ستجد في هذا المقال أهم ما يجب أن تعرفه عن الثَّالوث بشكل مختصر ومُرَكَّز، سنقدِّم لك ما هو كافٍ كنقطة انطلاقة لتتعمَّق أكثر في معرفتك لله.
قبل الشُّروع في تعريف الثَّالوث، هناك بعض الأُمور التي لا بُدَّ من توضيحها لكي نضع القارئ على السِّكَّة الصَّحيحة بُغية الوصول للهدف المنشود.
- يجب توضيح عجز اللُّغة البشريَّة عن وصف الله لأنَّ اللُّغة البشريَّة محدودة ولكنَّ الله غير محدود.
- نحن كمسيحيِّين نؤمن بالثَّالوث لأنَّه يعطينا القدرة على تفسير كل نصوص الكتاب المقدَّس بانسجام (التَّوفيق بين النُّصوص التي قد تبدو متناقضة).
- الثَّالوث يحلّ بعض المُعضِلات الفلسفيَّة التي تواجه الإيمان بالله الواحد.
وسنتوسَّع تباعاً في شرح كل نقطة على حِدة.
محدودية اللغة البشرية في وصف الله
عندما نتحدَّث عن الله فمن المهم جدّاً أن نُبقي دائماً في أذهاننا أنَّ الله فريد تماماً، ولا يوجد شيء مثله، لا شيء يشبهه، ولا شيء يضاهيه أو يحدّه، وإنَّ مقارنة الله بأيّ شيء آخر من خليقته، يضعنا في خطر إساءة تعريف الله إذا ما حمَّلنا التَّشبيه أكثر من اللَّازم. عندما نقول إنَّ الله نور أو إنَّ الله بصير، فإنَّ مفهومَي النُّور والبصَر تعلَّمناهما من تجربتنا، ولا يمكن أن نقصد التَّركيبة الفيزيائيَّة للنُّور والعين البشريَّة عندما نُشبِّه بهما الله، بل نقصد فيهما تشابهاً محدَّداً، حيث يشير النُّور للهداية ويشير البصَر إلى رؤية الله لكل شيء. وعندما نُشبِّه أيّ شيء بالله فنحن نفقد عنصراً أساسيّاً وهو المُشبَّه به، فمثلاً إن قلنا أنَّ ألوان ثَوبٍ ما تشبه ألوان بستان في فصل الرَّبيع، فنحن بذلك نُشبِّه الثَّوب بأمرٍ نعرفه جميعنا ويشكِّل عنصراً من إطارنا المرجعي نستطيع أن نفهم من خلاله معنى التَّشبيه، أمَّا في حال تشبيه الله فإطارنا المرجعي لا يحتوي سوى على إدراكنا للعالَم من حولنا الذي لا يتعدَّى كَونه ما صنعه الله نفسه.
كل أساليب الكلام عن الله تستخدِم الإدراك البشري لما هو مخلوق كمَرجِع، وكون كل ما هو مخلوق محدود وله بداية ويتغيَّر، نستخدِم في وصف الله أُسلوب النَّفي ونقول عنه اللَّامحدود، الذي ليس له بداية والذي لا يتغيَّر. طريقة النَّفي خير مثال على محدوديَّة اللُّغة، وحتَّى الكلمات التي نستخدمها كمرادِفات لأُسلوب النَّفي (صِفات التَّأكيد، أو الصِّفات الإيجابيَّة)، كالثَّابت بدل الذي لا يتغيَّر والأزَلي بدل الذي لا بداية له، لا نستطيع أن نفهمها أو نشرحها إلَّا عبر استخدام أُسلوب النَّفي. نستخدم أحياناً أُسلوب التَّعظيم وفيه نسمو بصِفة بشريَّة كقَولنا عن الله أنَّه (العَلِيّ) أي الأعلى من الكل أو (الأعظم) أي الأعظم من الكل، لكن كلّها تتَّخذ كمَرجِع ما لا يعبِّر عن حقيقة من هو الله، ولا نستطيع أن نقول إنَّها تصِف لنا الله وصفاً مفصَّلاً بل فقط تخبرنا ما هو كافٍ عنه.
بكلمات جايمس وايت “قد نكون قادرين على توضيح جانب معيَّن من كيان الله بهذه الطَّريقة (عبر التَّشبيه)، ولكن في كل حالة، إذا تمَّ دفع هذا التَّشبيه إلى أبعد من ذلك، فسوف ينهار. من المهم أن نشير إلى أنَّنا نواجه صعوبة حقيقيَّة في البداية: اللُّغة نفسها. لقد ناضلَ المسيحيُّون لقُرونٍ عديدة للتَّعبير، ضمن حدود اللُّغة البشريَّة، عن الإعلان الفريد الذي أعلنه الله عن طريقة وجوده. نحن نكافح لأنَّ اللُّغة هي وسيلة اتِّصال محدودة. تحاول العقول المحدودة التَّعبير بالكلمات عن حقائق لا حصر لها. في بعض الأحيان، لا يمكننا ببساطة أن نقول ما نحتاج إلى قوله للتَّعبير بشكل مناسب عن عظَمة إلهنا.”¹
لا تستطيع أيّ رؤية كونيَّة أو أيّ تصوُّر لله مهما بَدا سهلاً لأوَّل وهلة كالإيمان مثلاً بوحدانيَّة الله المُطلَقة أن تكون حلّاً لمعضلة الفهم البشري لله، بل هي تطرح مشاكل أُخرى. من هذه المشاكل شرح علاقة الله بالخليقة، كيفيَّة إعلان الله عن نفسه، وإن كانت صفات الله تشابُهيَّة أو حَرفِيَّة، فاعلة أزليّاً أم دخلت حيِّز التَّنفيذ بعد الخلق، وأُمور أُخرى لن ندخل في تفصيلها الآن لكي نركِّز على موضوعنا. لا بُدَّ من التَّنويه إلى أنَّ الكثير من الحقائق الرُّوحيَّة لا يمكن فهمها بالكامل والتَّوفيق بينها خاصَّةً في الرُّؤية الكونيَّة التَّوحيديَّة، مثلاً كالتَّوفيق بين سلطان الله المطلَق وبين المسؤوليَّة البشريَّة، مهما ظننتَ أنَّ لديك إجابة فسوف يتَّضح لك عبر الدَّفع بالحُجَّة (بطريقة جدَليَّة) إلى نهايتها أنَّك أمام لغز لا يمكنك سَبر أغواره بالكامل، لذلك التَّفسير الأنسب لنا كمسيحيِّين هو الذي يتوافق مع إعلان الكتاب المقدَّس ككل حول الأمر دون الحاجة إلى التَّوفيق بين ما يبدو أنَّه تناقض، فالموضوع يتعلَّق بمحدوديَّتنا الفكريَّة وليس بالحق الإلهي. وهكذا الأمر فيما يتعلَّق بالثَّالوث.
لكن لا يعني هذا أنَّه لا يمكننا تعريف الثَّالوث أو فهم ما هو كافٍ عن طبيعة الله، بل يجب على كل مسيحي أن يكون مُدرِكاً لحقائق أساسيَّة عن الثَّالوث لأنَّها عقيدة متأصِّلة كتابيّاً وبالتَّالي تؤثِّر على كل جوانب الحياة المسيحيَّة العمليَّة. يشرح الثَّالوث كيف يمكن لله أن يكون في علاقة مع البشر وكيف يمكن أن يكون أباً ويكون محبَّة وكيف استطاع أن يفدي، وكيف يجب أن تكون عبادتنا له، وهو (الثَّالوث) الإطار الذي نفهم من خلاله التجسُّد.
نحن نؤمن بالثَّالوث لأنَّه العقيدة التي تعطي كل الآيات الكتابيَّة حقَّها التَّفسيري دون أن تجعلها في نِزاع مع بعضها، ونعلَم أنَّ كل الشَّواهد الكتابيَّة بإمكانها أن تُفهَم ضمن طريقة منهجيَّة تتوافق مع الشَّرح التَّقليدي للثَّالوث، ونؤمن بالثَّالوث لأنَّه يوفِّر الرُّؤية الكونيَّة الوحيدة القادرة على حَلّ كل المُعضلات الفلسفيَّة المتعلِّقة بوجود الله الكائن الواحد. سمُوّ التَّعليم عن طبيعة الله هو أمر متوقَّع، فلا يمكننا افتراض أنَّ الحقائق الإلهيَّة سهلة، بكلمات كاثرين سونديريغر: “الثَّالوث سامي، سمُوّ الحقيقة نفسها، هو ليس مخالفاً للعقل بل هو فوق العقل، مُفرَط/فائق العقلانيَّة، ومُفرَط/فائق السَّماويَّة… هو مثل الحقيقة الجوهريَّة، الهدف الكامل والمستحِق لكل سعينا الفكري.”²
التجسد، الإعلان الإلهي الأسمى
الثَّالوث هو وصف لطبيعة الله وماهيَّته، لكن كيف يمكننا من الأساس أن نصِف طبيعة الله؟ أليست الطَّبيعة والماهيَّة مصطلحات مفبرَكة في العقول البشريَّة لوصف الظَّواهر في الخليقة؟ فكيف إذاً تُنسَب لله؟ إن كان الله ليس كمثلهِ شيء فبماذا نُشبِّبه إذاً؟ فكل معرفة بشريَّة هي محدودة في قالب اللُّغة البشريَّة التي هي محاولة لوصف العالَم من حولنا، هذه اللُّغة التي أحياناً تعجز عن وصف ظاهرة أرضيَّة فكم بالحريّ سوف تصِف غير المنظور وغير الملموس، الذي لم ترَهُ عين؟
هذه كانت استنتاجات أهمّ الفلاسفة اليونانيِّين. كان لأفلاطون نظرة ميتافيزيقيَّة معيَّنة، آمنَ بوجود عالَم مثالي ما فوق الطَّبيعة، عالَم كامل ومتسامي (نماذج عُليا كاملة في صفاتها) وأنَّ كل شيء في هذه الدُّنيا هو انعكاس ناقص للعالَم المثالي هذا. نظريَّة أفلاطون كانت محاوَلة لفهم ما يجمع الأشياء المتعدِّدة التي من حولنا، محاولاً تفسير الأُحاديَّة (كل عناصر الحياة) في هذه التعدديّة (ما يجمع كل الأشياء مع بعضها) وعدم الكمال الموجود على الأرض. مثلاً يَسأل أفلاطون ما الذي يجعل البشر يعرفون أنَّ كل دائرة يرونها هي دائرة حقّاً؟ ويجيب لأنَّ كل الدَّوائر يشتركون في جوهر الدَّائرة الموجودة في العالَم المثالي والتي هي دائرة لا عيب فيها، في حين أنَّ الدَّوائر كلّها تبقى ناقصة وغير تامَّة، هذا مثال بسيط لكنَّه يطبَّق على مفاهيم نظريَّة أيضاً.
لكن من غير الممكن فهم كيف يتداخل هذا العالَم المثالي مع عالَمنا الأرضي. إن كان هذا عالَم ما وراء الطَّبيعة فكيف نعرف بوجوده أساساً؟ وهذه نفسها خُلاصة يصل إليها أفلاطون أكثر من مرَّة وأبرزها في حوار سُقراط مع السَّفسطائيِّين في كتاب الجمهوريَّة حول ما هو العدل المُطلَق أو جوهر العدالة، الجواب الذي لم يصل إليه سُقراط حتَّى وفق الطَّريقة السُّقراطيَّة في الوصول للمعرفة. حاولَ تلاميذ أفلاطون الإجابة عن هذا السُّؤال، ودُعِيَت فلسفة هؤلاء Middle Platonic وفي رأيهم توصَّلوا إلى حَلّ ربَطوا فيه العالَم المثالي بالعالَم الأرضي، وقالوا إنَّ هناك ما يسمَّى باللُّوغوس λόγος وهو صلة الوصل بين العالَم الأزلي والعالَم المحدود، وتُترجَم أيضاً (الكلمة أو الفكر). في هذا الإطار الفكري قال يوحنَّا الرَّسول عن المسيح أنه “الكلمة، اللُّوغوس” λόγος صارَ جسداً، وأنَّ الله لم يرَهُ أحدٌ قَطّ، بل الاِبن الوحيد الذي في حضن الآب هو أتى وخبَّر. الكلمة الذي كان أزليّاً مع الله وفي نفس الوقت هو الله.
“1 فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ، وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللهِ. وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللهُ. 2 هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللهِ. 3 بِهِ تَكَوَّنَ كُلُّ شَيْءٍ، وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَتَكَوَّنْ أَيُّ شَيْءٍ مِمَّا تَكَوَّنَ… 14 وَالْكَلِمَةُ صَارَ بَشَراً، وَخَيَّمَ بَيْنَنَا، وَنَحْنُ رَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدَ ابْنٍ وَحِيدٍ عِنْدَ الآبِ، وَهُوَ مُمْتَلِىءٌ بِالنِّعْمَةِ وَالْحَقِّ… 18 مَا مِنْ أَحَدٍ رَأَى اللهَ قَطُّ. وَلَكِنَّ الابْنَ الْوَحِيدَ، الَّذِي فِي حِضْنِ الآبِ، هُوَ الَّذِي خَبَّرَ.” (إنجيل يوحنَّا 1)
الحَلّ المسيحي كان أنَّ الله أعلن عن نفسه بالمسيح. غير المنظور صار منظوراً، المُتسامي اتَّضع، وهي نظرة ثوريَّة كَون الأفلاطونيِّين بمختلف فئاتهم كان لهم نظرة دونيَّة عن الخليقة. لم ينكر المسيحيُّون أنَّ الله أعلن عن نفسه عبر أنبياء العهد القديم، لكنَّها كانت إعلانات رمزيَّة ووقتيَّة هدفها أن تشير للمسيح، وهي تعابير لا تجد معناها إلَّا بالمسيح الذي هو الإعلان الأسمى والأقصى عن الله، وأعمق ما يمكننا أن نعرفه عن الله هو عبر تجسُّد المسيح. اعترضَ أرسطو على نظرة أفلاطون الميتافيزيقيَّة عبر عدم قبوله بوجود العالَم المثالي، وقال إنَّ جوهر كل الأشياء موجود في الأشياء نفسها. الحَلّ المسيحي لهذه المعضلة اليونانيَّة هو أنَّ كل المُثُل التي لا يمكن إدراكها هي موجودة أصلاً في فكر الله، وأُعلِنت لنا عبر اللُّوغوس أي المسيح.
من المهم توضيح أنَّ استخدام المسيحيِّين الأوائل لتصنيفات فلسفيَّة يونانيَّة لا يعني أنَّ المسيحيَّة هي مجرَّد محاولة فلسفيَّة أُخرى لفهم الوجود، بل في الواقع المسيحيِّين استخدَموا التَّعابير والمفاهيم السَّائدة آنذاك لكي يوصِلوا تعاليم متأصِّلة في الفكر التَّوحيدي اليهودي المتمثِّلة في نصوص العهد القديم والمؤلَّفات الأدبيَّة اليهوديَّة الأُخرى، محمِّلين المصطلَحات اليونانيَّة النَّظريَّة معاني يهوديَّة، وبكلمات أحد اللَّاهوتيِّين: “يوحنَّا كان يكتب باليونانيَّة لكنَّه كان يفكِّر بالعبريَّة”.³ استخدام التَّصنيفات الفلسفيَّة لمحاولة شرح الحقائق الكتابيَّة ليس خطأ، لأنَّنا لا نفرض نظاماً فلسفيّاً على الكتاب المقدَّس بل نستخدمه كإطار مرجعي لشرح الحقائق الرُّوحيَّة المعلَنة لنا، وهكذا فعلَ يوحنَّا في إنجيله إذ استخدَم مصطلَحات معروفة من قُرَّاءه ومفاهيم مألوفة لديهم ليس لكي يوافق عليها بل ليضَعها في مكانها الصَّحيح، كما أنَّ مُكتشَفات قُمران اليهوديَّة تدحض المُغالاة في وضع الأفكار الفلسفيَّة على كتابات الرَّسول يوحنَّا.
إعلانات الله في العهد القديم كانت تنتظر تتميمها واكتمالها. لم يستطع موسى أن يرى وجه الله، بل كان يرى تجلِّيات محدودة لله، وحين كلَّمَ الله الشَّعب من الجبل بمنظر مرعِب وصوت مَهيب لم يستطع بنو إسرائيل أن يتحمَّلوا ذلك، وقالوا لموسى كلِّمهُ أنتَ نيابةً عنَّا، وقد أعطى موسى الشَّعب النَّاموس والطُّقوس لكنَّها كانت غير قادرة على تطهيرهم لأنَّها تنتظر أن تُكمَّل، لذلك في العهد الجديد يقول يوحنَّا الرَّسول:
“لأَنَّ الشَّرِيعَةَ أُعْطِيَتْ عَلَى يَدِ مُوسَى، أَمَّا النِّعْمَةُ وَالْحَقُّ فَقَدْ تَوَاجَدَا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ.” (إنجيل يوحنَّا 17:1)
التَّجسُّد إذاً يعطينا نقطة انطلاقة لكيفيَّة المعرفة عن طبيعة الله.
الثالوث ووحدانية الجوهر
التَّعريف البسيط للثَّالوث هو أنَّ الله من الأزَل إلى الأبد كائن واحد في ثلاثة أقانيم. استخدَم لاهوتيُّو الكنيسة لاحقاً مصطلَحات وكلمات غير موجودة في الكتاب المقدَّس مثل “الثَّالوث”، والبعض منها يُستخدَم في إطار فلسفي مثل “الجوهر”، إلَّا أنَّهم بذلك لم يحاولوا أن يضيفوا إلى إعلان الله عن نفسه كما لو أنَّ الكتاب المقدَّس غير كافٍ، بل كانوا يحاولون التَّعبير عن حقيقة من هو الله كما أعلنَ هو عن نفسه في الكتاب المقدَّس، وكانوا يحاولون توضيح رسالة الكتاب المقدَّس في مواجهة أولئك الذين كانوا يشوِّهونها، وأمام كل محاولة تفسير مغلوطة كانت هناك حاجة إلى لغة جديدة للرَّد.
مفتاح فهمنا للثَّالوث يكمُن عبر فهم معنى المصطلَحات التي استخدمها المسيحيُّون الأوائل في شرح الثَّالوث بناءً على الإطار الفلسفي لتلك المصطلَحات والذي كان شائعاً في تلك الأيَّام. قال آريوس (أحد الأساقفة في القرن الثَّالث) أنَّ الاِبن لم يكُن موجوداً في وقتٍ من الأوقات، وبذلك نفى آريوس وأتباعه صفة الأزَليَّة عن المسيح، لكن كان رَدّ المسيحيِّين عليه أنَّ الاِبن من نفس جوهر الآب، وكلمة جوهر في اليونانيَّةOusia وقد استخدموا مصطلَح Homoousias في إقرار الإيمان النِّيقَوي والذي يعني “من نفس الجوهر”. ولكي نفهم قصدهم يجب أن نعرف ما معنى كلمة Ousia في إطارها الفلسفي. Ousia في العربية تعني “الجوهر” وهو الجانب الثَّابت الذي لا يتغيَّر من الشَّيء والذي يوجد في الشَّيء نفسه بحسب أرسطو، أمَّا بحسب أفلاطون فهو الشَّكل النَّقي من الشَّيء بحسب ما يوجد في العالَم المثالي الكامل، وقد اختلف الاثنان حول مكان وجود الجوهر، لكنَّهما اتَّفقا على وجوده. لنأخذ من البشريَّة مثالاً عن الجوهر. البشر يتشاركون في جوهر واحد هو “البشريَّة”، لكن كل إنسان هو كائن بشري مختلف عن الآخر ويُظهِر شكل من أشكال هذا الجوهر الذي هو جزء أساسي من الإنسان، فهناك أُمور كثيرة تُميِّز كل إنسان عن الآخر ومنها هويَّته الخاصَّة التي لا يتشاركها مع الآخرين، والجسد الذي هو عُرضة للتَّغيير مع مرور الزَّمن. يسمِّي أرسطو الجانب المتغيِّر من الإنسان بالعوارِض (أمر عرَضي، جانبي) وهذا ما يميِّزنا عن بعضنا البعض بحسب هذه الرُّؤية الكونيَّة لهؤلاء الفلاسفة. هذا هو مفهوم الجوهر الذي كان في ذهن الآباء المسيحيِّين الأوائل.
عرَّف المسيحيُّون الله على أنَّه جوهر نقيّ وصافٍ دون عوارِض، فلا يوجد جوهر اسمه الأُلوهيَّة منفصل عن الله ويشترك به الله مثلما يوجد جوهر اسمه البشريَّة ويشترك فيه البشر، بل إنَّ الله هو جوهر نفسه أي هو أساس وجوده، هو الوجود ذاته. جوهره ثابت لا يتغيِّر، الثَّبات المحض هو من خصائص الله فهو غير قابل للتَّغيُّر. وعندما نضع هذا الإطار الفلسفي عن الجوهر في محلِّه، بإمكاننا أن نقول إنَّ أقانيم الثَّالوث هي ثلاثة أشخاص (أقانيم) تتشارك في الجوهر الإلهي الواحد بالتَّوافق مع صفة الله بأن لا عوارِض فيه، أي أنَّ الأقانيم غير منفصلة. قد تظهر مشكلة في هذا التَّشبيه إذ إنَّ قول “ثلاثة أشخاص” يفترِض اختلافهم عن بعض بحسب المفهوم البشري، لكن هذه المشكلة تُحَلّ عبر التَّأكيد على أنَّ الله لا عوارِض فيه وغير مُركَّب مثل البشر لأن لا مُسبِّب له من الأساس، وهذا ما أصبح يُعرَف عند المسيحيِّين بعقيدة البساطة الإلهيَّة وهي بحسب تعريف جايمس دوليزال: “(البساطة الإلهيَّة تعني) أنَّ كل ما في الله هو الله. ولا فرق فيه بين وجوده وجوهره، ولا بين جوهره وصفاته، ولا بين طبيعته وفاعليَّته. كل هذه الأشياء ليست سوى الله نفسه، ولا توجد فيه أيّ أُسُس تحدِّد وجوده… الإله البسيط لا يتكوَّن من أجزاء، وبالتَّالي لا يمكن ربط كيانه مباشرةً بأيّ تصريحات تفيد تعدُّد الأجزاء.”⁴
يتحدَّث غلين بتنر في مقدِّمة كتابه عن الثَّالوث في وصف الوحدانيَّة في الجوهر عن النَّصّ من سِفر التَّكوين 18 كيف أنَّ زوَّار إبراهيم الثَّلاثة يشيرون لأقانيم الثَّالوث (ثلاثة أشخاص لكنَّهم يمثِّلون شخصاً واحداً)، وفعلاً عبر القراءة المُتأنِّية للنَّصّ نلاحظ الكثير من الأُمور المثيرة للاهتمام. فقد ظهرَ الرَّب لإبراهيم كما تقول الآية الأولى، ثمَّ في الآية الثَّانية ظهرَ أيضاً عبر ثلاثة رجال، كما أنَّ حديث إبراهيم في هذا المقطع مع الرِّجال الثَّلاثة يتحوَّل من المُفرَد إلى الجمع بطريقة واضحة ومتكرِّرة، وفي بعض الأحيان يتحدَّث إبراهيم كما لو أنَّه يُخاطِب شخصاً واحداً (الآيتان 10،3)، بينما في أحيانٍ أُخرى يتحدَّث كما لو أنَّه يُخاطِب ثلاثة أشخاص (الآيتان 9،5).
يرى بعض العلَماء المعاصرين التَّحوُّل بين المفرَد والجمع في المثال السَّابق دليلاً على مزج لاحق لقصَّتين مختلفتين مع بعضهما أي ما يُعرَف بنظريَّة Documentary Hypothesis، في إحداها استضافَ إبراهيم شخصاً غريباً، وفي الثَّانية استضافَ ثلاثة أفراد. ووفقاً لهذه النَّظريَّة، فقد قرَّر أحد النُسَّاخ أن يجمع هاتين القصَّتين ويجعلهما قصَّة واحدة. لكن في هذه النَّظريَّة مشاكل كثيرة وقد فنَّدها العديد من العلَماء وهي مجرَّد نظريَّة لا تأخذ بالحسبان الأساليب الأدبيَّة لتلك الحقبة، وفرضيَّتها المسبقة تقضي بعدم إمكانيَّة هكذا نَصّ من إيصال حقائق لاهوتيَّة تتخطَّى عصره “كالتَّلميح للثَّالوث”. يقول غلين بتنر “لكن إذا افترضَ المرء أنَّ مؤلِّفي الكتاب المقدَّس البشريِّين كانوا مُلهَمين من الرُّوح القدس، كما آمنَ المسيحيُّون الأوائل، فليسَ من الصَّعب أن نرى على المستوى الرُّوحي إشارة إلى الثَّالوث.”⁵ أيضاً يرى بعض المفسِّرين في المثال السَّابق لقاءً بين إبراهيم والله ومعهما ملاكان، حيث لم يتعرَّف إبراهيم على هويَّة الغَريبَين إلَّا تدريجيّاً، لكن هذا غير ممكن بحسب معايير تلك البيئة لأنَّه في العادة لا يقبَل الخادم دعوة لتناول الطَّعام مع سيِّده (أي بعكس ما فعله الملاكان)، كما أنَّ الثَّلاثة طرَحوا على إبراهيم نفس السُّؤال عن سارة (الآية 9)، وهذا يدل على أنَّهم متساوون في المكانة.
أقانيم الثالوث
بطريقة مُستغرَبة يقول أوغسطينوس أنَّ وصفَنا لأقانيم الثَّالوث عبر استخدام كلمة أقانيم هو لتجنُّب الصَّمت عن وصفها.⁶ ما يقصده هو عدم وجود كلمة تعطيهم الحق الكامل في الوصف، وفي هذا وجهة نظر، فكلماتنا تخذلنا أحياناً لأنَّها مُشبَّعة بمعاني صاغتها عقولنا فبمجرَّد قَولنا كلمة “شخص” نفترض الكثير من الأُمور التي نعرفها عن معنى هذه الكلمة، يسمِّي جايمس وايت هذه المعاني بالأمتِعة وهي الطَّريقة التي نستخدِم بها الكلمة، والتي تجعلنا نستحضر صوراً ذهنيَّة معيَّنة في كل مرَّة نسمعها. المثال المقصود هنا هو كلمة “أُقنوم، شخص”، ويقول: “عندما نستخدِم كلمة “شخص”، فإنَّنا نعلِّق عليها جميع أنواع “الأمتِعة” التي تأتي من تجاربنا الشَّخصيَّة. نحن نفكِّر في جسد مادِّي، فرد، منفصل عن أيّ شخص آخر. نفكِّر في المكان والصِّفات الجسديَّة مثل الطُّول والوزن والعمر، وكل الأشياء المرتبطة باستخدامنا الشَّائع لكلمة “شخص”. عندما نستخدِم هذه الكلمة لوصف شخص إلهي (الآب، الاِبن، أو الرُّوح القدس)، فإنَّنا نميل إلى أن نسحب معه “الأمتِعة” التي تأتي من استخدامنا الشَّائع لهذا المصطلَح في الحياة اليوميَّة… إنَّما الآب هو منفصل، مختلف عن كل ما نفكِّر فيه عندما نفكِّر في مصطلَح “شخص”. وستكون مهمَّتنا (وهي مهمَّة صعبة!) أن نعمل على فصل مثل هذه “الأمتِعة” عن تفكيرنا واستخدام مثل هذه المصطلَحات بطرُق محدَّدة ومحدودة للغاية لتجنُّب الالتباس غير الضَّروري.”⁷
علاقة الأقانيم مع بعضها يجب أن تُفهَم في ضوء صفات الله وخواص الأُلوهيَّة. فهناك صفات خاصَّة بالجوهر وتتشارك فيها كل الأقانيم بفضل اتِّحادها بالجوهر، كالإرادة مثلاً، فلا يمكن القول إنَّ في الله ثلاث إرادات وإلَّا يصبح الله ثلاثة آلهة، بل نقول إنَّ كل الأقانيم تتشارك بالخواص الخاصَّة بالجوهر، لكن هناك خواص خاصَّة بالأقانيم وهي محوَر حديثنا في المقطع التَّالي. ما قام به آباء الكنيسة عبر التَّاريخ هو وضع حدود للُّغة وللتَّشبيهات في وصف الله، كمَن يوجِّه شخصاً يمشي على طريق ضيِّق أو منحدَر زلِق ويقول له: “اِحذر من أن تخطو خطوة أكبر لليمين، أو خطوة أصغر لليسار”. أيّ محاولة في وصفنا لأيّ شي يتعلَّق بالله قد تكون ابتعاداً عن الحق الإلهي، لذلك يجب أن نحذر كلَّما أردنا أن نعطي تشبيهاً عن الثَّالوث.
الثَّالوث يحلّ المشكلة المتعلِّقة بالسُّؤال التَّالي الذي تصارَع معه الفيلسوف أرسطو: كيف يمكن لإلهٍ واحد أن يكون صالحاً من الأزَل وإلى الأبد في ضوء أنَّ الصَّلاح يفترِض وجود شخص آخر؟ بالنِّسبة لأرسطو لا يمكن أن يكون الله صالحاً من الأزَل وإلى الأبد لأنَّ الصَّلاح لا يُعرَف سوى عبر الإحسان لشخصٍ آخر، وهذا ينفي وجود صفات أدبيَّة في شخص الله من الأزَل. بالنِّسبة لأرسطو، الله هو المُسبِّب الذي لا سببَ له (المُسبِّب الأوَّل) وخلقه للخليقة هو أمر يفعله بالطَّبيعة، فكما تشرق الشَّمس، الله يخلق. الله بالنِّسبة لأرسطو لا يمكن أن يكون لطيفاً أو مُحبّاً. فهو لا يختار بإرادته أن يخلق الدُّنيا بل بالأحرى الدُّنيا تنبثق منه. لكن المشكلة هنا أنَّ الله يحتاج إلى العالَم لكي يكون الله، فهو يعتمد بشكل أساسي على العالَم ليكوِّن هويَّته، وهو ليس إلهاً مكتفياً بذاته.
تفسيرنا المسيحي هو أنَّ الإله الموجود بوحدانيَّة أزليَّة لا يمكن أن يُظهِر صفات أزليَّة فيه، وإلَّا يكون قد طرأَ عليه تغيير، وهكذا إله لا يمكن أن نفهم لماذا أوجَد خليقة من الأساس، وبكلمات مايكل ريفز: “إنَّ الله ذات الشَّخص الواحد، الذي أمضى الأزليَّة بمفرده، هو حتماً كائن أناني، ولذلك يصبح من الصَّعب أن نرى لماذا قد يتسبَّب في وجود أيّ شيء آخر. ألن يكون وجود الكون أمراً مزعجاً للإله الذي أعظم مُتعة له هي النَّظر في المرآة؟ يبدو الخلق وكأنَّه شيء من غير الممكن أن يفعله مثل هكذا إله. وإذا كان هذا الإله يخلق، فيبدو أنَّه يفعل ذلك دائماً بسبب حاجة أساسيَّة أو رغبة في استخدام ما يخلقه فقط من أجل إرضاء نفسه.”⁸ أمَّا في الثَّالوث، فصفات الله فاعلة أزليّاً في أقانيم الثَّالوث، لذلك من الممكن أن تظهر في الخليقة.
لكن ماذا عن الغضب الإلهي؟ هل كانت الأقانيم في حالة غضب قبل الخلق؟ هناك تفرقة بين الصِّفات الذَّاتيَّة الإلهيَّة والصِّفات الحادثة نتيجة الصِّفات الذَّاتيَّة. الأولى ما يمتلكها الله بشكل متأصِّل فيه والثَّانية مرتبطة بالخليقة، ولا يمكن أن توجد الثَّانية دون الأولى. الغضب الإلهي على الخطيئة هو نتيجة حتميَّة لصفات الله الذَّاتيَّة “كالصَّلاح والقداسة”، فهو يغضب على الخطيئة ليس لأنَّه غاضب بل لأنَّه صالح، لكنَّه يُحبّ لأنَّه مَحبَّة وهذا ما جعل الله يخلق، صفات الله نفسه. من المهم أن نتذكَّر هنا محدوديَّة التَّشبيه البشري، فالله لا يغضب لأنَّه عاجز كما البشر ولا لأنَّه لا يستطيع تغيير المصير أو القدر ولا لأنَّه يحقد.
مولود من الآب قبل كل الدهور
يقول إقرار الإيمان النِّيقَوي في أحد المواضع عن الاِبن أنَّه “مولود من الآب قبل كل الدُّهور”، والآباء فسَّروا هذا التَّعبير بالتَّوافق مع صفات الله. بكلمات أُخرى نفهم ولادة الاِبن من الآب على أنَّها أزليَّة ولا تعني تغيُّراً قد حصل في الذَّات الإلهيَّة، لأنَّ هذه الصِّفات هي صفات إلهيَّة، وبالتَّالي يصبح وجه الشَّبَه بين الولادة البشريَّة والولادة الإلهيَّة هو التَّعبير عن علاقة أقانيم الثَّالوث (الآب والاِبن) وليس البداية الزَّمنيَّة لهذه العلاقة، كما أنَّها لا تشير إلى أمر حصل مرَّة واحدة بل إلى أمر متأصِّل في طبيعة الله، لذلك هي عمليَّة مستمرَّة.
هدف هذه العبارة هو شرح التالي: لماذا الاِبن هو الذي تجسَّد وليس الآب؟ وكيف يُعلِن الاِبن خضوعه للآب حين كان في الجسد؟ يجب أن نوضح أنَّ الولادة من الآب قبل كل الدُّهور لا تعني أنَّ المسيح منذ الأزَل كان خاضعاً للآب، وإلَّا لفَقدنا وحدانيَّة الثَّالوث عبر افتراضنا وجود أكثر من مَركز إرادة فيه، فخضوع الاِبن للآب حصلَ فقط حين كان المسيح في الجسد، أمَّا التَّجسُّد فقد حصلَ بتوافق في الإرادة بين الآب والاِبن، وهو نتيجة منطقيَّة لولادة الاِبن من الآب قبل كل الدُّهور.
يُميِّز اللَّاهوتيُّون المسيحيُّون بين Ontological Trinity و Economical Trinity، الأولى تصف علاقة أقانيم الثَّالوث مع بعضها، والثَّانية علاقتهم مع الخليقة، والثَّانية تعكس الأولى. علاقة الاِبن بالآب أي الولادة قبل كل الدُّهور تعمل وفق صفات الله (ولادة أزليَّة لا بداية لها كَون الله أزَليّ الوجود) في Ontological Trinity، أمَّا بعد التَّجسُّد فهي تُظهِر خضوع الاِبن للآب في Economical Trinity. وتُفهَم أدوار أقانيم الثَّالوث باختلافها ووحدانيَّتها عبر Economical Trinity. نُفرِّق إذاً في الثَّالوث بين صفات خاصَّة بالجوهر وصفات خاصَّة بالأقانيم. الإرادة الإلهيَّة هي صفة خاصَّة بالجوهر كما باقي الصِّفات الإلهيَّة التي تختصّ بالكينونة (الثَّبات، عدم التَّغيُّر، كُلِّيَّة الوجود، كُلِّيَّة القدرة…)، أمَّا الصِّفات الخاصَّة بالأقانيم فهي أنَّ الاِبن مولود من الآب، الآب يلد الاِبن، والرُّوح القدس ينبثق من الآب والاِبن. شبَّه الآباء انبثاق الرُّوح القدس كانبثاق الفكرة من العقل، وولادة الاِبن كالوَهج الذي يصدر عن الشَّمس، ويمكن عكس التَّشابيه أيضاً.
تشبيهات سيِّئة عن الثَّالوث اعتدنا على إعطائها:
- تشبيه من الحالات الثَّلاثة للماء: يقول التَّشبيه أنَّ الثَّالوث كالماء يمكن أن يكون في ثلاث حالات (بُخار، ثلج، وسائل)، لكن هذا التَّشبيه في الحقيقة يصف هرطَقة اسمها Modalism والتي تقول إنَّ الله تجلَّى في ثلاثة طرُق مختلفة كالماء، لأنَّ الماء في كل حالة يكون مختلفاً عن الحالة الأُخرى، فلا يمكن أن يكون سائلاً وبُخاراً في نفس الوقت، ولا صُلباً وسائلاً في نفس الوقت، لذلك هذا التَّشبيه ضعيف جدّاً ولا يعطي الثَّالوث حقَّه، لأنَّ الثَّالوث لا يعني تحوُّل الله من حالة إلى أُخرى.
- تشبيه الرُّوح والنَّفس والجسد: لا يمكن القول إنَّ الله مثلَّث الأقانيم كما الإنسان الذي هو روح ونفس وجسد، لأنَّ في هذا التَّشبيه يكون التَّشديد على الوحدانيَّة ولا يمكن أن نصِف به الأقانيم الثَّلاثة، لأنِّي كإنسان لا أستطيع التَّحدُّث مع روحي، ولا روحي تستطيع التَّحدُّث معي، بل هي مجرَّد أحاسيس داخليَّة، وإنَّما من يتحدَّث هو شخصي أنا نيابةً عن الاثنين، كما أنَّ هذا التَّشبيه يفترِض أنَّ الكتاب المقدَّس يُعلِّم عن كينونة أونطولوجيَّة فينا مختلفة عن الرُّوح وهي “النَّفس”، وهذا أمر لا يتَّفق عليه المفسِّرون لأنَّه يُظهِر بعض المشكال التَّفسيريَّة لبعض النُّصوص الكتابيَّة.
الأساس الكتابي للثالوث
التَّعليم عن الثَّالوث كان جزءاً لا يتجزَّأ من عبادة المسيحيِّين الأوائل، حتَّى لو كان يفتقر إلى التَّعريف بالمفاهيم التي أُقِرَّت في القرن الثَّالث. كان المسيحيُّون الأوائل موَحِّدين، والتزَموا دون تردُّد بالتَّعليم الوارد في سِفر التَّثنية:
“اسْمَعُوا يَابَنِي إِسْرَائِيلَ: الرَّبُّ إِلَهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ،” (التَّثنية 4:6)
ومع ذلك فقد أعرَبوا عن إيمانهم بيسوع المسيح كمُخلِّص بعبارات تشير إلى يسوع باعتباره اِبن الله وكلمته وحكمته، وباعتباره الشَّخص الذي يمنح تلاميذه نعمة التَّبنِّي من خلال إغداق روح الله. فكل الكتابات من تلك الحقبة تشير لذلك وحتى في أوساط الآريوسيِّين الذين كانوا يعبدون المسيح أيضاً ولو كانوا لا يؤمنون بأنَّه من نفس جوهر الآب، وكذلك الأمر بالنِّسبة لأتباع سيبيليوس، وحتَّى القِلَّة من اليهود الذين تمسَّكوا بمُعتقَد عُرِفَ بالإيبيونيَّة كانوا يعتبرون أنَّ المسيح لم يعُد مجرَّد إنسان بعد معموديَّته. النَّظرة عن المسيح لم تتطوَّر أو تتغيَّر بل فقط فُهِمت بشكل أفضل وأعمق.
النَّظرة عن المسيح لم تتطوَّر أو تتغيَّر بل فقط فُهِمت بشكل أفضل وأعمق
التَّعريف التَّقليدي إذاً للثَّالوث هو أنَّ الله كائن واحد في ثلاثة أقانيم، وهذا التَّعليم هدفه إعطاء الشَّهادة الكتابيَّة حقَّها وحقَّها الكامل، فهدف كل عقيدة أن تفسِّر كل تعاليم الكتاب المقدَّس حول موضوع ما بطريقة منهجيَّة. يُعلِّم الكتاب المقدَّس أنَّ الله واحد، وفي نفس الوقت الآب هو الله، الاِبن هو الله، والرُّوح القدس هو الله.
عرَّف النَّبي إشعياء المسيح قبلَ أن يولد بأنَّه سيكون إلهاً قديراً (إشعياء 7:9)، وداود قال عنه إنَّه سيكون رَبّاً (مزمور 1:110) وقد طبَّق المسيح هذا القول على نفسه (إنجيل متَّى 42:22-46)، والنَّبي دانيال أخبرنا أنَّ المسيح سيتلقَّى العبادة إلى جانب الله ويتشارك العرش معه (دانيال 14:7) وقد طبَّق المسيح هذا القول على نفسه أيضاً (إنجيل مَرقُس 61:14-63). يخبرنا يوحنَّا أنَّ الرُّؤيا التي رآها إشعياء عن الله كانت عن المسيح (إشعياء 6، إنجيل يوحنَّا 41:12) ناهيكم عن مواضع كثيرة أُخرى فيها يتحدَّث المسيح عن أُلوهيَّته وتلاميذه يشهدون على ذلك، وسنترك الحديث عن أُلوهيَّة المسيح بشكل مفصَّل لمقالٍ آخر لكي لا نُطيل الكلام هنا أكثر. كما استُخدِم اِسم الرُّوح القدس بالتَّبادل مع اِسم الله في أكثر من موضع، ويوصَف لنا بأنَّه كائن عاقل وليس مجرَّد قوَّة، ويعمل نفس أعمال الله.
كيف تكون عبادة المسيحيِّين إذاً؟ يقول غريغوريوس النزينزي (329-390م): “بمجرَّد تصوُّر الواحد حتَّى يَستنير ذهني بروعة الثَّلاثة، وما إن أُميِّزهم حتَّى أعود إلى الواحد.”⁹ إنَّ عبادة الثَّالوث هي توحيديَّة، فالعبادة المسيحيَّة لا تقسم قلوبنا بين أشخاص مختلفين، ولكنَّها توحِّد كياننا كلّه على محبَّة الرَّب الواحد. إنَّ وحدة الثَّالوث تجلب الكمال والتَّكامل لحياة العابد، قال جون أوين: “أعلنَ الله عن الثَّالوث ليس لكي تستحوِذ عقولنا على مفاهيمه، ولكن لكي نعرف بشكل صحيح كيف نضع ثقتنا به، وكيف نُطيعه ونحيا به، وكيف نحصل عليه، ونمارس معه الشَّركة حتَّى نتمتَّع به.”¹⁰ وبحسب عماد شحاده: “الثَّالوث ليس مُعضِلة بحاجة إلى حَلّ، بل جمال بحاجة إلى اكتشاف”¹¹
الأحادية والتعددية
يتحدَّث بيتر لومبارد (1096-1160) في كتابه عن الثَّالوث بطريقة سكولاستيَّة (الأُسلوب الأكاديمي الذي ازدهر في القرون الوسطى) عن اللَّاهوت الطَّبيعي وإمكانيَّة معرفة وجود خالق من خلال مراقبة الخليقة، ويضيف أنَّ هذه الطَّبيعة نفسها بوحدانيَّتها بالرَّغم من تعدُّديَّتها تستطيع أيضاً أن تلمِّح إلى وجود أُحاديَّة وتعدُّديَّة في الخالق نفسه. يحتكِم لومبارد إلى الخليقة وكيف تُعلِن عن مجد الله مُستدِلّاً بالإصحاح الأوَّل من رسالة بولُس الرَّسول إلى أهل روما، ويحاول لومبارد أن يشرح كيف توحي وحدانيَّة هذه الخليقة إلى وحدانيَّة الله، وتعدُّديَّة هذه الخليقة بالتَّعدُّديَّة في الله.¹²
تجادلَ الفلاسفة الميتافيزيقيُّون تاريخيّاً فيما بينهم حول الأُحاديَّة والتَّعدُّديَّة، وما إذا كانت الحقيقة المُطلَقة للكون واحدة أم متعدِّدة. قال بارمنيدس وأفلوطين وسبينوزا وهيغل أنَّ تحت كل التَّعدُّديَّة الظَّاهرة في العالَم هناك وحدة، والعالَم هو تلك الوحدة، واعتقدَ آخرون مثل ديموقريطوس ولايبنتز أنَّ العالَم مصنوع من مكوِّنات صغيرة متميِّزة عن بعضها البعض، وكل منها غير قابل لأن يُصنِّف أيّ شيء آخر. لكن بما أنَّ الكون لديه سبب أوَّل واحد فقط، ومعيار نهائي واحد للحقيقة والحق، لذلك الأُحاديَّة ضروريَّة. لكن التَّعدُّديَّة مهمَّة أيضاً. إحدى الأدلَّة التي قدَّمها اللَّاهوتي كورنيليوس فان تيل هي أنَّه نظراً لأنَّ الله واحد ومتعدِّد في نفس الوقت، فقد خلقَ عالَماً واحداً ومتعدِّداً في نفس الوقت أي أنَّه لا توجد وحدة بدون ما يجمعها، ولا العكس، يصل جون فرايم إلى الاستنتاج التَّالي بعد شرحه لهذه الفكرة عينها: “إنَّ الحصول على تفسير شامل لكل شيء هو الحصول على نوع من المعرفة المُتاحة لله وحده. وهذا مستحيل بالنِّسبة للبشر. وتتجلَّى استحالة ذلك في حقيقة أنَّه، كما هو الحال مع الثَّالوث، لا توجد في العالَم وحدة بدون تعدُّديَّة، ولا تعدُّديَّة بدون وحدة. إنَّ العالَم واحد ومتعدِّد في نفس الوقت، لأنَّ الله، الذي هو واحد ومتعدِّد، قد خلقَ العالَم بطريقة تعكس شخصه.”¹³
يقول مايكل ريفز: “بما أنَّ العالَم خلقه إله مثلَّث الأقانيم، فمن المنطقي أنَّ النَّغمات المختلفة يمكن أن تنسجم مع بعضها بشكل ممتع، وأنَّ الألوان المختلفة يمكن أن تُكمِّل بعضها البعض، وأنَّ الأشياء يمكن أن تتماسك. في الواقع، واحدة من أعظم المفارقات تكمُن هنا: فالثَّالوث يتعرَّض للاستهزاء دائماً بسبب السَّخافة الرِّياضيَّة المفترَضة (1 + 1 + 1 = 1)، ومع ذلك فإنَّ الثَّالوث هو الذي يوفِّر الأساس المنطقي الأكثر إقناعاً للرِّياضيَّات. للوهلة الأولى، قد يعتقد المرء أنَّ الرِّياضيَّات هي مجال بعيد جدّاً عن أيّ شكل من أشكال الرَّأي الدِّيني. بالتَّأكيد 1+1=2 سواء كنت تحبّ المسيح أو تخدم الله أو تعانق الأشجار. لكنَّني لا أعرف كيف يكون الأمر بالنِّسبة للتَّوحيديِّين… فالحقيقة لديهم هي أنَّ كل شيء واحد. أعلم أنَّني أبدو شخصاً مختلفاً عنك، لكن لسوء الحظ، هذا المظهر مجرَّد وهم، أنا أُصبح أنت، لأنَّه لا يوجد شيء اسمه “2”. في النِّهاية، 1 + 1 = 1. يجب أن يكون هناك شيء مثل الجمع المُطلَق لكي يكون للرِّياضيَّات أيّ معنى حقيقي، ولكي أُصدِّق أنَّ الرَّقم “2” يعني شيئاً ما في الواقع. ومع ذلك، يجب أن يكون هناك أيضاً شيء مثل الوحدة النِّهائيَّة بحيث يكون 1 + 1 دائماً = 2 وليس في بعض الأحيان. ولكي تكون الرِّياضيَّات متماسكة وذات معنى، فإنَّها تتطلَّب وجود التَّعدُّديَّة النِّهائيَّة في الوحدة.”¹⁴
بطبيعة الحال لا يمكن لهذا المقال أن يعطي موضوع الثَّالوث حقَّه الكامل، فقد كُتِبت مجلَّدات عنه، وهذا البحث هو مجرَّد خدش بسيط لسطح عميق، أو خطوة أُولى في مسارٍ طويل، وصلاتي أن يكون مفيداً وبنَّاءً لكل باحث جَدِّي ومهتم، وأن يكون مصدر إلهام لكل ناقد لا تسمح له فرضيَّاته المسبقة بقبول تعاليم المسيحيَّة.
- Forgotten Trinity. James R. White.
- Christology, Ancient and Modern. Oliver D. Crisp, Fred Sanders.
- The Days of Vengeance: An Exposition of the Book of Revelation. David Chilton.
- All That Is in God. James E. Dolezal.
- Trinitarian Dogmatics. D. Glenn Butner Jr.
- On the Trinity. St. Augustine.
- Forgotten Trinity. James R. White.
- Delighting in the Trinity. Micheal Reeves.
- Oration on Baptism. Gregory of Nazianzus.
- Pneumatologia. John Owen.
- الله معنا ومن دوننا، عماد شحاده
- Sentences, On the Trinity. Peter Lombard.
- A History of Western Philosophy and Theology. John M. Frame.
- Delighting in the Trinity. Micheal Reeves.
مقالات مُشابِهة
هل قال المسيح (انا هو الله)؟
من هو الإله المسيحي؟
من هو الروح القدس
الأساسيات في المسيحية