Old scrolls on a table

نحن كقُرَّاء اليوم معرَّضين أن نُطبِّق اعتبارات أدبيَّة مُعاصرة على نَصّ كُتِب قبل قرون عديدة، ونظنّ بذلك أنَّ الكاتب أخطأ في حين أنَّنا نحن المُخطئين. إليكم مثال على ذلك.

ثلاثون من الفضَّة هي الثَّمن الذي قبضه يهوذا الإسخريوطي مقابل خيانته للمسيح. هذا الحدث مثله كمثل أحداث كثيرة من حياة المسيح، حصل كتتميم لنَصّ من العهد القديم، حيث يذكر لنا النَّبي زكريَّا الآتي:

“ثُمَّ قُلْتُ لَهُمْ: «إِنْ طَابَ لَكُمْ فَأَعْطُونِي أُجْرَتِي، وَإِلاَّ فَاحْتَفِظُوا بِهَا». فَوَزَنُوا أُجْرَتِي ثَلاَثِينَ شَاقِلاً مِنَ الْفِضَّةِ. فَقَالَ الرَّبُّ لِي: «أَعْطِ هَذَا الثَّمَنَ الْكَرِيمَ الَّذِي ثَمَّنُونِي بِهِ إِلَى الْفَخَّارِيِّ». فَأَخَذْتُ الثَّلاَثِينَ قِطْعَةً مِنَ الْفِضَّةِ وَأَلْقَيْتُهَا فِي بَيْتِ الرَّبِّ إِلَى الْفَخَّارِيِّ.” (سِفر زكريَّا 12:11-13)

لكن الرَّسول متَّى يذكر أنَّ هذا حصل ليتمّ ما هو مكتوب في سِفر إرميا:

فَلَمَّا رَأَى يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهِ قَدْ صَدَرَ، نَدِمَ وَرَدَّ الثَّلاَثِينَ قِطْعَةً مِنَ الْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخِ، وَقَالَ: «قَدْ أَخْطَأْتُ إِذْ سَلَّمْتُكُمْ دَماً بَرِيئاً». فَأَجَابُوهُ: «لَيْسَ هَذَا شَأْنَنَا نَحْنُ، بَلْ هُوَ شَأْنُكَ أَنْتَ!» فَأَلْقَى قِطَعَ الْفِضَّةِ فِي الْهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ، ثُمَّ ذَهَبَ وَشَنَقَ نَفْسَهُ. فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ قِطَعَ الْفِضَّةِ وَقَالُوا: «هَذَا الْمَبْلَغُ ثَمَنُ دَمٍ، فَلاَ يَحِلُّ لَنَا إِلْقَاؤُهُ فِي صُنْدُوقِ الْهَيْكَلِ!» وَبَعْدَ التَّشَاوُرِ اشْتَرَوْا بِالْمَبْلَغِ حَقْلَ الْفَخَّارِيِّ لِيَكُونَ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ، وَلِذَلِكَ مَازَالَ هَذَا الْحَقْلُ يُدْعَى حَتَّى الْيَوْمِ حَقْلَ الدَّمِ. عِنْدَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِلِسَانِ النَّبِيِّ إِرْمِيَا الْقَائِلِ: «وَأَخَذُوا الثَّلاَثِينَ قِطْعَةً مِنَ الْفِضَّةِ، ثَمَنَ الْكَرِيمِ الَّذِي ثَمَّنَهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَدَفَعُوهَا لِقَاءَ حَقْلِ الْفَخَّارِيِّ، كَمَا أَمَرَنِي الرَّبُّ». (إنجيل متَّى 3:27-10)

سِفر النَّبي إرميا يتضمَّن حادثة مُشابهة، فهل هذا التِباس وقع فيه متَّى باقتِباسه من سِفر دون آخر؟ أو أنَّه أمر مقصود بُغية توضيح فكرة؟

سنُظهر في هذا المقال أنَّ ما قام به متَّى كان مقصوداً وليس فيه أيّ خطأ وذلك لسببين:

  • السبب الأول: أنَّ سِفر إرميا كان يشمل أسفار الأنبياء الأُخرى في المكتبة اليهوديَّة.
  • السبب الثاني: أنَّ متَّى كان يدمج اقتِباسَين وفق الطَّريقة المُعتمدة تلك الأيَّام.

السبب الأول: سِفر إرميا كان يترأَّس أسفار الأنبياء عند يهود تلك الأيَّام. وقد وردَ في كتاب الأقوال الصَّعبة للكتاب المقدَّس كتفسير لهذا الأمر: “على الأغلب يَنسب متَّى النَّص هنا إلى سِفر إرميا، لأنَّ هذا السِّفر في الكثير من المخطوطات العبريَّة، يترأَّس مجموعة أسفار الأنبياء. ليكون بذلك أنَّ اسمه كان يُستخدم للإشارة إلى المجموعة بكاملها. فترقيم الإصحاحات والآيات بالشَّكل المُتعارَف عليه اليوم لم يكُن هكذا في تلك الأيَّام.”¹ ما يعني أنَّ سِفر إرميا كان يُشير لمجموع هذه الأسفار بما فيهم سِفر زكريَّا، وذلك كما لو أنَّ أحد المسيحيِّين اليوم اقتبسَ من رسالة بطرُس قائلاً “وردَ في الإنجيل”، فحتَّى لو كان الاقتِباس من رسالة بطرُس إلَّا أنَّ من المُتعارَف عليه بين المسيحيِّين أنَّ الإنجيل تسمية تُطلَق على الكِتاب كَكُل بما فيه رسائل بطرُس وبولُس وغيرهم، وبالمِثل فعلَ متَّى فهو كان يفترض أنَّ الشَّعب الذي يكتُب له يعرف تماماً ما المقصود.

new testament in arabic

السبب الثاني: دمج حادثتين بُغية إيصال فكرة ما، كان أُسلوباً أدَبيّاً شائعاً تلك الأيَّام، كما أنَّ هناك طُرق متعدِّدة يستخدم فيها كُتَّاب العهد الجديد نُصوص العهد القديم. صحيح أنَّ النَّص في سِفر زكريَّا لا يقول صراحةً أنَّ هذا سيحصل مع المسيح عكس ما تُعلِن نُصوص عديدة أُخرى، لكن هذا لا يعني أنَّه لا توجد به إشارة للمسيح. فبالإضافة للتَّتميم المباشر هناك ما يُسمَّى بالتَّتميم التَّشابُهي حيث يتشابه حدث صار في العهد القديم مع أمر حصل أيَّام المسيح، مثال على ذلك ما يقوله متَّى عن حادثة قتل الأطفال أيَّام هيرودُس المَلِك الذي كان ينوي قتل المسيح:

“وَعِنْدَمَا أَدْرَكَ هِيرُودُسُ أَنَّ الْمَجُوسَ سَخِرُوا مِنْهُ، اسْتَوْلَى عَلَيْهِ الْغَضَبُ الشَّدِيدُ، فَأَرْسَلَ وَقَتَلَ جَمِيعَ الصِّبْيَانِ فِي بَيْتِ لَحْمٍ وَجُوَارِهَا، مِنِ ابْنِ سَنَتَيْنِ فَمَا دُونَ، بِحَسَبِ زَمَنِ ظُهُورِ النَّجْمِ كَمَا تَحَقَّقَهُ مِنَ الْمَجُوسِ. عِنْدَئِذٍ تَمَّ مَا قِيلَ بِلِسَانِ النَّبِيِّ إِرْمِيَا الْقَائِلِ: «صُرَاخٌ سُمِعَ مِنَ الرَّامَةِ: بُكَاءٌ وَنَحِيبٌ شَدِيدٌ! رَاحِيلُ تَبْكِي عَلَى أَوْلاَدِهَا، وَلا تُرِيدُ، لأَنَّهُمْ قَدْ رَحَلُوا!».” (إنجيل متَّى 16:2-18)

ما حصل في زمن المسيح كان قد حصل أيَّام السَّبي البابلي. فالأُمّ الثَّكلى أيَّام إرميا هي كِناية عن الألَم الذي سادَ نتيجة القتل إبَّان الغَزو البابِلي، وفي أيَّام المسيح تصِف هذه الآية حالة الألَم الذي سادَ نتيجة إجرام هيرودُس. كان يرى متَّى أنَّ التَّاريخ حتَّى يشهد لما سيحصل مع المسيح، لأنَّ رَبّ التَّاريخ هو واحد، الذي فيه يقود الله كل الأحداث إلى غايتها الأسمى.

كيف دمج متى اقتباسين؟

عطفاً على المثال الأخير، ما حصل مع المسيح حصل مع النَّبي زكريَّا أيضاً، هذا الأخير كان قد طلبَ من الشَّعب ثمَن أُجرته لأنَّه حذَّرهم من قَضاء الرَّب، فكان الثَّمن ثلاثين من الفضَّة وهو يُعتبَر ثمَن بَخس ومُهين للعمل الذي قام به زكريَّا نحوهم، أمَّا هم فقد تجاهلوا إرشاده لهم. في هذه الحادثة توجد قواسِم مُشتركة مع الثَّلاثين من الفضَّة التي خان بها يهوذا المسيح، فهو يُمثِّل الخائِنين من شَعب الرَّب. يهوذا بعدما أحسَّ بعذاب الضَّمير ردَّ المال إلى الفرِّيسيِّين ولأنَّ ثمَن الدَّم لم يكُن مقبولاً ليتمّ الاحتفاظ به في الهيكَل، لذلك تمَّ دفع المبلغ لشِراء حقل الفخَّاري وبالمثل الثَّمَن الذي كان لزكريَّا تمَّ دفعه إلى الفخَّاري.

نسبَ متَّى هذا النَّص لإرميا أيضاً لأنَّ حادثة مُشابهة مذكورة فيه ويريد أن يربط الحادثتين مع بعضهما، لكنَّه استخدم اِسم إرميا لأنَّه كنَبيّ كان معروفاً أكثر عند القُرَّاء وقد وردَ في الإصحاح الثَّامن عشر من سِفر إرميا في مثالٍ عمَليٍّ قدَّمه إرميا نفسه كيف أنَّ هناك قضاء قادم على الشَّعب، في هذا المَثل يُخبر إرميا الشَّعب أنَّهم في يد الرَّب كما الطِّين في يد الفخَّاري، هو يصنع بهم ما يشاء ويستطيع أن يُسلِّمهم للقضاء نتيجةً لشُرورهم.

في مواضِع أُخرى يقتبس العهد الجديد من سِفر زكريَّا لكن دون أن يذكُر الاِسم ولا حتَّى مرَّة واحدة، وقد وردَ في كِتاب تفسير استخدام العهد القديم في العهد الجديد حول هذه الحادثة ما يلي: “قد يقول الحاخامات أحيانًا اقتباساً (من العهد القديم) مُركَّباً لأكثر من نَصّ ولكنَّهم يُشيرون إلى مصدر واحد فقط بالاِسم، وغالباً ما يكون المصدر الأكثر غموضاً (على الرَّغم من أنَّه في بعض الأحيان يكون الأكثر أهميَّة أيضاً) لضمان أن يلتقط الآخرون المرجع.”² ومن خلال ما أوضحناه يمكننا الآن معرفة أنَّ ما قام به متَّى هو أمر طبيعي وفق المعايير الأدبيَّة لتلك الحقبة وأنَّ اقتِباسه هذا يتوافق مع مفهوم البيئة التي كتبَ إليها. في حين أنَّنا وفق معاييرنا الأدبيَّة المُعاصرة قد نظنّ أنَّ متى أخطأ، لكن نظرة باحث حول القرن الأوَّل تُظهر لنا أنَّ لهذا البَشير إلمام كبير بالكُتب المقدَّسة فهو بيَّنَ أنَّه مُدرِك للتَّشابُه بين هذه الأحداث عالِماً أنَّ يد الله تعمل بالتَّاريخ وأنَّ هذه النُّصوص تُشير لحقيقة واحدة.

جانب من نبوءة زكريَّا التي اقتبسها متَّى يتوافق مع ما حصل مع المسيح، وجانب آخر من نبوءة إرميا يتوافق أيضاً مع ما حصل أيَّام المسيح، ففي زكريَّا وَجه الشَّبَه هو الثَّمَن الذي ثمَّنَ به الأشرار خادمهم الأمين، وفي إرميا كان النَّبي يُخبر الشَّعب عن دينونة قادمة، هكذا كان المسيح يفعل أيضاً. هذا الدَّمج لم يكُن مُقتصراً على متَّى بل هكذا فعل بعض الرُّسُل أيضاً. فالرَّسول مَرقُس في بداية إنجيله دمجَ نبوءتين، واحدة مذكورة في مَلاخي 1:3 وأُخرى في إشَعياء 3:40 مع ذكره فقط لِاسم إشَعياء، لأنَّه النَّبي المعروف أكثر، وهكذا فعل المسيح أيضاً وقد أوضحنا ذلك في مقال آخر.³


مقالات مُشابِهة

هل أساء متّى الرسول في الاقتباس من العهد القديم؟
أهمية معرفة الكتاب المقدس
هل ضاعت أسفار من العهد القديم؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.