Jesus as a shepherd

المسيح هو أشهر الشَّخصيَّات وأكثرها تأثيراً عبر التَّاريخ. في هذا المقال سنتحدَّث عن شخص المسيح بحسب تعريف الإيمان المسيحي التَّاريخي وشهادة الأناجيل.

في إحدى المرَّات التي كان فيها التَّلاميذ مع المسيح على متن إحدى السُّفن في بحر الجليل، كان عددٌ لا بأس به من التَّلاميذ خُبراء كِفاية في صيد السَّمك والإبحار عبر هذا البحر، وفي ذلك اليوم نامَ المسيح في مؤخِّرة القارب، ونومهُ لم يكُن صُدفة بل كان قاصداً أن يترك تلاميذه وحدهم، وعالِمٌ بأنَّ عاصفة عظيمة كانت قادمة نحوهم لتهدِّد حياتهم، وحين أتت العاصفة لم تنفعهم خبرتهم بالإبحار، واستمرَّ بهم الخوف والارتباك إلى أن فقدوا الأمل.

وعند اشتداد العواصف يسمع الله لصراخ عبيده، لأنَّهم حينها يُناشدونه ويتوسَّلونه، ولذلك لا عجَب إن سمحَ الله لبعض العواصف أن تهبّ في حياتنا. وبالعودة للقصَّة ومع اشتداد العاصفة وازدياد الخوف والرُّعب في قُلوب التَّلاميذ، صرخوا وأيقظوا المسيح وعاتبوه بقولهم له:

“…فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ: «يَا مُعَلِّمُ، أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟»” (إنجيل مَرقُس 38:4)

بالطَّبع أحوالنا تهمّ الله وهو عالم بها مسبقاً، لكن بالنِّسبة له فإنَّ هلاك أروحنا أخطر من هلاك أجسادنا، لذلك سمحَ الله بهبوب تلك العاصفة لكي يُعلِّم التَّلاميذ درساً روحيّاً مهمّاً وليتعلَّم منه جميع المؤمنين عبر العصور، وأيضاً هناك سبب آخر لهبوب العاصفة وهو لكي يُظهِر المسيح للتَّلاميذ هويَّته الحقيقيَّة من خلال أعماله وسُلطانه على كل شيء.

“فَنَهَضَ، وَزَجَرَ الرِّيحَ، وَقَالَ لِلْبَحْرِ: «اصْمُتْ. اِخْرَسْ!» فَسَكَنَتِ الرِّيحُ وَسَادَ هُدُوءٌ تَامٌّ. ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «لِمَاذَا أَنْتُمْ خَائِفُونَ هكَذَا؟ كَيْفَ لَا إِيْمَانَ لَكُمْ؟»” (إنجيل مَرقُس 39:4-40)

اللَّافِت هو رَد فِعل التَّلاميذ، فعلى الرَّغم من الفرح الذي يجب أن يملأهم بعد ما حصل، إلَّا أنَّهم خافوا خوفاً عظيماً، فوجود الإنسان في حضرة الإله القدُّوس هو أمرٌ مهيبٌ جدّاً. وقد شهدَ عن ذلك النَّبي إشعياء حين رأى مجد المسيح (إشعياء 5:6)، لذلك ارتعبَ التَّلاميذ ممَّا فعله المسيح.

“فَخَافُوا خَوْفاً شَدِيداً، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «مَنْ هُوَ هَذَا، حَتَّى إِنَّ الرِّيحَ وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِهِ؟»” (إنجيل مَرقُس 41:4)

“من هو هذا؟” لا يزال هذا السُّؤال يتردَّد صداه حتَّى يومنا هذا، كما كان أيَّام الرُّسل وكما استمرَّ عبر كل العصور، وهو سؤال يطرحه كل باحث حول شخص المسيح، لكن كيف نجيب عن هذا السُّؤال؟
سنجيب عن هذا السُّؤال:

أوَّلاً: عبر البحث التَّاريخي عن شخص المسيح من خلال أدقّ المصادر عن حياته.

ثانياً: عبر فحص أقوال المسيح في ضوء سِياقها التَّاريخي واللَّاهوتي.

new testament in arabic

شخص المسيح التاريخي بحسب الأناجيل

كل الباحثين الذين يريدون أن يعرفوا عن المسيح، يعودون إلى الأناجيل الأربعة لأنَّ فيها أقدَم وأدقّ المعلومات عن المسيح، ومهما كان موقفك من الأناجيل فلا خيار لك سوى أن تقرأ منها لكي تعرف عنه أكثر، وهذا ما يقوم به حتَّى النُّقَّاد. صحيحٌ أنَّهم يحاولون تحليل ما جاء في الأناجيل الأربعة ويحاولون أن يفترضوا وجود نصوص أقدَم من هذه الأناجيل، لكن كل ذلك يبقى مجرَّد افتراضات ونظريَّات، يعني إن لم تكُن تثق بما جاء عن يسوع في الأناجيل وسائر العهد الجديد وفق المعايير التَّاريخيَّة في البحث، فلن يبقى لديك سوى تقديم فرضيَّة مبنيَّة على رفضك لما هو خارق للطَّبيعة، ليصبح المسيح برأيك هو مجرَّد شخص ادَّعى أنَّه المسيح ومات في النِّهاية، وأتباعه المتأثِّرين به نادوا أنَّه قام من بين الأموات.

يقول كريغ كينر: “بعكس العديد من الدِّيانات والتَّقاليد العالميَّة الأُخرى التي وُلِدَت قبل وجود المطبعة، فإنَّ الدِّيانة المسيحيَّة لديها سيرة ذاتيَّة سرديَّة لمؤسِّسها من داخل الذَّاكرة الحيَّة (لشهود العيان) عن خدمته. ومهما كان تقدير المرء لقيمتها الدِّينيَّة، فإنَّ مثل هذه الرِّوايات لها قيمة تاريخيَّة غنيَّة… يَقبل معظم المؤرِّخين إمكانيَّة وجود معلومات تاريخيَّة مُحتمَل حدوثها بشكل كبير في الكتابات التَّاريخيَّة العاديَّة، حتَّى مع الاعتراف بمحدوديَّة الرِّوايات التي تتضمَّنها”¹، وبحسب كريغ إيفانز: “مصادرنا الأساسيَّة للبحث حول يسوع، عند محاولة إعادة بناء تفاصيل من حياة يسوع النَّاصري، هي الأناجيل التي قَبِلَت الكنيسة قانونيَّتها…. [والتي] عندما يتمّ اختبارها، تصمُد بشكل جيِّد”.²

هناك أدلَّة كافية لتصديق ما وردَ في الأناجيل، فمصداقيَّتها التَّاريخيَّة تتخطَّى أيّ مصدر تاريخي آخر، وقد تحدَّثنا عن بعض التَّفاصيل حول هذا الأمر في مقالات أُخرى وأيضاً لدينا الكثير لنقوله في هذا الشَّأن في أبحاث أُخرى قادمة، وكما يقول ف. ف. بروس: “لو كان العهد الجديد كتاباً علمانيّاً لكان الجميع مبهورين به وبدقَّته التَّاريخيَّة”³ لكن لأنَّه كتاب ديني فبالتَّالي يرغب النَّاس بمحاولة دَحض مصداقيَّته لدَحض الالتزامات الدِّينيَّة التي تترتَّب عليهم. لا يمكننا معرفة من هو المسيح بمعزل عن الأناجيل وبمعزل عن الإيمان التَّاريخي للمسيحيِّين المبني على الأناجيل الأربعة. لذلك في هذا المقال سنُلقي نظرة عن كثَب على شخص المسيح ماذا علَّم وماذا فعل؟ ماذا قال عن نفسه وماذا قال عنه الآخرون؟


لا يمكننا معرفة من هو المسيح بمعزل عن الأناجيل وبمعزل عن الإيمان التَّاريخي للمسيحيِّين


النبوءات عن المسيح ابن الله وكلمته

حينما دعى الله إبراهيم للخروج من أرضه، وعدَهُ بأنَّه سيعطيه نسلاً وبأنَّه سيَرِث أرض كنعان، وقال له إنَّ هذا النَّسل سيكون برَكة للأُمَم (التَّكوين 1:12-3، غلاطية 16:3)، بعدها قال يعقوب إنَّ من سِبط يهوذا سيخرُج مَلِك لبني إسرائيل (التَّكوين 10:49)، وقال موسى إنَّ نبيّاً مثله سيأتي للشَّعب ويكون كلام الله في فمه (التَّثنية 15:18)، ومع الوقت بدأت تتكشَّف أكثر وأكثر شخصيَّة هذا الشَّخص الموعود، فقد دُعِيَ مَلِكاً مثلَ داود، ودَعاهُ داود أيضاً بالرَّب (المزامير 2 و110)، وإشعياء دَعاهُ إلهاً، وقال عنه دانيال مسيحاً وأنَّه سيتشارك العرش مع الله:

“قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: «اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ».” (مزمور 1:110)
“لأَنَّهُ يُوْلَدُ لَنَا وَلَدٌ وَيُعْطَى لَنَا ابْنٌ يَحْمِلُ الرِّيَاسَةَ عَلَى كَتِفِهِ، وَيُدْعَى اسْمُهُ عَجِيباً، مُشِيراً، إِلَهاً قَدِيراً، أَباً أَبَدِيّاً، رَئِيسَ السَّلاَمِ. وَلاَ تَكُونُ نِهَايَةٌ لِنُمُوِّ رِيَاسَتِهِ وَلِلسَّلاَمِ اللَّذَيْنِ يَسُودَانِ عَرْشَ دَاوُدَ وَمَمْلَكَتَهُ، لِيُثَبِّتَهَا وَيَعْضُدَهَا بِالْحَقِّ وَالْبِرِّ، مِنَ الآنَ وَإِلَى الأَبَدِ. إِنَّ غَيْرَةَ الرَّبِّ الْقَدِيرِ تُتَمِّمُ هَذَا.” (إشعياء 6:9-7)

“وَشَاهَدْتُ أَيْضاً فِي رُؤَى اللَّيْلِ وَإِذَا بِمِثْلِ ابْنِ الإِنْسَانِ مُقْبِلاً عَلَى سَحَابٍ حَتَّى بَلَغَ الأَزَلِيَّ فَقَرَّبُوهُ مِنْهُ. فَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِسُلْطَانٍ وَمَجْدٍ وَمَلَكُوتٍ لِتَتَعَبَّدَ لَهُ كُلُّ الشُّعُوبِ وَالأُمَمِ مِنْ كُلِّ لِسَانٍ. سُلْطَانُهُ سُلْطَانٌ أَبَدِيٌّ لاَ يَفْنَى، وَمُلْكُهُ لاَ يَنْقَرِضُ.” (دانيال 13:7-14)

كل هذه الوعود كانت تنتظر تتميماً. كان يرى اليهود نصوصهم المقدَّسة على أنَّها تشير إلى حدَث افتقاد سيحصل في المستقبل وسيفتقِد الله به شعبه، وهذه الوعود تملأ صفحات كُتب أنبياء بني إسرائيل، ما يُعرَف اليوم عند المسيحيِّين بالعهد القديم.

عندما أتى المسيح قال إنَّه هو متمِّم هذه المواعيد، وأنَّه هو الشَّخص الموعود الذي أتى وسيفتقِد شعبه بني إسرائيل ومن ثمَّ سيأتي برسالة الخلاص إلى الأُمَم أيضاً، الأمر الذي نراه لاحقاً في أعمال الرُّسل.

دارَ حوار بين رئيس الكهنة وبين المسيح عند محاكمته، وكان الحوار كالتَّالي:

“…فَعَادَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: «أَأَنْتَ الْمَسِيحُ، ابْنُ الْمُبَارَكِ؟» فَقَالَ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تَرَوْنَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُدْرَةِ، ثُمَّ آتِياً عَلَى سُحُبِ السَّمَاءِ!» فَشَقَّ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ، وَقَالَ: «لاَ حَاجَةَ بِنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ. قَدْ سَمِعْتُمْ كَلامَ كُفْرِهِ: فَمَا رَأْيُكُمْ؟» فَحَكَمَ الْجَمِيعُ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ.” (إنجيل مَرقُس 61:14-64)

جميع هذه الأقوال التي سبق وذكرناها جمَّعَها المسيح من كُتب الأنبياء بأُسلوب كان مُتعارَفاً عليه في الاقتباسات بحسب الطَّريقة المدراشيَّة اليهوديَّة (دمج عدَّة آيات تتحدَّث عن نفس الموضوع في قَول واحد)، وقد قال المسيح عن نفسه في جوابه لرئيس الكهنة أنَّه هو اِبن الإنسان الذي ذَكرهُ دانيال والذي سيتلقَّى أسمى أنواع العبادة، ويتشارك العرش مع الله كما قال عنه داود وإشعياء، وهذا إعلان أُلوهيَّة من المسيح يتوافق مع تلك الحقبة ومع مفاهيم اليهود عن الأُلوهيَّة.

مواضع أُخرى يُعلِن فيها المسيح عن أُلوهيَّته:

“وَفِيمَا كَانَ الْفَرِّيسِيُّونَ مُجْتَمِعِينَ، سَأَلَهُمْ يَسُوعُ: «مَا رَأْيُكُمْ فِي الْمَسِيحِ: ابْنُ مَنْ هُوَ؟» أَجَابُوهُ: «ابْنُ دَاوُدَ!» فَسَأَلَهُمْ: «إِذَنْ، كَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبّاً لَهُ إِذْ يَقُولُ: قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي: اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئاً لِقَدَمَيْكَ؟ فَإِنْ كَانَ دَاوُدُ يَدْعُوهُ رَبَّهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ ابْنَهُ؟» فَلَمْ يَقْدِرْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يُجِيبَهُ وَلَوْ بِكَلِمَةٍ. وَمِنْ ذلِكَ الْيَوْمِ، لَمْ يَجْرُؤْ أَحَدٌ أَنْ يَسْتَدْرِجَهُ بِأَيِّ سُؤَالٍ.” (متَّى 41:22-46)

“ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: «إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ!»” (لوقا 5:6)

“فَأَجَابَهُ يَسُوعُ: «مَضَتْ هذِهِ الْمُدَّةُ الطَّوِيلَةُ وَأَنَا مَعَكُمْ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَافِيلِبُّسُ؟ الَّذِي رَآنِي رَأَى الآبَ، فَكَيْفَ تَقُولُ: أَرِنَا الآبَ؟” (يوحنَّا 9:14)

“أَجَابَهُمْ: الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّنِي كَائِنٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ».” (يوحنَّا 58:8)

“«أَنَا الأَلِفُ وَالْيَاءُ» (الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ). هَذَا يَقُولُهُ الرَّبُّ الإِلهُ الْكَائِنُ الَّذِي كَانَ الَّذِي سَيَأْتِي، الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.” (رؤيا يوحنَّا 8:1)

هناك أيضاً مواضع أُخرى بإمكاننا اقتباسها وشرحها لكنَّنا نكتفي بهذا القدر، كما أنَّ شهادة المسيحيِّين الأوائل عن المسيح تُعلِن أُلوهيَّته في مواضع عديدة. لم تقتصر النُّبوءات فقط على هويَّة المسيح بل على مختلَف تفاصيل حياته، خدمته، صَلبه، موته، وقيامته، لكن هدفنا الآن تسليط الضَّوء على هويَّة المسيح بحسب ما أعلَنتها عنه النُّبوءات وبحسب ما أكَّد عليها بنفسه.


وهذا إعلان أُلوهيَّة من المسيح يتوافق مع تلك الحقبة ومع مفاهيم اليهود عن الأُلوهيَّة


أين قال المسيح أنا الله اعبدوني؟

لم يأتِ المسيح من العدَم ويقول للنَّاس “أنا المسيح الموعود”، بل كما أثبَتنا في المقطع السَّابق أنَّ الله قد مهَّد عبر جميع الأنبياء أنَّ المسيح سيأتي ويُتمِّم كل ما كُتِب عنه. لذلك يجب أن نفهم أقوال المسيح وفق النُّبوءات وليس كما نفترض أو نظنّ أنَّ إعلان الأُلوهيَّة يجب أن يكون، كما يفعل البعض عند طرحهم للسُّؤال: أين قال المسيح أنا الله فاعبدوني؟ مُشكِّكين بذلك في أنَّ المسيح أعلنَ أُلوهيَّته. وفي هذا السُّؤال مُغالَطتان كبيرتان:

الأولى هي أنَّ أصحاب هذا الرَّأي يتجاهلون أنَّ الذين كتبوا أقوال المسيح هم أنفسهم من أعلَنوا صراحةً عن أُلوهيَّته، وكأنَّ الكُتَّاب زوَّروا كتاباتهم لكن لم يُزوِّرا أقوال المسيح، وهذا غريب جدّاً لأنَّ الذي يريد أن يُزوِّر أُلوهيَّة المسيح سوف يُزوِّر بالتَّأكيد أقوال المسيح لكي تتوافق مع الرِّسالة التي يريد إيصالها. فلو كنتَ تصدِّق ما كتبوه من أقوال المسيح لكن لا تصدِّق أقوالهم هم، فهذا لا مبرِّر له. أمَّا لو كان صحيحاً ما يفترضه طارِح السُّؤال، فهذا يعطي لكُتَّاب الأناجيل دليل مصداقيَّة لأنَّهم لم يُزوِّروا ما كان عليهم تزويره، هذا إن اعتبرناهم كذلك من الأساس.

الثَّانية هي أنَّهم يتجاهلون التَّفسير لأقدَم شهادة عن أُلوهيَّة المسيح من أتباعه، فمهما كانت أقوال المسيح، بالتَّأكيد أفضل من سيَفهمها هم أوَّل من سمعوها منه، وليس نحن اليوم، لذلك يجب أن تؤخَذ شهادتهم بعين الاعتبار كما أقوال المسيح عن نفسه.

أحياناً نلاحظ تمسُّك هؤلاء المُدَّعين بهذا السُّؤال لدرجة أنَّه حتَّى لو قال المسيح حرفيّاً “أنا الله فاعبدوني” فإنَّهم سيقولون لا بُدَّ أنَّه كان يمزح. وهذا لأنَّ لديهم فرضيَّة مسبقة تمنعهم من الإيمان بأُلوهيَّة المسيح. نفهم النُّصوص التي أعلنَ يسوع فيها أُلوهيَّته بالتَّوافق مع مفاهيم يهود القرن الأوَّل عن الأُلوهيَّة وهويَّة المسيح.

“الأنا هو” وألوهية المسيح

تتألَّف عبارة “εγώ εἰμί” والتي تعني “أنا هو” من ضمير وفِعل في اللُّغة اليونانيَّة التي كُتِب بها العهد الجديد، ليس من الضَّروري ذِكر الضَّمير “εγώ” لتوصيل المعنى، يكفي ذِكر الفعل “εἰμί”، لكنَّه إن وُجد يُستخدم لهدف وهو التَّشديد أي أنَّه يفيد التَّوكيد إذا ما أردنا التَّشبيه بقواعد اللُّغة العربيَّة. يسجِّل لنا إنجيل يوحنَّا سبع مرَّات يقول فيها يسوع “أنا هو” ويضيف عليها ما يشير به عن نفسه:

“أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ” (يوحنَّا 35:6)

“أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ” (يوحنَّا 12:8)

“أَنَا هُوَ الْبَابُ” (يوحنَّا 9:10)

“أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ” (يوحنَّا 11:10)

“أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ” (يوحنَّا 25:11)

“أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ” (يوحنَّا 6:14)

“أَنَا (هو) الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ وَأَبِي الْكَرَّامُ” (يوحنَّا 1:15)

في الآية الأخيرة يتعذَّر ذِكر (هو) في العربيَّة لأنَّ الكرمة مؤنَّث، لكنَّه موجود في النَّص اليوناني.

الإنجيل

الرَّقم سبعة ليس رقماً عشوائيّاً، فالأرقام كان لها دلالات معروفة لدى القرَّاء الأوائل، لذلك استخدمها الكُتَّاب لكي يوصلوا رسالة تتخطَّى المعنى الحرفي للرَّقم. سبعة هو رقم الكمال في الكتاب المقدَّس، وهذه الأقوال السَّبعة التي ذكرناها أعلاه تشير إلى كمال خلاص المسيح، خاصَّةً أنَّ هذه الأقوال تتحدَّث عن جانب خلاصي من عمل المسيح متوافقةً مع المعجزات السَّبع التي يسجِّلها هذا الإنجيل. فبعدما أطعم يسوع الجموع بطريقة معجزيَّة قال إنَّه خبز الحياة، عندما شفى الأعمى قال إنَّه نور العالَم، عندما أقام لعازر قال أنا القيامة والحياة، فكل شفاء جسدي قدَّمه يسوع أو كل معجزة سَدّ احتياج جسدي كان يعطي لها أيضاً بُعداً روحيّاً في هذه الأقوال، بُعداً كان سيتمِّمه قريباً جدّاً في الصَّليب. فالرَّب يسوع يضمن الشِّبع الرُّوحي، يعطي بصيرة روحيَّة، يقيم قيامة روحيَّة عبر التَّجديد الذي يجريه الرُّوح القدُس في حياة المؤمن، وأيضاً سيُقيم المؤمنين للحياة الأبديَّة في اليوم الأخير.

لكن أحياناً أُخرى كان يقول يسوع “أنا هو” فقط دون أن يُكمل الجُملة، وفي بعض هذه الأحيان نعرف من السِّياق ما يريد أن يقوله بعد “أنا هو”، مثلاً في حديث يسوع مع السَّامريَّة من الواضح بحسب السِّياق أنَّه يقول لها أنا المسيح: “قَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ: أَنَا أَعْلَمُ أَنَّ مَسِيَّا، الَّذِي يُقَالُ لَهُ الْمَسِيحُ، يَأْتِي. فَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُخْبِرُنَا بِكُلِّ شَيْءٍ. قَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَنَا الَّذِي أُكَلِّمُكِ هُوَ” (يوحنَّا 25:6-26)، لكن أحياناً لا يكون المعنى ظاهراً، وبإمكاننا تسمية هذه الحالة “بالأنا هو” المجرَّدة، ويُقصَد بها معنىً مزدوجاً أي بُعداً آخر للعبارة.

“الأنا هو” المجرَّدة لن تكون واضحة في البداية ولن يفهم المستمع قول يسوع، فخلال حديثه مع الفرِّيسيِّين قال لهم: “لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ.” (يوحنَّا 24:8)، لم يكُن المعنى ظاهراً هنا، ماذا يقصد يسوع؟ هل يقول إنَّه المسيح أم أكثر من ذلك؟ “الأنا هو” التَّالية والأخيرة في هذا النَّص توضح المقصود، لأنَّ المعنى واضح جدّاً من هذه الآية والتي لا لبس فيها أنَّ المسيح يقول إنَّه كان موجوداً حتَّى قبل أن يولد النَّبي إبراهيم: “قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: قَبْلَ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ εγώ εἰμί (أنا هو) أَنَا كَائِنٌ.” (يوحنَّا 58:8)

بحسب ريتشارد باكوم: “القرَّاء الذين يدرُسون هذا الإنجيل بانتباه، سوف يجدون أنَّه وفي ضَوء أقوال المسيح الأُخرى التي قال فيها (أنا هو) هناك معنى أعمق، فيسوع لم يعلِن فقط أنَّه المسيح بل يعلِن أيضاً عن هويَّته الإلهيَّة”.

دلالة “الأنا هو” تكمُن في أنَّها استُخدِمت من مترجِمي التَّرجمة اليونانيَّة السَّبعينيَّة للعهد القديم التي كانت منتشرة ومعروفة أيَّام المسيح، والتي تُستخدَم فيها اللَّفظة العبريَّة “يهوه” التي تعني “أنا هو” وتترجَم باليونانيَّة “εγώ εἰμί”، وقد استُخدِمت للإشارة إلى يهوه في أكثر من نَصّ، ومنها ما وردَ في سِفر النَّبي إشعياء: “أَنْتُمْ شُهُودِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَعَبْدِي الَّذِي اخْتَرْتُهُ، لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا بِي وَتَفْهَمُوا أَنِّي أَنَا هُوَ. قَبْلِي لَمْ يُصَوَّرْ إِلهٌ وَبَعْدِي لاَ يَكُونُ.” (إشعياء 10:43)، ليكون بذلك أنَّ المسيح في سِياق الآية التي ذكرناها قبل قليل في (يوحنَّا 58:8) يستخدِم نفس الكلمة التي قالها يهوه عن نفسه ويعلِن أيضاً أنَّه هو الكائن قبل إبراهيم، وبذلك يشير لأزَليَّته التي هي من صفات الله وحده، لهذا السَّبب تستخدِم التَّرجمات العربيَّة كلمة “الكائن” أو “الكائن الدَّائم” في ترجمة “أنا هو” في هذه الآية. والذي يؤكِّد على هذا التَّفسير فهم اليهود له، فحينها فقط وخلال هذا الحوار فهموا بأنَّه يعلِن أُلوهيَّته لذلك أرادوا قتله: “فَرَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ.” (يوحنَّا 59:8) لأنَّه يُجدِّف بحسب رأيهم، إذ وهو إنسان يجعل نفسه إلهاً كما قالوا له صراحة أيضاً في موضع آخر (يوحنَّا 17:5، 33:10).

الهدف من هذا المقطع هو توضيح لماذا يعطي المسيحيُّون أهميَّةً لعبارة “أنا هو” وذلك عبر شرح دلالتها اللَّاهوتيَّة وإظهار كيف تتوافق أقوال المسيح هذه مع إعلاناته الأُخرى عن أُلوهيَّته والتي أتت في سياق التَّوحيد اليهودي، هذه الأُلوهيَّة التي أدركها المسيحيُّون الأوائل وبنوا عليها إيمانهم، وأدركها أيضاً أخصام يسوع وبنوا عليها شكواهم عليه.

Old testament in arabic

هل تعني عبارة ابن الله أن المسيح ملاك؟

تحدَّثنا في مقالٍ آخر عن تميُّز بنوَّة المسيح لله، لكن سنضيف الآن ردّاً على الاعتراض التَّالي الذي يطرحه البعض والذي يقول: “إنَّ قول المسيح عن نفسه بأنَّه اِبن الله بالإضافة إلى كل المجد الذي نسبَهُ لنفسه إنَّما هي أُمور تتوافق مع فكر اليهود عن الملائكة والكائنات الأسمى، وليست بالضَّرورة أن تكون وفقاً للتَّعريف الحالي الذي يؤمن به المسيحيُّون بأنَّ المسيح هو أحد أقانيم الثَّالوث ومُعادِلٌ للآب في الجوهر”. كما يترافق هذا الادِّعاء مع واحد آخر ينصّ على أنَّ الفهم المسيحي لأُلوهيَّة المسيح تغيَّر مع الوقت، إذ نرى كريستولوجيا دونيَّة (التَّشديد على بشريَّة المسيح) في مَرقُس (أقدَم الأناجيل) وكريستولوجيا عالية (التَّشديد على الأُلوهيَّة) في يوحنَّا (آخر الأناجيل).

يُثبِت ريتشارد باكوم أحد أبرز عُلَماء الكتاب المقدَّس الحاليِّين والذي خصَّص كتاباً مهمّاً يدرس فيه كل الكتابات اليهوديَّة القديمة وما فيها من تعليم عن الملائكة ويُقارِنها بما علَّمه المسيح عن نفسه، أنَّ تعليم المسيح مُميَّز ومختلِف، ويصِل إلى استنتاج مفاده أنَّ اليهود ركَّزوا على عدَّة عوامل بارزة لتحديد تفرُّد وتميُّز الله، من هذه العوامل هي أنَّ الله متفرِّد بالاِسم يهوه، والأهمّ من ذلك، يَعتبر اليهود أنَّ يهوه هو الخالق الوحيد والسَّيِّد الأعلى على كل الأشياء، وهو إله العهد مع بني إسرائيل. في العهد الجديد يُنظَر إلى يسوع أيضاً على أنَّه شخصيَّة إلهيَّة متميِّزة لأنَّ علاقته بإسرائيل والخليقة هي نفس علاقة يهوه بالخليقة وبإسرائيل، ويقول باكوم: “عندما تُقرأ كريستولوجيا العهد الجديد مع أخذ هذا السِّياق اللَّاهوتي اليهودي في الاعتبار، يصبح من الواضح أنَّه منذ البداية، أي ما بعد عيد الفصح المرافق لقيامة المسيح فصاعداً، أدرجَ المسيحيُّون الأوائل يسوع، بدقَّة ودون لبس، ضمن الهويَّة الفريدة ليهوه إله إسرائيل الواحد، بحيث كانت أقدَم كريستولوجيا هي بالفعل أعلى كريستولوجيا.”

كان اليهود عموماً موحِّدين متديِّنين، لدرجة أنَّ كاتباً وثنيّاً مثل تاسيتوس قال عنهم: “اليهود يتصوَّرون وجود إله واحد”. وبالنَّظر إلى هذا السِّياق التَّوحيدي اليهودي، يصبح إعطاء هذه المكانة ليسوع كخالق وكإله للعهد، هو أمر غير مسبوق تاريخيّاً ومن غير المحتمل أن يؤلِّفه من هم من خلفيَّة يهوديَّة ليُبشِّروا اليهود فيه. مثلاً في التَّرنيمة المذكورة في فيلبِّي 2، والتي تُعتبَر موجودة من قبل كتابة بولُس لهذه الرِّسالة والتي اقتبسَها بغرَض التَّعليم، تُطبَّق فيها نصوص خاصَّة بيهوه على المسيح، إذ يقول يهوه في العهد القديم: “سَتَجْثُو لِي كُلُّ رُكْبَةٍ وَيُقْسِمُ بِي كُلُّ لِسَانٍ.” (إشَعياء 23:45)، وقد تمَّ تطبيقها على المسيح في هذه التَّرنيمة: “لِكَيْ تَنْحَنِيَ سُجُوداً لاِسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ، سَوَاءٌ فِي السَّمَاءِ أَمْ عَلَى الأَرْضِ أَمْ تَحْتَ الأَرْضِ” (فيلبِّي 10:2). وفي ترنيمة أُخرى للمسيح في رسالة كولوسّي يُقال عن المسيح: “إِذْ بِهِ خُلِقَتْ جَمِيعُ الأَشْيَاءِ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، مَا يُرَى وَمَا لاَ يُرَى، أَعُرُوشاً كَانَتْ أَمْ سِيَادَاتٍ أَمْ رِئَاسَاتٍ أَمْ سُلُطَاتٍ. كُلُّ مَا فِي الْكَوْنِ قَدْ خُلِقَ بِهِ وَلأَجْلِهِ.” (كولوسّي 16:1).

بالإضافة إلى ذلك، تُظهِر أنماط العبادة المبكِّرة للمسيحيِّين أنَّ يسوع كان يُعبَد بطريقة تليق فقط بيهوه، كما يظهر ذلك في الصَّلوات المقدَّمة ليسوع أو بِاسمه، وفي الدُّعاء لِاسمه كرَبّ، والمعموديَّة بِاسمه، والتَّراتيل والتَّمجيد التي تمجِّد دَوره كخالق. وبحسب لاري هرتادو: “هنا نرى التَّأثير القوي للتَّوحيد اليهودي، ممزوجاً بدافع قوي لتبجيل يسوع بطرُق غير مسبوقة”.

أُلوهيَّة المسيح تظهر في الأناجيل الإزائيَّة أيضاً (متَّى، مَرقُس، ولوقا) وليس فقط في إنجيل يوحنَّا. صحيحٌ أنَّ لكل إنجيل توجُّه عام، لكن كما سبق وأشَرنا أنَّ أحد أهمّ إعلانات الأُلوهيَّة في الأناجيل ومفهوم وجود المسيح السَّابق لتجسُّده هي في الأناجيل الإزائيَّة. وردَ في كتاب كيف صارَ الله يسوع: “إذا قرأت متَّى ولوقا بعناية في ضَوء خلفيَّتهما اليهوديَّة، يمكنك أن ترى أنَّ لهما علاقة كاملة بالمسيح الموجود قبل الحبَل به، قبل أن “يأتي” ليبدأ مهمَّته الأرضيَّة…”.

نرى إذاً نمطاً مبكِّراً تمَّت فيه العبادة للمسيح، وتؤكِّد على ذلك رسائل بولُس. وردَ في كتاب كيف صارَ الله يسوع: “لا يوجد ملاك أو كائن وسيط من أيّ نوع في أيّ نصّ يهودي يُعادل الطَّريقة التي يتحدَّث بها بولُس عن هذه العلاقة بالمسيح. بل إنَّ الطَّريقة التي يصِف بها بولُس العلاقة بين المسيح والمسيحيِّين لا تُشبِه إلَّا العلاقة بين إسرائيل ويهوه… إنَّ هذا استنتاج ذو أهميَّة كريستولوجيَّة كبيرة… لم تخترع الكنيسة الأولى عقيدة توحيديَّة صارمة، بل ورِثوها عن اليهوديَّة. لكنَّهم خلقوا توحيداً كريستولوجيّاً حيث أصبح الإله الواحد معروفاً الآن من خلال الرَّب يسوع المسيح وفيه”¹⁰.

يقول البعض أيضاً أنَّ النَّظرة المسيحيَّة أُخِذَت من الفِكر اليوناني ومفهوم تجسُّد الآلهة، لكن هذا خطأ أيضاً فلا يوجد تشابُه حقيقي بين تجسُّد المسيح في الإطار الفكري اليهودي وبين التَّعاليم اليونانيَّة عن التَّزاوج بين الآلهة والبشر. وهذا ما يؤكِّد عليه أحد نُقَّاد المسيحيَّة الأوائل سيلسيوس الوَثني، والذي كان يميِّز تعاليم المسيحيَّة عن اليونانيَّة ويقول إنَّ تعاليم المسيحيَّة جديدة، وهو أحد أبرز من انتقدوا المسيحيَّة في تلك الفترة وكان يحاول بشتَّى الطُّرق تشويه صورتها. فلو كانت المسيحيَّة مجرَّد إحياء للعبادة الوثنيَّة اليونانيَّة أو غيرها لكان نُقَّادها الأوائل هم أوَّل من وجبَ عليهم طرح ذلك. إنَّ ناقداً وثنيّاً من القرن الثَّاني مثل سيلسيوس الذي لم يكُن يتردَّد في الإشارة إلى أوجُه التَّشابه بين الأساطير الوثنيَّة والأناجيل، نكرَ صراحةً أنَّ الآلهة أو أبناء الآلهة أصبحوا بشراً كما في المفهوم المسيحي.

أسماء وأدوار وصفات يسوع المسيح

حملَ يسوع أسماء عديدة ولكل اِسم منها صِفة تعبِّر عن جانب من خدمته، وهي: الحمَل، النَّبي، المسيح، رئيس الكهَنة، المَلِك.

  1. الحمَل: قال يوحنَّا المعمدان عن يسوع أنَّه حمَل الله الذي يرفع خطيَّة العالَم (يوحنَّا 29:1)، ففي المفهوم اليهودي كان التَّقرُّب لله يجب أن يكون وفق الأضاحي والذَّبائح ودماء الكباش التي فيها إشارة رمزيَّة للتَّطهُّر الرُّوحي، والتي كان الهدف منها أن يُعلِّم الله شعبه مبدأ الموت البديلي وأنَّه من دون سَفك دم لا تحصل مغفرة عن الذُّنوب. إحدى الأفكار الرَّئيسيَّة في الرِّسالة إلى العبرانيِّين هي أنَّ المسيح قدَّم نفسه كحمَل بِلا عيب مرَّة واحدة وإلى الأبد، لكي يفدي النُّفوس ويُخلِّصهم من ذنوبهم. (يُشير كمال الحمَل جسديّاً إلى خُلوّ المسيح من الخطيئة).

“…فَوَفْقاً لِلنِّظَامِ السَّابِقِ، كَانَ دَمُ الثِّيرَانِ وَالتُّيُوسِ يُرَشُّ عَلَى الْمُنَجَّسِينَ، مَعَ رَمَادِ عِجْلَةٍ مَحْرُوقَةٍ، فَيَصِيرُونَ طَاهِرِينَ طَهَارَةً جَسَدِيَّةً. فَكَمْ بِالأَحْرَى دَمُ الْمَسِيحِ الَّذِي قَدَّمَ نَفْسَهُ لِلهِ بِرُوحٍ أَزَلِيٍّ ذَبِيحَةً لاَ عَيْبَ فِيهَا، يُطَهِّرُ ضَمَائِرَنَا مِنَ الأَعْمَالِ الْمَيِّتَةِ لِنَعْبُدَ اللهَ الْحَيَّ. وَلِذَلِكَ، فَالْمَسِيحُ هُوَ الْوَسِيطُ لِهَذَا الْعَهْدِ الْجَدِيدِ. فَبِمَا أَنَّهُ قَدْ تَّمَ الْمَوْتُ فِدَاءً لِلْمُخَالَفَاتِ الْحَاصِلَةِ تَحْتَ الْعَهْدِ الأَوَّلِ، يَنَالُ الْمَدْعُوُّونَ الْوَعْدَ بِالإِرْثِ الأَبَدِيِّ” (الرِّسالة إلى العبرانيِّين 13:9-15)

  1. النَّبي: قال عنه موسى أنَّه نَبي (التَّثنية 18:18، أعمال الرُّسل 22:3، 37:7)، وقد قامَ بدَور النَّبي إذ دَعا الشَّعب للعودة إلى الله وبلَّغهم الرِّسالة الإلهيَّة. كَون المسيح نَبيّاً وإنساناً كما أشارَ عن نفسه، فهذا لا يعني أنَّه ليس كلمة الله الظَّاهر في الجسد، فتعليم المسيح ينصّ على أنَّه شخص واحد بطبيعتين، الأمر الذي سنشرح عنه أكثر في المقطع التَّالي.

  2. المسيح: هو أحد أسماء يسوع أيضاً، فهو يعني الممسوح أو المُعيَّن. كان يتمّ تعيين الأنبياء والملوك في العهد القديم عبرَ مَسحهم بزيوت وعطور (الخُروج 7:29، اللَّاويِّين 12:8، صموئيل الأوَّل 13:16، الملوك الأوَّل 19:16)، والمسيح كان اِبن الله من قبل أن يُحبَل به في مريم العذراء من الرُّوح القدُس، لكنَّه تعيَّن أي مُسِحَ علانيةً بشهادة الرُّوح القدُس عند معموديَّته للخدمة (متَّى 16:3-17).

  3. رئيس الكهنة: كان رئيس الكهنة اليهودي هو الوحيد الذي يحقّ له الدُّخول إلى قُدس الأقداس الذي هو أقدَس مكان في خيمة الاجتماع والهيكل لاحقاً، وكان ذلك يحدث في ما يُعرَف بيوم الكفَّارة (اللَّاويِّين 16). كان هدف هذا الدُّخول هو رَشّ دم الأُضحِية على تابوت العهد أي ما يُعرَف بكُرسِيّ الرَّحمة، كإشارة عن تطهير الأُمَّة بعدما يقدِّم رئيس الكهنة عن نفسه ذبيحة عن خطاياه ليستطيع الدُّخول إلى محضر الله. يقول كاتب الرِّسالة إلى العبرانيِّين أنَّ المسيح كرئيس الكهنة دخلَ مرَّة واحدة إلى قُدس الأقداس السَّماوي غير المصنوع بيَد (الرُّوحي) وقدَّم دم نفسه وصنع فداءً أبديّاً.

“…الْكَهَنَةُ الْعَادِيُّونَ كَانُوا يَتَغَيَّرُونَ دَائِماً، لأَنَّ الْمَوْتَ كَانَ يَمْنَعُ أَيَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنَ الْبَقَاءِ. وَأَمَّا الْمَسِيحُ، فَلأَنَّهُ حَيٌّ إِلَى الأَبَدِ، فَهُوَ يَبْقَى صَاحِبَ كَهَنُوتٍ لاَ يَزُولُ! وَهُوَ لِذَلِكَ قَادِرٌ دَائِماً أَنْ يُحَقِّقَ الْخَلاَصَ الْكَامِلَ لِلَّذِينَ يَتَقَرَّبُونَ بِهِ إِلَى اللهِ. فَهُوَ، فِي حَضْرَةِ اللهِ، حَيٌّ عَلَى الدَّوَامِ لِيَتَضَرَّعَ مِنْ أَجْلِهِمْ وَيُحَامِيَ عَنْهُمْ! نَعَمْ، هَذَا هُوَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ الَّذِي كُنَّا مُحْتَاجِينَ إِلَيْهِ. إِنَّهُ قُدُّوسٌ، لاَ عَيْبَةَ فِيهِ، وَلاَ نَجَاسَةَ، قَدِ انْفَصَلَ عَنِ الْخَاطِئِينَ، وَارْتَفَعَ حَتَّى صَارَ أَسْمَى مِنَ السَّمَاوَاتِ.” (الرِّسالة إلى العبرانيِّين 23:7-26)

“فَمَعْلُومٌ أَنَّ مُوسَى، بَعْدَ تِلاَوَةِ وَصَايَا الشَّرِيعَةِ كُلِّهَا عَلَى الشَّعْبِ، أَخَذَ دَمَ الْعُجُولِ وَالتُّيُوسِ مَعَ بَعْضِ الْمَاءِ، وَرَشَّهُ عَلَى كِتَابِ الشَّرِيعَةِ، وَعَلَى أَفْرَادِ الشَّعْبِ، بِبَاقَةٍ مِنْ نَبَاتِ الزُّوفَا وَصُوفٍ أَحْمَرِ اللَّوْنِ. وَقَالَ: هَذَا دَمُ الْعَهْدِ الَّذِي أَوْصَاكُمُ اللهُ بِحِفْظِهِ. وَقَدْ رَشَّ مُوسَى الدَّمَ أَيْضاً عَلَى خَيْمَةِ الْعِبَادَةِ، وَعَلَى أَدَوَاتِ الْخِدْمَةِ الَّتِي فِيهَا. فَالشَّرِيعَةُ تُوصِي بِأَنْ يَتَطَهَّرَ كُلُّ شَيْءٍ تَقْرِيباً بِالدَّمِ. وَلاَ غُفْرَانَ إِلاَّ بِسَفْكِ الدَّمِ! وَبِمَا أَنَّ تَطْهِيرَ الْخَيْمَةِ الأَرْضِيَّةِ كَانَ يَتَطَلَّبُ رَشَّ دَمِ الذَّبَائِحِ الْحَيَوَانِيَّةِ، فَإِنَّ الْخَيْمَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لاَبُدَّ أَنْ تَتَطَلَّبَ دَمَ ذَبِيحَةٍ أَفْضَلَ مِنَ الذَّبَائِحِ الأُخْرَى. فَالْمَسِيحُ، رَئِيسُ كَهَنَتِنَا، لَمْ يَدْخُلْ إِلَى «قُدْسِ الأَقْدَاسِ» الأَرْضِيِّ، الَّذِي صَنَعَتْهُ يَدٌ بَشَرِيَّةٌ وَمَا هُوَ إِلاَّ ظِلٌّ لِلْحَقِيقَةِ، بَلْ دَخَلَ إِلَى السَّمَاءِ عَيْنِهَا، حَيْثُ يَقُومُ الآنَ بِتَمْثِيلِنَا فِي حَضْرَةِ اللهِ بِالذَّاتِ.” (الرِّسالة إلى العبرانيِّين 19:9-24)

كان الكهنوت اليهودي حِكراً على الذين هم من نَسل لاوي، لكن المسيح في الجسد كان من نسل يهوذا، فكيف يمكن أن يكون رئيس كهنة؟ تُعلِن الرِّسالة إلى العبرانيِّين أنَّ المسيح رئيس كهنة برتبة أعلى وهي رتبة مَلكي صادق المَلِك الذي قدَّم له إبراهيم العُشور قبل وجود سِبط لاوي (العبرانيِّين 7).

  1. المَلِك: أسَّس المسيح ملكوتاً روحيّاً، ونحن في انتظار أن يُكمِّل هذا الملَكوت بمجيئه الثَّاني حيث ستراه كل عين وسيدين الأحياء والأموات. لكن هذا لا يعني أنَّ المسيح ليس مَلِكاً الآن وأنَّ الكل تحت سلطانه، وأنَّه لا يزال يسحَق أعداءه بعد أن انتصر على قوى الشَّر في صَلبه وقيامته، إلى أن يُبطِل في مجيئه الثَّاني آخر عدوّ وهو الموت.

“وَبَعْدَ ذَلِكَ الآخِرَةُ حِينَ يُسَلِّمُ الْمَسِيحُ الْمُلْكَ لِلهِ الآبِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَبَادَ كُلَّ رِئَاسَةٍ وَكُلَّ سُلْطَةٍ وَكُلَّ قُوَّةٍ. فَإِنَّهُ لاَبُدَّ أَنْ يَمْلِكَ «إِلَى أَنْ يَضَعَ جَمِيعَ الأَعْدَاءِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ». وَآخِرُ عَدُوٍّ يُبَادُ هُوَ الْمَوْتُ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ قَدْ «أَخْضَعَ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَدَمَيْهِ». وَلَكِنْ، فِي قَوْلِهِ إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ أُخْضِعَ، فَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّهُ يَسْتَثْنِي اللهَ الَّذِي جَعَلَ كُلَّ شَيْءٍ خَاضِعاً لِلابْنِ. وَعِنْدَمَا يَتِمُّ إِخْضَاعُ كُلُّ شَيْءٍ لِلابْنِ، فَإِنَّ الابْنَ نَفْسَهُ سَيَخْضَعُ لِلَّذِي أَخْضَعَ لَهُ كُلَّ شَيْءٍ، لِكَيْ يَكُونَ اللهُ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ!” (كورنثوس الأولى 24:15-28)

الإله الإنسان والاتحاد الأقنومي

وردَ في قانون الإيمان الخلقيدوني في شرح طبيعة المسيح:

“ربَّنا يسوع المسيح هو بالنِّسبة إلينا الاِبن الواحد نفسه، الكامل في اللَّاهوت، والكامل في النَّاسوت؛ إلهٌ حقّاً وإنسانٌ حقّاً؛ الذي له روحٌ عاقلةٌ وجسد، والواحد مع الآب في الجوهر بحسب اللَّاهوت، والواحد معنا في الطَّبيعة بحسب النَّاسوت؛ الذي شابهَنا في كلِّ شيء، ما عدا الخطيَّة؛ المولود من الآب قبلَ كلِّ الدُّهور من جهة اللَّاهوت، لكن في الأيَّام الأخيرة، من أجلِنا ومن أجل خلاصِنا (وُلِدَ) هو نفسه من مريم العذراء الثيؤطوكوس (والدة الإله) من جهة النَّاسوت؛ فهو المسيح، والاِبن، والرَّب، والاِبن الوحيد الواحد نفسه؛ الذي له طبيعتان دون امتزاجٍ، أو تغيير، أو انقسام، أو انفصال؛ ودون زوال الاختلافات بين الطَّبيعتين بأيِّ حالٍ من الأحوال بسبب اتِّحادِهما، بل قد ظلَّت صفات كل طبيعة باقية، وكلاهما تلتقيان في أُقنومٍ واحدٍ وجَوهرٍ واحد؛ ليس أنَّه انفصلَ أو انقسمَ إلى أُقنومَين، بل هو الاِبن الواحد نفسه والله الاِبن الوحيد، الكلمة، والرَّب، يسوع المسيح؛ كما علَّم الأنبياء عنه منذُ البدء، وكما علَّمَنا الرَّب يسوع المسيح نفسه، وكما تسلَّمنا من قوانين الآباء.”¹¹

Graphic of hypostatic union

كان على المسيح أن يتجسَّد أي يظهر كإنسان كامل بروح وجسد لكي يفدي النَّاس، هذه كانت أبرز نقطة تحدَّث عنها الآباء داعمين حجَّتهم بشواهد كتابيَّة، يقول غريغوريوس النَّزينزي: “ما لم يمثِّله المسيح لا يشفيه المسيح”¹²، أي لو لم يصِر المسيح إنساناً كاملاً لما استطاع فداء الإنسان، ولو لم يكُن إلهاً كاملاً لما استطاع أن يعيش حياة يعجز عنها الإنسان، أي حياة من دون خطيئة. لذلك عرَّف المسيحيُّون عبر التَّاريخ أنَّ المسيح شخص واحد في طبيعتين، إلهيَّة وبشريَّة وتُعرَف بِاسم الاتِّحاد الأُقنومي.

لا يمكن للبشر أن يُخلِّصوا أنفسهم ولا يمكن أن يكون أحداً منهم وسيطاً لهم، لذلك وجبَ على الإله الإنسان أن يكون هو هذا الوسيط، يقول جون كالفن: “من هنا، كان لا بُدَّ أن يتَّحد بنا اِبن الله عمَّانوئيل، أي الله معنا (إشعياء 14:7، متَّى 23:1)، بحيث تنمو أُلوهيَّته وطبيعتنا البشريَّة بالارتباط المُتبادَل. وإلَّا ما كان الاقتراب كافياً ولا الانسِجام ثابتاً بصورة كافية، لكي نأمل أن يسكُن الله معنا. فالتَّناقض بين نجاستنا وطهارة الله الكاملة عظيم!”¹³

God the son in arabic

نظريَّات كريستولوجيَّة خاطئة

الأبوليناريَّة: والتي تقول إنَّ المسيح إله كامل لكن اللَّاهوت حَلَّ مكان الرُّوح البشريَّة. وبذلك هو اتِّحاد إلهي مع جسد فقط وليس مع إنسان كامل.

الأوطاخيَّة: وتقول إنَّ ناسوت المسيح اختفى باللَّاهوت كما تختفي قطرة الماء في البحر.


النَّسطوريَّة: وتقول إنَّ المسيح هو شخصيَّتن، شخصيَّة إلهيَّة وشخصيَّة بشريَّة. وهذا فصل بين الطَّبيعتين.

كل هذه النَّظريَّات فيها خلَل ولا تعطي الشَّهادة الكتابيَّة حقَّها ولا تعطي تصوُّراً منطقيّاً لشخص المسيح وكيفيَّة فدائه لنا. من المهمّ أن نوضِّح أنَّ الاستخدام الخلقيدوني لتعبير “الثيؤطوكوس” والذي يُترجَم “حامِلة الإله أو والدة الإله” لم يكُن هدفه الحديث عن هويَّة مريم بل عن هويَّة المسيح، وقد جاء هذا التَّعبير ردّاً على نَسطور الذي قال إنَّ العذراء حامِلة المسيح أي أنَّ الذي كان في بطنِها لم يكُن الإله الإنسان بل الإنسان فقط، وهذا يتوافق مع نظرته عن فَصل الطَّبيعتين. وهذه الهرطقة أدانتها الكنيسة بشدَّة.

نستطيع الآن أن نفهم ماذا قصدَ يسوع بقوله:

“لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ” (يوحنَّا 24:8)

عليك أن تؤمن بأُلوهيَّة المسيح كما أعلَنها هو، فلو لم يكُن كذلك لما استطاع أن يقدِّم للبشريَّة هذا الفداء العظيم الذي يُظهِر تكامُل العدالة والرَّحمة، ولما استطاع أن يشفع بالمؤمنين أمام الآب السَّماوي. وبكلمات أُنسيلم: “لا أحد يجب أن يدفع ثمن الخطايا سوى الإنسان، ولا أحد يستطيع أن يقوم بذلك سوى الله، لذلك وجبَ على الإله الإنسان أن يقوم بذلك.”¹⁴


مقالات مُشابِهة

كيف مات يسوع؟
من هو يسوع؟
أمثال يسوع


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.