرتَكِب أيّ مَعصِية أُخرى، فَهَل سَيُغفَر ذَنبُه لِمُجَرَّد أنَّهُ قام بِتأدِيَة صَلاتِه؟ هَل القِيام بالأعمال الحَسَنة من صَلاة وصِيام أو إطعام فَقير سَوف يُمحي الأعمال السَّيِّئة ويَجعَلها في طَيّ النِّسيان، وهَل يَكون إبعاد المَعاصي عبرَ فِعل الخَير؟ يؤمِن الكَثيرون بذلك، وللوَهلة الأولى تَبدو هذهِ الفِكرة مُرضِية ومَقبولة أنَّكَ إن ارتَكَبتَ مَعصِيَة ما، فَصَلِّ وتُب عَنها وانتَهى الأمر لأنَّ رَحمة الله واسِعة ولا يَسَعها الكَون. لكن هذا الحَلّ لا يَتَوافَق مع العَدالة الإلهِيَّة.
فَإنَّ لِلمَعصِية تَداعِيات أُخرى لا تَذهَب بِمُجَرَّد فِعل الخَير. إن اعتَذَرَ المُغتَصِب لِضَحِيَّتِهِ فَهذا الاِعتِذار لن يُعيد للضَّحِيَّة كَرامَتها، وإن أعادَ السَّارِق المَسروقات التي أخَذَها واعتَذَرَ عن فِعلَتِهِ، فذلك لن يُعيد للشَّخص الذي سُرِق الوَقت الذي أمضاهُ في تَوَتُّر وقَلَق وحُزن على مُصابِهِ، لأنَّ للألَم النَّفسي آثار جانِبِيَّة مُتَعَدِّدة. فالفِدية التي تُدفَع لأهل القَتيل لا تُعيدُهُ إلى أهلِهِ، واعتِذار القاتِل لا يُضاهي نَظرة واحِدة من أُمّ القَتيل لِابنِها وحَسرَتها عليه. وحتَّى لَو حَصَلَ الإنسان على عُقوبَتِهِ في قانون هذهِ الدُّنيا، لكنَّ ذلك غَير كافٍ في قانون الله لأنَّ الذَّنب مَهما كَبُرَ أو صَغُر وقَبلَ أن يَكون مُرتَكَب تجاه الإنسان فهو أوَّلاً قَد ارتُكِبَ تجاه الله بِشَكل مُباشَر بِمُجَرَّد كَسر وَصاياه وعَدَم الاِلتِزام بِها، فالله هو الذي نَهى مُنذُ البَدء عن ارتِكاب المَعاصي عِندَما وَضَعَ الدُّستور الذي يَنبَغي أن يَسلُك بِهِ البَشَر، وهو الذي حَدَّدَ الخَطَأ من الصَّواب، والحَسَنة من السَّيِّئة، والخَير من الشَّر.
فَإنَّ لِلمَعصِية تَداعِيات أُخرى لا تَذهَب بِمُجَرَّد فِعل الخَير
لذلك ارتِكابنا لِلمَعصِية تجاه الله لن يُعيد لَهُ كَرامَتهُ بِمُجَرَّد أنَّنا صَلَّينا وتُبنا. صَحيح أنَّ رَحمة الله واسِعة إلَّا أنَّ عَدالَتهُ هُنا تَصرُخ في وَجه الرَّحمة، فالعَدالة تُطالِب بالعِقاب، والرَّحمة تُنادي بالغُفران. إذاً كيفَ تُحَلّ هذهِ المُعضِلة؟ يَتَصَرَّف الله بالتَّوافُق مع صِفاتِهِ دُونَ أن تَطغى صِفة على أُخرى، فالإله الرَّحيم هو عادِل أيضاً، وأمامَ عَدالَتِهِ من غَير المُمكِن أن تُمحى السَّيِّئة بِفَضل الحَسَنة، لأنَّ الفِعل الحَسَن ليسَ تَكفيراً بِكَونِهِ عاجِز عن أن يَرُدّ الشَّخص إلى المَكانة الأولى قبلَ ارتِكاب الفِعل السَّيِّء، وعاجِز عن أن يُعَوِّض بِشَكل كامِل للضَّحِيَّة حَقّها. لكن للأسَف هذا ما يَقوم بِهِ البَشَر عادَةً بِسَبَب عَدَم فَهمِهِم لِقانون الله، وهذا ما قامَ بِهِ الإنسان الأوَّل “آدم وحَوَّاء” عِندَما صَنَعا لِنَفسَيهِما مآزِر من وَرَق التِّين لِكَي يُغَطِّيا عُرِيّ جَسَدِهِما ويَستُرا عارَ رُوحهما بعدَ تَمَرُّدِهِما على الله، ظَنّاً منهُما أنَّ أوراق التِّين كَما الفِعل الحَسَن سَوفَ تَستُر ما ارتَكَباهُ من خَطيئَة وتُعيد عَلاقَتِهِما مع الله لِلمَكانة الأولى وكأنَّ شَيئاً لم يَكُن.
الأعمال الحَسَنة التي يَرتَكِبها البَشر بِهَدَف التَّكفير عن الذُّنوب، يَصِفها الله “بِثَوب العدَّة” أي ثَوب المَرأة في فَترَة طَمثِها الذي كانَ يُعتَبَر نَجِساً، إذاً ما نَصنَعهُ من أعمال صالِحة بِهَدَف رَشوَة الله لِكَي يَمحو سَيِّئاتِنا، يُعتَبَر بِنَظَر الله “نَجاسة” لأنَّ حَسناتنا لا تَستَطيع أن تُقَرِّبنا مِنهُ دُونَ أن نَدفَع ثَمَن سَيِّئاتِنا. فالأعمال الصَّالِحة هي واجِب على المَرء أن يَفعَلهُ لكن ليسَ بِهَدَف مَحو الذُّنوب أو زِيادَة الحَسَنات.
“كُلُّنَا أَصْبَحْنَا كَنَجِسٍ، وَأَضْحَتْ جَمِيعُ أَعْمَالِ بِرِّنَا كَثَوْبٍ قَذِرٍ، فَذَبُلْنَا كَأَوْرَاقِ الشَّجَرِ وَعَبَثَتْ بِنَا آثَامُنَا كَالرِّيحِ.” (سِفر إشَعياء 6:64)
وَرَدَ في كِتاب عِلم اللَّاهوت النِّظامي المُصلِح: “مُحاوَلات الجِنس البَشَري لإخفاء عارِهِم مُثيرة للشَّفَقة. حاوَلَ آدَم وحَوَّاء استِخدام “أوراق التِّين”. الأوراق المَقطوعة من الشَّجَرة تَذبُل بِسُرعة وتَتَفَتَّت. كانَت هذهِ أوراق تِين حَقيقِيَّة، لكِنَّها تُشير في نَصّ سِفر التَّكوين كأوَّل مِثال على نَمَط سَوفَ يَستَمِرّ عبرَ التَّاريخ البَشَري. في الكِتاب المُقدَّس يُمكِن أن تُمَثِّل وَرَقَة الشَّجَر أضعَف الأشياء وأكثَرها هَشاشة (سِفر اللَّاوِيِّين 26:36 – سِفر أيُّوب 13:25). كما يُمكِن أن تَرمُز المَلابِس إلى بِرّ الشَّخص وتَبريره العَلَني (سِفر زَكَرِيَّا 3:4)، وسَواء حاوَل النَّاس تَغطِيَة عارِهِم بالأعمال الصَّالِحة والأنشِطة الدِّينِيَّة… فإنَّ كُل جُهودهم سوفَ تَفشَل.”
أقمصة من جلد
“وَكَسَا الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ وَزَوْجَتَهُ رِدَاءَيْنِ مِنْ جِلْدٍ صَنَعَهَا لَهُمَا.” (سِفر التَّكوين 21:3)
حينَما صَنَعَ الإنسان مآزِر من وَرَق التِّين لِيَستُر بِها عارَهُ، ألبَسَهُ الله أقمِصة من جِلد، ولهذا الفِعل دَلالة كَبيرة. أوَّلاً السَّتر هو عَمَل إلهي وليسَ عَمَل بَشَري، الله هو الذي ألبَسَ آدَم وحَوَّاء في هذهِ الحالة، كما أنَّ الجِلد ليسَ من ثِمار الأرض وَلا من الأشجار بل من الحَيَوان، وهذا يَعني أنَّ الله صَنَعَ ذَبيحة لِيَستُر عَورَة الإنسان، أي ذَبَحَ كَبشاً فِديَةً عن ذَنب آدَم وألبَسَهُ جِلد تِلكَ الذَّبيحة، لِتَكون بِدايَة رِحلَة مع البَشَر، يُعَلِّمهُم فيها الله كيفَ يَجِب أن يَقتَرِبوا إلَيه، عبرَ تَقديم كَبش فِداء فِديَةً عن ذُنوبِهِم لِكَي يَتَطَهَّروا بِمَوت الكَبش بَدَلاً عن الإنسان، فَيَتَحَمَّل الكَبش العُقوبة عن المُذنِب. وقِصَّة أقمِصَة الجِلد التي نَقرَأها في سِفر التَّكوين هي قِصَّة رائِعة تُظهِر مَدى مَحَبَّة الله، فَكانَ يُمكِن لله أن يُفني البَشَر، وما الحاجة من وُجودِهِم بعدَ تَمَرُّدِهِم، وهل الله مُحتاجٌ لنا؟ حاشا، لكنَّ الله أحَبَّ البَشَر ولم يُرِد لَهُم أن يَهلِكوا لذلك أرشَدَهُم لِطَريقٍ يَتَوافَق مع عَدلِهِ ويُظهِر بِهِ رَحمَتَهُ وهو “الأقمِصة من جِلد”.
أعمال البَشَر الصَّالِحة هي أمامَ الله مآزِر من وَرَق التِّين، نَظُنّ أنَّها قَد تَستُرنا عَنهُ لأنَّها تَستُرنا عن البَشَر، لكِنَّها تُبقينا مَكشوفين أمامَ الله، فهي كالعَدالة الأرضِيَّة تُعطي عِقاب زَمَني عاجِز عن أن يُنَقِّي. لأنَّكَ مَهما كُنتَ صالِحاً وتَقِيّاً وحتَّى لَو أفنَيتَ نَفسَكَ من أجل الله، فعَمَلكَ وصَلاحك يُشبِه المَآزِر من أوراق التِّين. وإن أرَدتَ أن تَقتَرِب من الله حَقّاً فيَجِب أن يُلبِسكَ أقمِصَةً من جِلد وعلى طَريقَتِهِ هو.
لكنَّ الله أحَبَّ البَشَر ولم يُرِد لَهُم أن يَهلِكوا
وَرَدَ أيضاً في كِتاب عِلم اللَّاهوت النِّظامي المُصلِح: “تَنَبَّأَ هذا الفِعل بالذَّبائِح الحَيَوانِيَّة التي أشارَت فيما بَعد إلى كَفَّارَة المَسيح البَديلة… كانَ الله يُظهِر لِأبَوَينا الأوَّلَين أنَّهُ على الرّغم من استِحقاقِهِما لِلمَوت، إلَّا أنَّهُ من خِلال مَوت البَديل، سَيُغَطَّى عارهُما بِالكَرامة مَرَّة أُخرى. فيَجِب أن يَتَخَلَّيا عن أوراق التِّين من أعمالِهِما ويَعتَمِدا على تَدبير الله لِخَلاصِهِما.”
قِصَّة الأقمِصَة من جِلد لا تَنتَهي هُنا، فَمَعَها أيضاً أتى الوَعد بالرَّجُل الذي سَوفَ يَأتي من نَسل المَرأة لِيَسحَق رَأس الشَّيطان (سِفر التَّكوين 15:3)، ومن سِوى الرَّب يَسوع يُتَمِّم هذهِ النُّبوءَة؟ فهو الذي وُلِدَ من عَذراء، وهَزَمَ الشَّيطان بِقِيامَتِهِ من المَوت. فَكَبش الفِداء كانَ يُطَهِّر وَقتِيّاً وإلى حِين، من أجل ذلك كانَت هذهِ المُمارَسات والذَّبائِح تَتَكَرَّر دائِماً. أمَّا القَميص من جِلد فَكانَ يُشير إلى الطَّريقة الأسمى التي سَوفَ يَستُرنا بِها الله ويُغَطِّي عارَنا من خِلالِها مَرَّة واحِدة وإلى الأبَد بِأُضحِيَة المَسيح العَظيمة التي تَكسينا رِداء البِرّ وتُلبِسنا ثَوبَ الخَلاص، لِيَكون يَسوع هو الطَّريق الوَحيد لله الآب، وفُلك نَجاتنا من الغَضَب الآتي.
مقالات مُشابِهة
الخطيئة والفداء (الجزء الأول)
الخطيئة والفداء (الجزء الثاني)
فُلك النجاة
الله يزيل ملابسنا القذرة ويعطينا ملابس جديدة