مريم ترفع يديها في الصلاة لله

تتميَّز شخصيَّة مريم العذراء بين نِساء الكتاب المقدَّس. فهي مثال في الطَّاعة والخُضوع لمشيئة الرَّب. كما أنَّ الله ميَّزها وأعطاها مكانة مخصَّصة في التَّاريخ المسيحيّ لتكون الآنية التي احتوت ربّنا يسوع المسيح. ولكن مفهوم البشر عن تلك القدِّيسة تشوَّشَ لأسبابٍ خاطئة. سيتناول هذا المقال ما يخبرنا به الكتاب المقدَّس عن العذراء مريم.

مريم العذراء في الكتاب المقدس

ارتبطَ دور العذراء مريم بوَعد الله بالمُخلِّص. تكمُن أهميَّة شخصيَّتها لا من نفسها، بل من وَعد ونعمة الله، كما هي حال جميع شخصيَّات الكتاب المقدَّس باستثناء الرَّب يسوع.

مريم العذراء وتجسد الرب يسوع

تبدأ قصَّة مريم، تلك الصَّبيَّة اليهوديَّة المؤمنة، بحُلم. يخبرنا الكتاب المقدَّس في إنجيلَيّ متَّى ولوقا أنَّ الله أرسلَ ملاكه ليُبشِّر هذه الصَّبيَّة بأعظم خبر ممكن أن تسمعه. يسرد متَّى في إنجيله (18:1-25) كيف أنَّ مريم العذراء التي كانت لا تزال مخطوبة، سوف تحبل بمُخلِّص العالَم. وقد أربكَ هذا الخبر مريم، خاصَّةً كونها لم تعرف رَجُلاً من قبل، أي أنَّها كانت عذراء.

بالطَّبع يبدو أنَّ أمراً كهذا مستحيل للعقل البشري. فكيف يمكن لامرأة أن تحبل وتلد ابناً وهي عذراء؟ ولكن بحسب وعد الله المُعلَن بنبوَّة على فم النَّبي إشَعياء، يولد مُخلِّص البشريَّة من عذراء.
“وَلَكِنَّ السَّيِّدَ نَفْسَهُ يُعْطِيكُمْ آيَةً: هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْناً، وَتَدْعُو اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ.” (سِفر إشَعياء 14:7)

وبحسب متَّى 23:1 تعني كلمة عمَّانوئيل “الله معنا”. وبالتَّالي أعلنَ الله تجسُّده قبل حدوثه بحوالي 650 سنة.

the virgin mary in Arabic

طاعة وخضوع مريم العذراء

كما يميل معظم المؤمنين إلى نسيان وعود الله. هكذا هي الحال عند مريم التي طرحت إرباكها بشكل سؤال للملاك:
“… «كَيْفَ يَحْدُثُ هَذَا، وَأَنَا لَسْتُ أَعْرِفُ رَجُلاً؟»” )إنجيل لوقا 34:1(
من وجهة نظرنا هو سؤال منطقي، ولكن جواب الملاك كان عكس ذلك:
“فَأَجَابَهَا الْمَلاكُ: «الرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُدْرَةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ. لِذلِكَ أَيْضاً فَالْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ. فَلَيْسَ لَدَى اللهِ وَعْدٌ يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ إِتْمَامُهُ»” )إنجيل لوقا 35:1، 37(
وعلى الرّغم من عدم المنطق أظهرَ جواب مريم طاعتها:
“هَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَمَا تَقُولُ.” )إنجيل لوقا 38:1(
وما أجمل تلك الكلمات المتواضعة! وهذه الطّاعة كانت ممزوجة بتسبيحةٍ رائعة معلنةً ابتهاجها بالله:
“… «تُعَظِّمُ نَفْسِي ٱلرَّبَّ، وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِٱللهِ مُخَلِّصِي،»” )إنجيل لوقا 1: 46-47(

أعلَنت مريم في تلك الكلمات احتياجها لخَلاص الرَّب وخُضوعها لمشيئته. مع العِلم أنَّه كان بإمكان الرَّب اختيار أيّ عذراء من إسرائيل لكي تَلِد المُخلِّص، وقد أدرَكت مريم هذا الأمر ومن هُنا أتى فرحها. فهي كانت على يقين بعدم استحقاقها لهذا الأمر، وبتواضعٍ فرِحَت بنعمة الله غير المُستحَقَّة لها.


أعلَنت مريم في تلك الكلمات احتياجها لخَلاص الرَّب وخُضوعها لمشيئته


مريم كأمّ ليسوع

تظهر مشيئة الله بعدم تعظيم أيّ شخصيَّة في الكتاب المقدَّس إلَّا الرَّب يسوع وحده من خلال إظهار ضعف هذه الشَّخصيَّات. كانت مريم تقوم بدورها كأُمّ بشريَّة في حياة يسوع بشكل طبيعي، فهي ربَّته واهتمَّت به، ولكنَّ الرّب قَصَدَ إظهار ضعفها كامرأة عاديَّة تحتاج إلى عنايتهِ من خلال قصَّة العيد.
“وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ. فَلَمَّا بَلَغَ سِنَّ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ، صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَالْعَادَةِ فِي الْعِيدِ. وَبَعْدَ انْتِهَاءِ أَيَّامِ الْعِيدِ، رَجَعَا، وَبَقِيَ الصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ. وَلكِنَّهُمَا إِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ، سَارَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَاحِدٍ ثُمَّ أَخَذَا يَبْحَثَانِ عَنْهُ بَيْنَ الأَقَارِبِ وَالْمَعَارِفِ. وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ، رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَبْحَثَانِ عَنْهُ. وَبَعْدَ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِساً وَسْطَ الْمُعَلِّمِينَ يَسْتَمِعُ إِلَيْهِمْ وَيَطْرَحُ عَلَيْهِمِ الأَسْئِلَةَ.” (إنجيل لوقا 41:2-46)

تصدم هذه القصَّة بعض القُرَّاء لكونها شفَّافة لهذه الدَّرجة. لم تكن مريم تعرف أين يسوع؟ أضاعتهُ لثلاثة أيَّام؟ نعم، قصدَ الله أن يضع لنا هذه الحادثة في كتابه لكي يُثبت محدوديَّة البشر أمام سُلطانه. بالرَّغم من أنَّ مريم تتمتَّع بمركز مُميَّز في الكتاب المقدَّس بكونها المرأة الوحيدة التي حبلت بالمُخلِّص، ولكنَّ الله لا يريد لها أن تُرفَع فوق هذا المُخلَّص. ومن بعد قراءة سريعة للأناجيل، يتَّضح أنَّ مريم بذاتها لم تكن تريد حدوث هذا الأمر ولا حتَّى افتكرت به.

مريم في عرس قانا الجليل

من أشهَر أحداث إنجيل يوحنَّا هي قصَّة عُرس قانا الجليل. اشتهرت هذه القصَّة لكونها تُخبر عن أوَّل معجزة ليسوع في بداية خدمته. ولكن قبل حصول تلك المعجزة، كان قد جرى حديث بين مريم ويسوع، وبين مريم وخُدَّام العُرس.

كان قد نفذَ الخمر في العُرس، ولجَأت مريم لابنها عالِمةً أنَّه الوحيد الذي بإمكانه حَلّ المشاكل من خلال خلق أُمور غير موجودة. يُحاول البعض إظهار سُلطان مريم وشفاعتها من خلال هذه القصَّة، ولكن التَّفسير الصَّحيح لهذا الأمر يأتي على فم يسوع المقدَّس:
“… مَا شَأْنُكِ بِي يَا امْرَأَةُ؟ سَاعَتِي لَمْ تَأْتِ بَعْدُ!” (إنجيل يوحنَّا 4:2)

لم يكُن يسوع يرفض أُمّه. ولكن كان يجب أن تبدأ خدمة يسوع الأرضيَّة بحسب مُخطَّط الله وليس بحسب مُخطَّط البشر. بحسب المُفسِّر جون ماك آرثر، أشارَت لهجة يسوع إلى وضع مسافة بين الفريقين قائلاً: “وعلى مريم ألَّا تعرفهُ في ما بعد كثيراً كابنٍ رَبَّتهُ، بل كالمسيح الموعود به وابن الله.”1

وقد بدا أنَّ مريم فهمت هذا الأمر تماماً، حيث ظهرَ ذلك حين قالت للخدَم:
“… «افْعَلُوا كُلَّ مَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ.»” )إنجيل يوحنَّا 5:2(
لم يكن جوابها له: «لماذا لا تفعل ما أقوله لك؟ ألَم أقُل لك أنَّهم نفَذوا من الخمر؟ فاذهب واصنع لهم خمراً!» ولكن مريم، وبحسب شخصيَّتها المتواضعة، أدرَكت أنَّها بالرَّغم من كونها أُمّ يسوع في الجسد، إلَّا أنَّه سيِّدها وخالقها ومُخلِّصها. فبخُضوعٍ كاملٍ لم تُجِبه، ولكنَّها وجَّهت الكلام للخُدَّام مُظهِرةً إرادتها بأن تكون ضمن مشيئة الله.

مريم عند الصليب

تظهر مريم للمرَّة الأخيرة في الأناجيل عند موت وقيامة يسوع. فقد مشَت معه ورأت آلامه وتأمَّلت بجراحاته عندما كان مُعلَّقاً على الخشَبة. وكأيّ أُمّ، تأثَّرت مريم، فهي فعلِيّاً قد رأت جسد ابنها الذي ربَّته واهتمَّت به بقدر استطاعتها، يتمزَّق أمامها.
ولكن موت يسوع، رَبّ المجد، كان ضروريّاً. كانت مريم تعلَم منذ البداية هذا الأمر لأنَّ الملاك كان قد أخبرَها أنَّ هذا الصَّبيّ سيُخلِّص شعبه من خطاياهم. كانت مريم تتأمَّل بيسوع بحُزنٍ شديد، ولكن برَجاء، عالِمةً أنَّه إن لم يمُت ويقوم، فلن يَخلُص أيّ إنسان بما فيهم هي.

النظرة الكتابية

إن أعطينا مريم أيّ لقَب لم يُعطِها إيَّاه الرَّب في كلمته، فبهذا نكون قد عصَينا كلمة الله، ونكون قد فعلنا تماماً عكس ما فعلته مريم. فهي تواضعَت وأدركت نعمة الله وخَلاصه وابتهجت به. كما أنَّ إدراكها هذا طال كونها مُجرَّد آنِية لا يحتاج إليها الله، ولكنَّه برحمته يُنعم على شعبه ويعطيهم ما لا يستحقُّونه.

في الختام، يجب علينا إدراك أنَّنا في اللَّحظة التي نبتعد فيها عن حدود كلمة الله سوف نقع في حُفرة عميقة من التَّفسير الخاطئ، الذي يمكن أن يؤدِّي إلى هلاكنا. لذلك اقتدِ بمريم، تُب وآمن بيسوع لتَخلُص.

الكاتب: الأخ كمال

Minister & Theologian


مقالات مُشابِهة

مريم العذراء
لكي سيدتي مريم
قصة مريم


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.