يُركِّز إنجيل متَّى على نُبوءات العهد القديم بشكل كبير ليُظهِر لنا كيف أنَّ يسوع هو نفسهُ المسيح المَوعود في التَّوراة، لكن في إحدى اقتباساته قد يبدو للوَهلة الأولى أنَّهُ استخدَم نُبوءة غير مذكورة في العهد القديم. ما مدى صحَّة هذا الأمر؟ سنعرف أكثر عن هذا الموضوع في المقال التالي.
متّى والعهد القديم
تركيز متَّى على اقتِباسات العهد القديم، يوضِح لنا أنَّهُ يقصِد بشَكل خاصّ الجُمهور اليَهودي أي العالِمين بمَضمون العهد القديم. حيثُ يبدأ الإنجيل بسِلسِلَة أنساب ليُظهِر أنَّ يسوع هو من نَسل إسحاق بن إبراهيم الذي وعدَ الله بأن يأتي المسيح من نَسلهِ، وأنَّهُ أيضاً اِبن داوُد الذي هو من سِبط يَهوذا، لأنَّ المسيح أيضاً يجب أن يكون من النَّسل المَلَكي بحسب النُّبوءات.
“..حَدَثَ هَذَا كُلُّهُ لِيَتِمَّ مَا قَالَهُ الرَّبُّ بِلِسَانِ النَّبِيِّ الْقَائِلِ…” (إنجيل متَّى 22:1)
هذه الجُملة تَملأ صَفحات إنجيل متَّى، هذا الكاتِب الذي يُظهِر نِيَّتهُ بشكل واضِح وهي إظهار أنَّ يسوع هو حقّاً المسيح الذي تَوقَّعَ مَجيئه الأنبياء الذين أخبَروا عنه، والذينَ أدرَكوا مَواعيد الله بالإيمان حتَّى ولو لم ينالوها في حَياتهم على الأرض، لكنَّهُم سيحصُلون على تلك المَواعيد في النِّهاية في اليَوم الأخير، كما يصِف لنا كاتِب العبرانيّين:
“…وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْهَا مِنْ بَعِيدٍ، وَتَوَقَّعُوا تَحْقِيقَهَا كَامِلَةً فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَإِذْ آمَنُوا بِتِلْكَ الْوُعُودِ الإِلَهِيَّةِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّهُمْ لَيْسُوا إِلاَّ غُرَبَاءَ عَلَى الأَرْضِ يَزُورُونَهَا زِيَارَةً عَابِرَةً.” (الرِّسالة إلى العبرانيِّين 13:11)
سيدعى ناصرياً
يقول الرَّسول متَّى في إحدى النُّبوَّات عن المسيح:
“فَوَصَلَ بَلْدَةً تُسَمَّى «النَّاصِرَةَ» وَسَكَنَ فِيهَا، لِيَتِمَّ مَا قِيلَ بِلِسانِ الأَنْبِيَاءِ إِنَّهُ سَيُدْعَى نَاصِرِيّاً!” (إنجيل متَّى 23:2)
وُصول المسيح إلى النَّاصِرة وسَكَنه فيها كانَ وفق نبوَّة، لكن إن فَتَّشنا نُصوص العهد القديم جميعها لا نجِد آية تقول أنَّ المسيح سيَسكُن في النَّاصِرة أو أنَّهُ سيُدعى حَرفيّاً “ناصِريّاً”. لكن إن تَفحَّصنا بشكل أعمَق فَحوى النُّبوءة التي يُشير إليها متَّى فسنجِد أنَّهُ لم يُخطئ الاِقتِباس حتَّى وإن لم يوجَد النَّص حَرفيّاً في العهد القديم.
كانَت النَّاصِرة قَرية في الجَليل غير مَحبوبة من اليَهود المُتَدَيِّنين، فهي كانَت في أيَّام المسيح، تقَع على خَطّ تِجاري دولي وتَحفل بالنَّشاط الأُمَمي التِّجاري الذي كثيراً ما كان يترافَق مع مَظاهِر اللَّهو والانحِراف الخُلُقي والعِبادات الوَثنيَّة.* وقد أثَّرَ هذا الأمر على سُمعَة كُل من نَشَأ في تِلك القَرية حينَ يخرُج منها، خاصَّةً في مُجتمَع المُتَدَيِّنين الذينَ أصبَحوا يَنظُرونَ نَظرة احتِقار لهؤلاء النَّاصِريِّين. وهذا يظهَر بوضوح في قَول أحَد الذينَ صاروا أتباع المسيح لاحِقاً واسمهُ نَثنائيل حينما قالَ لهُ فيلِبُّس أنَّهُ وجدَ المسيح المَوعود وأنَّهُ من النَّاصِرة، حيثُ كانَ جَواب نَثنائيل فَورَ عِلمهِ أنَّ المسيح من النَّاصِرة:
“فَقَالَ نَثَنَائِيلُ: وَهَلْ يَطْلُعُ مِنَ النَّاصِرَةِ شَيْءٌ صَالِحٌ؟” (إنجيل يوحنَّا 46:1).
شَكَّ نَثنائيل بصَلاح المسيح لمُجرَّد أنَّهُ من قَرية تُدعى النَّاصِرة، هذا يُظهِر لنا كيفَ كانَ الآخَرين يَحتقِرونَ أبناء هذه القَرية. متَّى الرَّسول لم يَقُل أنَّ النُّبوءة تقول أنَّ المسيح سيَخرُج من النَّاصِرة، بل إنَّهُ “سيُدعى ناصِريّاً” وهو لقَب سيُطلَق عليه، ولا يَقصِد متَّى بذلك أنَّ النُّبوءة هي عمَل سيَتمّ كدُخولهِ أورشَليم مَثلاً، بل يُشير متَّى إلى تَسمِية ستُطلَق على المسيح وكما لاحَظنا هي مُرتَبِطة بالاِحتِقار، لتَتِمّ النُّبوءة المَذكورة في سِفر إشَعياء عن المسيح:
“مُحْتَقَرٌ وَمَنْبُوذٌ مِنَ النَّاسِ، رَجُلُ آلاَمٍ وَمُخْتَبِرُ الْحُزْنِ، مَخْذُولٌ كَمَنْ حَجَبَ النَّاسُ عَنْهُ وُجُوهَهُمْ فَلَمْ نَأْبَهْ لَهُ.” (سِفر إشَعياء 3:53)
من الشَّائِع لكُتَّاب العهد الجديد أن لا يَقتَبِسوا النُّبوَّة التي يُشيرونَ لإتمامِها بشَكل حَرفي، فهُم في كَثير من الأحيان يُفَسِّرون فَحوى النُّبوَّة كما حصَل هُنا مع متَّى، أي يَقتَبِسونَ الآية ويُفَسِّرونَها ليُوضِحوا لنا المَقصود بها، فلَو قالَ متَّى أنَّ المسيح تَمَّمَ هذه النُّبوَّة بخُروجهِ من النَّاصِرة مُقتَبِساً إيَّاها بالحَرف، لَكانَ أيضاً قالَ المُشَكِّكون ما علاقَة هذا بخُروجهِ من النَّاصِرة، لذلك فَسَّرَ متَّى معنى النُّبوَّة، وما فَعَلهُ هذا لا يؤثِّر على صِحَّة الاِقتِباس أو على مَفهوم الوَحي.
يُعلِّمنا ذلك أنَّ علينا ألَّا نَحكُم على النُّصوص بشَكل سَطحي، بل أن نتحقَّق من كُل شيء بالتَّدقيق. فكَما لاحَظنا هُنا فإنَّ النَّظرة الأعمَق للنَّص تُظهِر لنا أنَّ متَّى لم يُخطِئ بل على العَكس كانَ لدَيهِ مَعرِفة واسِعة بالعهد القديم تجعلهُ قادِراً على تَفسير آياتهِ فيما يتوافَق مع حَياة المسيح مُتَمِّم النُّبوَّات.
يُعلِّمنا ذلك أنَّ علينا ألَّا نَحكُم على النُّصوص بشَكل سَطحي
وأخيراً عزيزي القارِئ، إن كُنتَ لا تَعرِف المسيح فجَوابي لك كما كانَ جَواب فيلِبُّس لنَثنائيل في إنجيل يوحنَّا 46:1 “تَعَالَ وَانْظُرْ” حينَ شَكَّكَ أنَّ يسوع لا يُمكِن أن يكون هو المسيح.
وأنا أقولُ لكَ تعالَ وانظُر تَعاليم المسيح بنَفسِك ولا تُصَدِّق كُل ما يُقال لكَ بغرَض التَّشويه، وحَدِّد حَياتك الأبديَّة من هذه اللَّحظة.
*الدكتور طوني معلوف. مقدمة العهد الجديد (إنجيل متى).
مقالات مُشابِهة
ما هو الإنجيل ؟
لماذا لم يكتب المسيح الإنجيل؟
الترجمات العربية للكتاب المقدس