مرقس البشير مرسوم على الزجاج

إنجيل مَرقُس هو ثاني إنجيل وفق التَّرتيب المُستخدم في الكتاب المقدَّس. من هو مَرقُس؟ وكيف نتأكَّد أنَّه هو كاتب الإنجيل؟ سنعرف عنه أكثر في هذا المقال.

مَرقُس هو أحد أتباع المسيح الأوائل، وقد كان رفيق بولُس خلال رحلاته التَّبشرية في مرحلة مبكِّرة من خدمة بولُس (أعمال 25:12)، ورفيق بطرُس في الخدمة في مرحلة أُخرى من حياته وكان بطرُس يناديه “مَرقُس اِبني” (بطرُس الأولى 13:5). وقد ذُكِرَ لأوَّل مرَّة في الكتاب المقدَّس في سِفر أعمال الرُّسل بِاسم يوحنَّا المُلقَّب بمَرقُس واسم أُمّه مريم وهي صاحبة البيت الذي كان يجتمع فيه الرُّسل للصَّلاة في بداية خِدمتهم (أعمال 12:12)، وهناك تقليد قوي في أوساط المسيحيِّين مفاده أنَّ والدة مَرقُس هي صاحبة العُلِّيَّة التي اجتمع فيها الرُّسل في أعمال الرُّسل الإصحاح الأوَّل.

مرقس الخادم

بعدما شارك مَرقُس في إرساليَّة بولُس وبرنابا أوَّل مرَّة (أعمال 25:12)، رفض بولُس أن يرافقهما مَرقُس في المرَّة الثَّانية. من الواضح أنَّ بولُس لم يكُن يرى أنَّ مَرقُس مُفيداً له في الخِدمة في ذلك الوقت لأنَّه فارقهما في مدينة بمفيليَّة، في حين أنَّ برنابا ألحَّ على وُجود مَرقُس حتى أنَّه افترق عن بولُس لهذا السَّبب فذهبَ كل منهما في طريق تبشيريَّة مختلفة (أعمال 37:15-39). لكن في مرحلة لاحقة وحينما كان بولُس وحيداً في السِّجن على شَفير أن يتلقَّى الحُكم بالإعدام، طلبَ من تيموثاوس أن يُحضِر إليه مَرقُس حيثُ قال:

“وَلَمْ يَبْقَ مَعِي إِلَّا لُوقَا وَحْدَهُ. مُرَّ بِمَرْقُسَ وَأَحْضِرْهُ مَعَكَ، فَهُوَ يَنْفَعُنِي فِي الْخِدْمَةِ.” (تيموثاوس الثَّانية 11:4)

مَرقُس أظهرَ لبولُس أنَّه أصبح على قدر التَّطلُّعات لا بل أنَّه أقدَر من الآخَرين وأكثرهم جهاراً في الخدمة، لذلك طلبَ بولُس أن يأتي إليه مَرقُس في أشَدّ حاجته للمساعدة. نتعلَّم من حياة مَرقُس كيف أنَّ المؤمن يجب أن يتقوَّى وينمو، ولو تعثَّر مرَّة لكنَّه يجب أن لا يتراجع فالمُجتهد سوف يستخدمه الرَّب بقوَّة في الخِدمة، وقد استخدم الله مَرقُس في النِّهاية لكتابة أحد الأناجيل الأربعة.

إنجيل مَرقُس هو أصغر الأناجيل من حيث المحتوى وأسرعها من حيث الوَتيرة إذ يتميَّز بسُرعته في سَرد تتبُّع الأحداث، حيث يبدأ مباشرةً من خِدمة يسوع، وهو يكتُب بهذا الأُسلوب لأنَّه الأقرب للجمهور الرُّوماني المقصود، وما يؤكِّد على هذه الفكرة احتواء إنجيل مَرقُس على كلمات لاتينيَّة، وشرح لبعض التَّقاليد اليهوديَّة مع معاني بعض الكلمات الآراميَّة، بالإضافة الى شهادة الكنيسة الأولى عن هذا الأمر كما سنوضح لاحقاً. وردَ في مقدَّمة تفسير جينيفا الجديد عن إنجيل مَرقُس ما يلي: “هدف مَرقُس الرَّئيسي هو إعلان شهادة الرُّسل حول تفاصيل محدَّدة عن حياة المسيح، موته، وقيامته بشكل مكتوب. لم تكُن في نيَّة الكاتب أن يسرد لنا سيرة ذاتيَّة كاملة عن خدمة وحياة المسيح. وقد تمَّ تلخيص المحتوى التَّاريخي فيما يتوافق مع الصِّيغة الأساسيَّة لإعلان رسالة الإنجيل بدءاً من تمهيد يوحنَّا المعمدان للطَّريق وُصولاً للصَّلب مُروراً بتفاصيل حول خِدمة يسوع العَلنيَّة.”¹

Analytical Outline of Mark AR graphic

هل مرقس حقا هو كاتب الإنجيل؟

صحيح أنَّ الإنجيل لا يذكُر في مضمونه أنَّ مَرقُس هو الكاتب بشكل مباشر، لكن الأدلَّة الخارجيَّة (من آباء الكنيسة الأوائل) تُجمِع على أنَّ مَرقُس هو الذي كتبَ السِّفر ناقِلاً الأحداث عن بطرُس، وتُوافق على ذلك الأدلَّة الدَّاخليَّة، أي التي يذكُرها السِّفر نفسه.

الأدلَّة الخارجيَّة: يُجمِع آباء الكنيسة الأوائل على أنَّ مَرقُس هو كاتب هذا الإنجيل مُستعيناً ببطرُس. ونذكر منهم: بابياس الذي كتبَ في بداية القرن الثَّاني، ويُثني على ذلك إيرانِيوس في نهاية القرن الثَّاني، ويقول إكلِمندُس الإسكَندري أنَّ الإنجيل كُتِبَ تحت إشراف بطرُس، بالإضافة إلى تِرتِليانوس وأوريجانوس وغيرهم. يذكر لنا المؤرِّخ الكَنَسي من القرن الثَّالث يوسيبيوس القَيصَري قول بابباس حول هذا الموضوع: “بما أنَّ مَرقُس كان ينقل كلمات الرَّسول بطرُس، فقد كتبَ لنا بدقَّة كل ما ذَكرهُ له بطرُس من أقوال المسيح وأفعاله.”²

الأدلة الداخلية: شهادة الآباء الأوائل تتوافق مع محتوى السِّفر، وذلك بحسب الأدلَّة التَّالية:

أولاً: تتوافق شهادة بطرُس في أعمال الرُّسل مع المخطَّط العام للإنجيل. نلاحظ ذلك عندما ندقِّق في حديث بطرُس مع عائلة كرنيليوس في قيصَيريَّة، حين صاغَ لهم رسالة الإنجيل وفق النَّموذج التَّالي: بعد معموديَّة يوحنَّا، الله الآب مسحَ يسوع النَّاصري بالرُّوح القدُس، حيثُ بدأ بنَشر ملَكوت الله في الجَليل وكل اليهوديَّة، وقد كان الآب معه وكان يشفي كل الذين تسلَّط عليهم إبليس، صُلِبَ في النِّهاية على يد أبناء أورشَليم لكن الآب أقامهُ في اليوم الثَّالث (أعمال 37:10-40). في عام 1932 لاحظَ اللَّاهوتي ش. هـ. دود، أنَّ هذا المُلخَّص لرسالة الإنجيل التي قدَّمها بطرُس يُشبه إلى حدٍّ بعيد تسلسُل وهيكل “الإنجيل” الذي كتبه مَرقُس، ووفقاً لهذا اللَّاهوتي فإنَّ إنجيل مَرقُس المكتوب هو نسخة موسَّعة من الإنجيل المَنطوق الذي أعلَنهُ بطرُس.³


تتوافق شهادة بطرُس في أعمال الرُّسل مع المخطَّط العام للإنجيل


ثانياً: الحديث عن بطرُس في هذا الإنجيل يوحي بذلك، فكلَّما ذُكِرَ بطرُس مع الرُّسل يُظهِر لنا مَرقُس توثيقاً للأحداث التي اشترك فيها سمعان بطرُس بشكل أدقّ عن الأناجيل الأُخرى، حيث يبدو الوَصف حيَوي أكثر ممَّا يترك انطباعاً لدى القارئ عن شهادة بطرُس التي تكمُن خلف هذه النُّصوص:

“وَحَالَمَا غَادَرُوا الْمَجْمَعَ، دَخَلُوا بَيْتَ سِمْعَانَ وَأَنْدَرَاوُسَ، وَمَعَهُمْ يَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا. وَكَانَتْ حَمَاةُ سِمْعَانَ طَرِيحَةَ الْفِرَاشِ، تُعَانِي مِنَ الْحُمَّى. فَفِي الْحَالِ كَلَّمُوا يَسُوعَ بِشَأْنِهَا. فَاقْتَرَبَ إِلَيْهَا، وَأَمْسَكَ بِيَدِهَا وَأَنْهَضَهَا. فَذَهَبَتْ عَنْهَا الْحُمَّى حَالاً، وَقَامَتْ تَخْدُمُهُمْ” (إنجيل مَرقُس 29:1-31)

ثالثاً: كان من عادة الكُتَّاب حينها ذِكر أنفسهم بطريقة غير مباشرة، دون ذِكر لاِسمهم إظهاراً للتَّواضُع. فكما يقول يوحنَّا في إنجيله عن نفسه “التِّلميذ الذي يُحبُّه يسوع”، يذكُر مَرقُس عن نفسه أنَّه هربَ من الحُرَّاس عُرياناً بعدما أخَذوا يسوع للصَّلب، وذِكر هذا المَوقِف المُحرِج وعدم إخفائه هو دليل صِدق، فالمُزَوِّر من المُرَجَّح أن يُخفي هكذا معلومة عن نفسه:

“وَتَبِعَهُ شَابٌّ لاَ يَلْبَسُ غَيْرَ إِزَارٍ عَلَى عُرْيِهِ، فَأَمْسَكُوهُ. فَتَرَكَ الإِزَارَ وَهَرَبَ مِنْهُمْ عُرْيَاناً.” (إنجيل مَرقُس 51:14-52)

church in arabic

يُلخِّص العالِم بول بارنيت أقوال بعض العُلَماء حول ذِكر مَرقُس لهذه الحادثة قائلاً: “وفقاً لوِليام باركلي فهذا حدَثٌ تافِه للغاية وغير ذي صِلة لإدخالهِ في المأساة الكبيرة لتلك الأحداث (حين أُخِذَ المسيح للمُحاكمة). ويقول ت. زان أنَّ مَرقُس يرسم صورة صغيرة لنفسهِ في زاوية عمله (إنجيله).”

رابعاً: من الواضح بالنِّسبة للدَّارِسين أنَّ محتوى إنجيل مَرقُس على الرّغم من كَونه كُتِبَ باليونانيَّة إلَّا أنَّه يوحي بأنَّ أصل الأقوال التي يحتويها هي اللَّغة الآراميَّة وهي اللُّغة التي تحدَّث فيها المسيح وأتباعه الأوائل. يقول العالِم ف. ف. بروس: “لا يُخفي هذا الإنجيل أيّ أدلَّة على أنَّ الكثير من محتواه وُجِدَ أوّلاً بالآراميَّة، فالنَّص اليوناني يحفظ الخصوصيَّة الآراميَّة بشكل ملحوظ.”

بعد التَّدقيق، نجد أنَّ إنجيل مَرقُس يتَّفق مع تصريحات آباء القرن الثَّاني بأنَّ مَرقُس استخدمَ في كتابة الإنجيل تلميذاً من أوائل الذين اتبعوا يسوع المسيح وشاهد عيان على جميع الأحداث التي حصلت مع المسيح وهو بطرُس الرَّسول. بالنَّظر إلى هذا الإنجيل ككُل، نجد أنَّ هَيكليَّته تتوافق مع شهادة بطرُس في عظته التي ألقاها على كرنيليوس وعائلته، وأنَّه غني جدّاً بمعلوماته التَّاريخيَّة وتفاصيله الحيَّة.


مقالات مُشابِهة

أركان المسيحية
ايات من الانجيل
من هو بولس الرسول؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.