ةمخطوطة قديم

سوف نوضح في هذا المقال كيف تعاملَ الجيل الثَّاني من المسيحيِّين (الآباء الرَّسوليُّون) مع النُّصوص المقدَّسة، وسوف نُفسِّر استخدامهم لنصوص من خارج الكتاب المقدَّس وإن كان هذا الأمر يؤثِّر على مصداقيَّة الأناجيل أم لا.

الآباء الرَّسوليُّون هم جميع الأساقِفة وعُلَماء اللَّاهوت الذين عاصروا مرحلة ما بعد الرُّسل لغاية مجمَع نيقيا الأوَّل سنة 325 م. لا تخفى أهميَّة تلك الفترة على التَّاريخ المسيحي، كيف لا وهي الفترة التي تلي مُباشرةً خِدمة الرُّسل حتَّى أنَّ البعض من هؤلاء الآباء قد عرفَ الرُّسل بشكل شخصي كإكلِمندُس الرُّوماني، والبعض الآخر منهم كان تلميذاً للرُّسل كبّوليكاربوس، وهؤلاء بكَونهم الجيل الثَّاني من المسيحيِّين فإنَّهم يُعطوننا لمحة عن فترة انتقاليَّة في حياة الكنيسة. يقول مايكل هولمز (صاحب المُجلَّد الذي يُترجِم أقدَم الكِتابات المسيحيَّة خارج العهد الجديد) عن هذه الفترة ما يلي: “لم يكُن بإمكان المسيحيِّين تلك الفترة أن يرجعوا للرُّسل لكي يحلُّوا لهم مشاكلهم أو لكي يحصلوا على إجابة ذات سُلطة منهم. وكنتيجة لذلك كان على الكنيسة أن تبدأ بتحديد مصدَر السُّلطة الرُّوحيَّة في المسيحيَّة في وقت كثُرت فيه التَّحدِّيات من الدَّاخل (كالهرطَقات) ومن الخارج (كالاضطِّهاد)”.¹

اقتبسَ الآباء الرَّسوليُّون في كِتاباتهم بإسهاب من النُّصوص المقدَّسة سواء من العهد القديم أو العهد الجديد واعتبروهُ مصدَر سُلطة كما سنوضح تباعاً، لكنَّهم اقتبسوا أيضاً في بعض الأحيان من نصوص لا نعرف مصدَرها أو من نصوص عُرِفَت لاحقاً بأنَّها “أبوكريفيَّة” وقد أعطوا لتلك النُّصوص نفس السُّلطة أو على الأقلّ هذا ما يبدو للوهلة الأولى. يرى البعض أنَّ استخدام هؤلاء الآباء لنصوص أُخرى غير الأسفار القانونيَّة يجعل هذه الأخيرة في موضع شَكّ، إذ تكون بذلك مثلها كمثل أيّ نَصّ آخَر غير قانوني. ويقول البعض أنَّ بعض الأناجيل الصَّحيحة ضاعَت وأنَّ ما بقِيَ منها هو ما أراده المُحرِّفون. سنرى تباعاً إلى أيّ مدى يُعطي هذا القول للدَّليل التَّاريخي حقّه، وإلى أيّ مدى يؤثِّر هذا الأمر علينا كمسيحيِّين وعلى سُلطة الكتاب المقدَّس؟

ثلاث أُمور مُهمَّة يجب توضيحها لكي نفهم سبب استخدام الآباء لهذه المصادر الخارجة عن الكتاب المقدَّس:

  1. كان يتمّ استخدام بعض الاقتِباسات الحُرَّة التي تعتمد على الذَّاكرة ولا تُطابق محتوى الأناجيل حرفيّاً، لذلك قد يظنّ البعض أنَّها من مأخوذة نَصّ آخَر (مجهول أو أبّوكريفي)، في حين أنَّها إعادة صِياغة لنَصّ موحى به.

  2. كان يتمّ الاقتِباس من تقليد مُتوارَث عن المسيح، بغَضّ النَّظر عن صحَّة التَّقليد من عدَمه، لكن هذا لا يُحتِّم وجود أناجيل صحيحة ضائعة، لأنَّ تلك التَّقاليد كانت شفويَّة.

  3. كان من الشَّائع الاقتباس من مصادر غير النُّصوص الموحى بها لأنَّهم كانوا يجِدون فيها ما هو مفيد حتَّى وإن كان المصدَر يحتوي على أخطاء، لكنَّهم كانوا دائماً يُعطون السُّلطة العُليا للنُّصوص المقدَّسة.
new testament in arabic

أوَّلاً: الاقتباسات الحرة

أسمَيتها حُرَّة لأنَّها كُتبت بحسب ما تذكَّرهُ الكاتب ودون أن ينسخها مباشرةً من المصدَر ليكون بذلك أنَّ الاقتباس غير دقيق. لم تكُن النُّصوص تلك الأيَّام مُتاحة بسهولة ومُحدَّدة بأرقام آيات لكي يعود إليها أيّ كاتب فوراً عند الحاجة. هذه الاقتباسات يُظَنّ أنَّها من نَصّ أبّوكريفي في حين أنَّ الكاتب يُعيد صياغة القول من إنجيل قانوني لكن بكلماته الخاصَّة بحسب ما تُسعِفه الذَّاكرة.

نحن ككُتَّاب اليوم إذا ما أردنا أن نقتبس من الكتاب المقدَّس دون أن نعرف الشَّاهد فيكفي أن نكتب الآية أو ما نتذكَّره منها على الإنترنت وستعطينا نتائج البحث مباشرةً الآية المطلوبة. أمَّا في القرن الثَّاني فلم تكُن لديهم هذه الخاصِّيَّة بالطَّبع بل وحتى لم يكُن الكتاب المقدَّس مُرقَّم بآيات لكي يتمّ البحث بسرعة عن النَّص المطلوب ليُقتبَس منه. كان أولئك الكُتَّاب يعتمدون بشكل رئيسي على الذَّاكرة إذا ما أرادوا الاستشهاد بالكتاب المقدَّس، كانوا يحفظون مقاطع منه، لكن مَن مِن البشر لم تخُنه الذَّاكرة يوماً؟ هذا ما حصل مع الآباء الرَّسوليُّون، فكثير من الاقتباسات التي يقول البعض أنَّ مصدَرها غير معروف أو من إنجيل أبّوكريفي أو إنجيل ضائع، من المُرجَّح كثيراً أن تكون من إنجيل قانوني لكن الاقتباس من الذَّاكرة قد لا يكون دقيقاً دائماً.

في بحث أجراه عُلماء من جامعة أوكسفورد يُسمَّى (العهد الجديد في الآباء الرَّسوليِّين)²، يلاحظون كيف كان للبعض من الكُتَّاب اقتِباسات دقيقة وللبعض الآخَر منهم اقتِباسات من الذَّاكرة يوصِل فيها الكاتب الفكرة لكن مع إعادة صياغة وفقاً لما تذكَّره من الآية. يقول لنا هؤلاء الباحثون عن إكلِمندُس الرُّوماني أنَّه على الرَّغم من دِقَّة اقتباساته من العهد القديم، لكن تختلف معه الحال في العهد الجديد ففي كثير من الأحيان يقتبس اقتباسات حُرَّة فيها إعادة صياغة للآيات المذكورة. أمَّا سبب هذا التَّبايُن بين العهدين عند إكلِمندُس يعود رُبَّما لكونه عرفَ العهد القديم منذ الصِّغر أمَّا نصوص العهد الجديد كانت حديثة عليه لذلك لم تسنَح له الفرصة الكافية أن يحفظها كما يجب.

-مثلاً وردَ في رسالة إكلِمندُس الأولى 1:13-2 “إذ يقول (الرُّوح القدُس)… أظهِروا الرَّحمة لكي تُرحَموا، اغفِروا ليُغفَر لكم، كل ما تفعلون هكذا يُفعَل بكم، كما تُعطُونَ تُعطَون، كما تُدينونَ تُدانون، وكما تترأَّفون تُعامَلون بالرَّأفة، وبالكَيل الذي به تكيلون يُكال لكم”. قد يظنّ البعض أنَّه اقتباس من مصدَر آخَر غير الأناجيل لكن هذا ليس من الضَّروري لأنَّ الفكرة نفسها مُعبَّر عنها بالأناجيل في أكثر من موضِع بين متَّى ولوقا لكن بطريقة أُخرى، فمن المُرجَّح أن يكون إكلِمندُس قد جمع هذه الآيات واقتبَسها من الذَّاكرة، وقد وردَت هذه الفكرة في لوقا:

“وَلاَ تَدِينُوا، فَلاَ تُدَانُوا. لَا تَحْكُمُوا عَلَى أَحَدٍ، فَلاَ يُحْكَمَ عَلَيْكُمْ. اغْفِرُوا يُغْفَرْ لَكُمْ. أَعْطُوا، تُعْطَوْا: فَإِنَّكُمْ تُعْطَوْنَ فِي أَحْضَانِكُمْ كَيْلاً جَيِّداً مُلَبَّداً مَهْزُوزاً فَائِضاً، لأَنَّهُ بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ، يُكَالُ لَكُمْ.” (إنجيل لوقا 37:6-38)

-في نفس الرِّسالة 3:23 وردَ ما يلي: “ليتهُ لا يكُن علينا ما جاء في الكِتاب حيث يقول: المُتردِّدون أشقِياء، أولئك الذين يشكُّون في نفسهم ويقولون: قد سمِعنا هذه الأشياء في زمن أبائنا، وها نحن قد شِخنا ولم يحدث لنا أيّ شيء من هذه”. يذكُر مايكل هولمز أنَّ هذا الاقتِباس هو من مصدَر مجهول في حين أنَّ هذا التَّعليم يرِد في الكتاب المقدَّس، فبطرُس يوبِّخ الذين يتذمَّرون من توقيت تحقيق وُعود الرَّب (رسالة بطرُس الثانية 3:2) كما يفعل إكلِمندُس هنا. كما أنَّ يعقوب الرَّسول يتحدَّث عن الرَّجُل المُتقَلقِل في رأيه (يعقوب 8:1). من المُرجَّح أكثر بكثير أن يكون هذا الاقتِباس من الذَّاكرة من الأسفار القانونيَّة وليس من نَصّ أبّوكريفي. ونفس الاقتِباس موجود في إكلِمندُس الثَّانية 2:11-4، وينطبق عليه نفس القول.

-وفي إكلِمندُس الأولى 2:46 يقول الكاتب: “لأنَّه مكتوب: التَصِقوا بالقدِّيسين لأنَّ الذين يلتَصِقونَ بهم يتقدَّسون”. يقول مايكل هولمز أيضاً أنَّه اقتِباس من مصدَر مجهول، لكن هذا التَّعليم موجود في الرِّسالة إلى العبرانيِّين (العبرانيِّين 7:13) حيث أنَّ كاتب هذه الرِّسالة يحثّ المؤمنين على أن يتمثَّلوا بمُرشِديهم، خاصَّةً أنَّ إكلِمندُس كان يعرِف الرَّسالة إلى العبرانيِّين ويقتبِس منها في مواضِع أُخرى من رسالته مثل الإصحاح 36.

-وردَ في إكلِمندُس الثَّانية 5:4 “… عندما تجتمعون معي في حضني ولا تفعلون وصاياي أُبعِدكم وأقول لكم: ابعِدوا عنِّي لا أعرِفكم من أين أنتم يا فاعِلي الإثم”. هذا الاقتِباس هو إعادة صِياغة أو تفسير لقول المسيح:

“لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَارَبُّ، يَارَبُّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ، بَلْ مَنْ يَعْمَلُ بِإِرَادَةِ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَيَقُولُ لِي كَثِيرُونَ: يَارَبُّ، يَارَبُّ، أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ طَرَدْنَا الشَّيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ عَمِلْنَا مُعْجِزَاتٍ كَثِيرَةً؟ وَلَكِنِّي عِنْدَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! ابْتَعِدُوا عَنِّي يَافَاعِلِي الإِثْمِ!” (إنجيل متَّى 21:7-23)

في نفس الرِّسالة الثَّانية 5:8 يقول إكلِمندُس: “لأنَّ الرَّب يقول في الإنجيل: إذا لم تحفَظ القليل، فمن سيُعطيكَ الكثير؟ لأنّي أقول لكم: الأمين في ما هو قليلٌ جدّاً، أمينٌ أيضاً في ما هو كثير”. هذا اقتِباس من الذَّاكرة ممَّا قاله يسوع أيضاً لأنَّ المفهوم والسِّياق هو نفسه لكن بتعبير مختلف:

“إِنَّ الأَمِينَ فِي الْقَلِيلِ أَمِينٌ أَيْضاً فِي الْكَثِيرِ، وَالْخَائِنَ فِي الْقَلِيلِ خَائِنٌ أَيْضاً فِي الْكَثِيرِ. فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَالِ الظُّلْمِ، فَمَنْ يَأْتَمِنُكُمْ عَلَى مَالِ الْحَقِّ؟ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا أُمَنَاءَ فِي مَا يَخُصُّ غَيْرَكُمْ، فَمَنْ يُعْطِيكُمْ مَا يَخُصُّكُمْ؟ (إنجيل لوقا 10:16-12)

حتَّى لو كان هذا الاقتِباس من نَصّ أبّوكريفي سنوضح في النُّقطة الثَّانية أنَّه مُستنِد على تقليد صحيح فيما يتعلَّق بهذه المقولة.

Good News in Arabic

وردَ في إكلِمندُس الثَّانية 2:5-4 “لأنَّ الرَّب يقول: ستكونون مثل حُملان وسط ذئاب. فأجابه بطرُس وقال له: ولكن إذا مزَّقت- الذِّئاب الحملان؟ فقال يسوع لبطرُس: لا يجب على الحملان أن تخاف من الذِّئاب بعد موتها، وأنتم أيضاً لا تخافوا من الذين يقتلونكم، وبعد ذلك لا يستطيعون أن يفعلوا بكم أيّ شيء آخر، بل خافوا من الذي بعد موتكم له السُّلطان على النَّفس والجسد أن يُلقيهما في جهنَّم المُلتهِبة”. إجابة بطرُس هي فقط غير موجودة في إنجيل قانوني لكن أقوال يسوع هي من إنجيل متَّى 16:10، يقول مايكل هولمز أنَّ هذه الآيات اقتُبِسَت من (الإنجيل إلى المصريِّين)، والذي هو بحسب العُلماء إنجيل يعود للقرن الثَّاني في حين أنَّ الأناجيل القانونيَّة هي من القرن الأوَّل وهي الأقرب للحدَث وهي التي يستشهد منها الجميع بإسهاب والتي يمكننا أن نثبت بقوَّة أنَّها تعود لأحَد الرُّسل أو لأحَد أتباعهم.

سواء كان (الإنجيل إلى المصريِّين) أو (الإنجيل إلى العبرانيِّين) يُعتبَر قانونيّاً في مكانٍ ما، فهذا لا يعني أنَّه كان مقبولاً من الجميع، مع العِلم أنَّ قولَنا عن إكلِمندُس أو غيره بأنَّهم اعتبروا هذه الأناجيل قانونيَّة هو موضِع شَكّ لأنَّه وكما سنُظهِر في النُّقطة الثَّالثة أنَّ البعض كان يعتبِر أنَّ الأناجيل المَنحولة تحتوي على بعض الحقائق التَّاريخيَّة حتَّى لو كانت تلك الأناجيل مُلفَّقة، فالآباء حينها لم يكونوا في صِراع مع هذه الأسفار كما يظنّ البعض اليوم بل لم تكُن لديهم مشكلة من الاقتِباس منها. وردَ في كتاب (إعادة اختراع شخصيَّة يسوع): “لفترة من الزَّمن تمَّ اعتبار بعض هذه النُّصوص الأبّوكريفيَّة كأناجيل قانونيَّة في بعض الأماكن، لكن لاحقاً عندما اقتضت الضَّرورة تمَّ رفضها.”³

إن كان أحد الأناجيل الأبّوكريفيَّة مقبولاً في فترة من الزَّمن في مكانٍ ما فهذا لا يعني أنَّه أصبحَ قانونيّاً أو أنَّه كان في مُنافَسة مع أناجيل أُخرى، بل إنَّ الكنائس التي استخدمته قامت بذلك لأنَّ تعاليمه لم تُعارِض الأناجيل القانونيَّة ولا ما تسلَّموهُ من الرُّسل، لكن لاحقاً وعند الإحساس بخُطورة استخدامه وباعتياد العامَّة عليه، تمَّ رفضهُ كما فعل سيرابيون أُسقُف أنطاكية سنة 200 ميلادية حين رفضَ إنجيل بطرُس لأنَّه لم يُكتَب من رسول ولأنَّه يحتوي على تعاليم الدُّوسِتيَّة المُهرطِقة إذ يقول: “نحن نقبَل الرَّسولان بولُس وبطرُس لكنَّنا نرفض الكِتابات المَنسوبة زُوراً إليهما”، لكن حتَّى هذه الأناجيل المُهرطِقة لم تُنكِر صليب المسيح والأُمور التَّاريخيَّة الأُخرى التي حصلت في حياته. هذه الأناجيل أعادت تفسير الأحداث التي حصلت مع المسيح دون أن تُنكِر الأحداث الأساسيَّة من حياته.

ثانياً: التقليد المتوارث

إنَّ احتواء الأناجيل المنحولة على حقائق تاريخيَّة هو أمر طبيعي لسببين، السَّبب الأوَّل أنَّ المُزوِّر يجب أن يبني زورهُ على أمر واقعي لكي يجعله قابلاً للتَّصديق، فلا يمكن أن يأتي إنجيل منحول ويُنكِر أُموراً أساسيَّة حول حياة المسيح من السَّهل كشفها، كما أنَّ هذه الأناجيل قد تحتوي على مصادر نُقِلت شفويّاً عن المسيح في الفترة التي كان فيها الكثير ممَّن شاهدوا المسيح أو سمعوه أو تتلمذوا على يد أحد الرُّسل لا يزالون أحياء. وقد عاش الآباء الرَّسوليُّون وعَلَّموا في فترة كان لا يزال فيها الكثير ممَّن يتذكَّرونَ أقوالاً للمسيح أو للرُّسل الأوائل دونَ أن تكون تلك الأقوال مُسجَّلة لنا في الأسفار القانونيَّة. من الطَّبيعي ألَّا تُسجَّل كل أقوال يسوع وأفعاله لنا، بل قد احتفظ لنا الوَحي بما هو كافٍ لأجل خلاصنا ولأجل أن نتعلَّم من حياة المسيح، فالرُّسل يذكُرونَ صراحةً أنَّه لو دُوِّن كل شيء لاحتاجوا إلى مُجلَّدات لتدوينه لنا (يوحنَّا 25:21).

إن نقلَت لنا مصادِر أُخرى أقوالاً وأفعالاً للمسيح، فهذا لا يُلغي تاريخيَّة ومصداقيَّة شهادة الرُّسل المُدوَّنة في الأناجيل القانونيَّة ولا يجعلها في مُنافسة مع أناجيل أُخرى. لذلك أيّ اقتِباس لقول يسوع إن كانَ غير موجود في الأسفار القانونيَّة فقد يكون أتى عبر تقليد مُتورَاث. سواء كان هذا التَّقليد صحيح أم لا، هذا لا يهمّ كثيراً، فنحن لا نؤمن بوَحي هذه التَّقاليد لكن ما يهمُّنا أنَّ وجودها لا يعني أنَّ هناك أناجيل ضائعة تحوي تعاليم أضاعها المسيحيُّون، ولا يُعارِض ولا بأيّ شكل من الأشكال تاريخيَّة الأناجيل القانونيَّة التي هي أقرب في تاريخ كتابتها من الحدَث، ومكتوبة عبر أشخاص عايَنوا تفاصيل حياة المسيح وخدمته بشكل مباشر أو غير مباشر.

ما يهمُّنا حول هذا الموضوع أنَّ أولئك الآباء رُبَّما اقتبَسوا تعليماً سَمِعوه، وسواء ذُكِر هذا التَّعليم في الأناجيل القانونيَّة أم لم يُذكَر. رُبَّما اقتبَسوا أيضاً قولاً من الذَّاكِرة غير مكتوب، وصلَ إليهم عبر ذاكِرة شخص آخَر لذلك قد لا يكون اقتِباس حَرفي، أو حتَّى قد يكون تعليم قرَأهُ أحد منهم في إنجيل منحول يحتوي على قول صحيح عائد للمسيح عبر هذا التَّقليد، لكن عدم وجود هذا الاقتِباس في الأناجيل القانونيَّة لا يعطينا الحقّ في الوصول لاستنتاج بعيد مفاده أنَّ هناك إنجيل ضائع وأنَّ المسيحيَّة تحرَّفت بسبب ذلك كما يدَّعي البعض، بكل بساطة قد يكون الكاتِب سَمِعَ هذا القول أو قد يكون معروفاً في المنطقة التي هو فيها بحسب التَّقليد الذي كان مُتوارَث لديهم تلك الأيَّام.

يقول العالِم مايكل كروغر: “… يجب أن نتذكَّر أنَّه حتَّى في المواقف التي كان فيها النَّص القانوني المكتوب معروفاً ويحظى بتقدير كبير، فقد تعامَل معظم النَّاس في العالَم القديم بشكل أساسي معها شفويّاً (قراءات عامَّة، تِلاوات، إعادة سرد القصص، وما إلى ذلك)، كانت الأُمِّيَّة تنتشر بشكل كبير في تلك المجتمعات، وكان النَّاس يستخدمون نصوص الإنجيل شفهيّاً، لذلك فإنَّ الاقتِباسات الحُرَّة من الذَّاكرة والتي تخلط النُّصوص ببعضها كانت حدَثاً طبيعيّاً”. من الجدير ذِكره أنَّ هكذا أنواع اقتِباسات غير دقيقة كانت شائعة في تلك الأيَّام وبإمكاننا ملاحظة ذلك عبر المؤلَّفات الأدبيَّة الرُّومانيَّة لذلك العصر، وذلك للأسباب الآنِف ذكرها.

Old testament in arabic

هناك سبب كافٍ للاعتقاد بأنَّه في جميع الأقسام الرَّئيسيَّة من أناجيل (متَّى، مَرقُس، لوقا) اعتمدَ هؤلاء الكُتَّاب الثَّلاثة على مصادِر مُبكِّرة للمعلومات التي سجَّلوها، فالتَّفاصيل التي ذُكرت فيها عن المسيح كانت في زمان ومكان لا يزال يعيش فيه الكثير ممَّن عرفوا يسوع شخصيّاً، وكانت إمكانيَّة الحفاظ على المعلومات الموثوقة مُتاحة جدّاً ممَّا لا شَكّ فيه. كانت هذه طريقة مُعتمَدة تلك الأيَّام لحفظ المعلومات كما يقول العالِم كريغ بلومبرغ: “…يظهَر انتشار وضخامة ممارسة الحفظ في الأوساط اليهوديَّة القديمة (كان لدى العديد من الحاخامات نصوصاً من العهد القديم والكثير من الشَّريعة المُتناقَلة شفويّاً محفوظة في ذاكرتهم)، طوَّر غيرهاردسون أيضاً فكرة أنَّ تلاميذ يسوع الإثني عشر شكَّلوا مصدَر سُلطة رسميَّة عن تفاصيل حياة المسيح، هذه السُّلطة التي حمَت التَّقاليد بعِناية…”

يُثني على هذه الفكرة جون بارتون بالقول: “يُقال إنَّ الاقتِباسات غير الدَّقيقة في كثير من الأحيان عند الآباء تُظهِر أنَّهم كانوا يعتمدون على (التَّقليد السِّينوبتيكي) ولكن ليس من الأناجيل السِّينوبتيكيَّة. لا يمكن استبعاد مثل هذه النَّظريَّة تماماً، ولو كانت ليست التَّفسير الوحيد أو ربَّما التَّفسير الأفضل للاقتِباسات الحُرَّة”. يُقصَد بالتَّقليد السِّينوبتيكي: نفس مصادِر الشُّهود التي استخدمها الرُّسل في التَّحقُّق عن الأحداث التي لم يكونوا شاهدين عليها بأنفسهم، أي كما فعلَ لوقا. ممَّا لا شَكّ فيه أنَّ من شُفِيَ على يد يسوع أو شاهدهُ أو تَبِعهُ، قد أعطى شهادةً عن ذلك في زمنٍ كانت فيه هذه الطَّريقة هي الأبرز في تناقُل الأحداث.

ثالثاً: تفوّق الأناجيل القانونية

الاقتِباسات لم تكُن دائماً بهدف إعطاء سُلطة للمصدَر المُقتبَس منه. لم يكُن للآباء الرَّسوليِّين أيّ مشكلة في الاقتِباس من نصوص أُخرى قد تحتوي في نظرهم على حقيقة تاريخيَّة. حتَّى لو عُرِفَ لاحقاً أنَّها نَصّ أبّوكريفي، لكن لا يجب أن نفرض عليهم نظرتنا نحن عن الأبّوكريفا، إذ لا يمكننا زجّهم في الجدل المعاصر حولها، فتطبيق مفاهيمنا الحاليَّة حول الأبّوكريفا عليهم يُعَدّ مفارقة تاريخيَّة.Anachronism من الجدير ذِكره أنَّه دائماً ما كانت تُعطى سُلطة متفوِّقة لنصوص العهد الجديد على النُّصوص الأُخرى. الحالات التي فيها يعُطى الإنجيل المنحول سُلطة موازية هي قليلة ومتفرِّقة أي لا إجماع عليها، فمختلف الكُتَّاب كانوا يعلَمون أنَّ نصوص العهد الجديد القانونيَّة هي نصوص ذات طابع مختلف، أي أنَّها نصوص مقدَّسة.

إنَّ قُدرة كُتَّاب آباء الكنيسة على التَّمييز بين الكُتب القانونيَّة والكُتب التي تُستخدَم لما فيها من فائدة (كبعض الأجزاء من الأناجيل المنحولة) تظهَر بشكل واضح في كتابات إكلِمندُس الإسكندري (غير الرُّوماني الذي ذُكِر أعلاه) وأوريجانوس. فقد كان هذان الرَّجُلان عِملاقَين فكريَّين، انتشرت كِتاباتهما على نِطاق واسع تلك الأيَّام، وكانا مُطَّلِعَين على كمِيَّات هائلة من المؤلَّفات الأُخرى غير الكتاب المقدَّس والتي غالباً ما استخدَموها في كِتاباتهم اللَّاهوتية المختلفة. إكلِمندُس الإسكندري كان يحب أن يتباهى بثقافته من خلال الاستشهاد بمصادِر متنوِّعة (قانونيَّة ومُلفَّقة) غالباً ما تكون مختلطة معاً، وغالباً دون ذِكر العنوان أو اِسم المؤلِّف، مثل استخدامه للإنجيل إلى المصريِّين والإنجيل إلى العبرانيِّين وكِتابات أُخرى غير قانونيَّة، وقد اقتبَسَ قولاً لأفلاطون إلى جانب قولاً لأحد الرُّسل. ومع ذلك، في الوقت نفسه، يؤكِّد صراحةً أنَّ هناك أربعة أناجيل قانونيَّة فقط تلقَّتها الكنيسة: متَّى، مَرقُس، لوقا، ويوحنَّا. أمَّا الأناجيل الأُخرى فهو يُقلِّل من سُلطتها.

church in arabic

يقول العالِم ف. ف. بروس: “كانت الأناجيل الأربعة جزءاً من التَّقليد الذي تلقَّاه إكلِمندُس الإسكندري، وكانت محتوياتها موثوقة بشكل خاص بالنِّسبة له، ولكن لم يكُن لديه اعتراض على الاستشهاد بكِتابات أُخرى من خارج الأناجيل الأربعة إذا كانت تُناسب غرَضه. فهو يعرف على سبيل المثال، أنَّ الإنجيل إلى المصريِّين ليس من (الأناجيل الأربعة التي تمَّ تسليمها إلينا)، لكنَّه يقتبِس منه بمُطلق الأحوال ليس في مرَّة واحدة فقط بل أربع مرَّات. لقد كان إنجيلاً غنُّوصيّاً لكنَّ إكلِمندُس استطاع أن يأخذ منه مقولةً منسوبة إلى يسوع ويُعيد تفسير بُعدها الأخلاقي دون أن يكون في نيَّتهِ التَّزوير”.

الأناجيل المنحولة أو التي تُسمَّى “الأبّوكريفيَّة” لم تكُن يوماً في مُنافسة مع الأناجيل القانونيَّة كما يُثبت العالِم الألماني ويلهِلم صاحب المُجلَّد الشَّهير عن أبّوكريفا العهد الجديد¹⁰، أيضاً الهَراطِقة كالآريوسيِّين والسِّينبليِّين استَشهدوا بنفس النُّصوص القانونيَّة، وحتَّى الذين ابتكروا قانوناً خاصّاً بهم كان يضمّ بجُملتهِ الأسفار القانونيَّة، فقد اختارَ مارسيون البعض من الأناجيل القانونيَّة، وفالانتينوس فعلَ ذلك أيضاً.

التَّعاليم المسيحيَّة القويمة كانت منتشرة في كل مكان بعكس النُّصوص الأبّوكريفيَّة، وانتشارها كان إشارة إلى قبولها من الجميع وتوافُقها مع ما تسلَّمته كل كنيسة من الرُّسل مهما ابتعدت جغرافيّاً بعضها عن بعض. بحسب ف. ف. بروس: “العقائد التي أُقِرَّت في الكنائس التي أسَّسها الرُّسل هي نفس العقائد في الكنائس الأُخرى حول العالَم، بحيث لم تتلقَّى الكنائس في ألمانيا أيّ تقليد مختلِف عن الكنائس الموجودة في الأماكن الأُخرى كشُعوب الأيبيريِّين والكِلتيِّين وفي الكنائس الشَّرقيَّة وفي مصر وليبيا وغيرها من الكنائس…”¹¹

كل اقتِباس مجهول المصدَر أو من نَصّ أبّوكريفي لا يجب أن يجعل الأناجيل القانونيَّة في صِراع مع الأبّوكريفيَّة، وبحثنا البسيط هذا يوضح أنَّ احتماليَّة وجود أناجيل صحيحة أُخرى متعدِّدة ضاع بعضها وبقِيَ منها ما يريده فريق معيَّن، هو أمر مُستبعَد جدّاً. إنَّ الأناجيل الأربعة القانونيَّة هي الأقرب للأحداث وهي التي تروي تفصيل دقيق عن الأحداث التي حصلت مع المسيح. حتَّى لو أردنا تسليم الجدل بحجج النُّقَّاد في هذا الأمر، إلَّا أنَّ الأناجيل الأبّوكريفيَّة لا تُلغي حقائق تاريخيَّة بديهيَّة عن حياة المسيح كصَلبهِ وإعلانه لأُلوهيَّته وحقائق أُخرى، لأنَّ الشَّهادة التَّاريخيَّة عن هذه الأحداث موثَّقة من المصادِر العِلمانيَّة أيضاً أكثر من أحداث تاريخيَّة أخرى كثيرة لا يُساوِم على حدوثها أيّ عالِم مُعتبَر.


مقالات مُشابِهة

هل توجد تناقضات في الأناجيل؟
هل وقع متّى في فخ الترجمة السبعينية؟
هل أخطأ متّى باقتباسه اسم السِّفر؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.