تبقى رسالة الصَّليب عند غير المؤمنين جَهالة، لكنَّ الله قصدَ بهذه الرِّسالة أن يُخزي حُكَماء هذا الدَّهر الذينَ اختَلَقوا تَصَوُّرات خاصَّة بهم عن الله، رافِضين الإعلان الحقيقي الأسمى “التَّجسُّد” وكُل ما يشملهُ من أحداث، أبرزها أنَّ من لم يعرف خطيئة، صارَ لعنةً لأجلِنا، لكن ماذا تعني اللَّعنة في هذا السِّياق؟ هذا ما سنوضحهُ لكم في مقالنا.
كَتَبَ لنا بولُس الرَّسول هذهِ الكَلِمات:
إِنَّ الْمَسِيحَ حَرَّرَنَا بِالْفِدَاءِ مِنْ لَعْنَةِ الشَّرِيعَةِ، إِذْ صَارَ لَعْنَةً عِوَضاً عَنَّا، لأَنَّهُ قَدْ كُتِبَ: “مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ عُلِّقَ عَلَى خَشَبَةٍ”.
رِسالة بولُس الرَّسول إلى أهل غَلاطية 13:3
يُشير بولُس في هذهِ الآية إلى عَمَل المَسيح الذي عُلِّقَ على الخَشَبة بَدَلاً عَنَّا لِكَي يَفدينا ويُحَرِّرنا. يَقتَبِس بولُس أيضاً من التَّوراة لِكَي يُعَلِّل فِكرَتَهُ ويَقَول:
فَلاَ تَبِتْ جُثَّتُهُ عَلَى الْخَشَبَةِ، بَلِ ادْفِنُوهُ فِي نَفْسِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، لأَنَّ الْمُعَلَّقَ مَلْعُونٌ مِنَ اللهِ. فَلاَ تُنَجِّسُوا أَرْضَكُمُ الَّتِي يَهَبُهَا لَكُمُ الرَّبُّ مِيرَاثاً.
سِفر التَّثنِية 23:21
يَستَنكِر البَعض اللُّغة المُستَخدَمة من بولُس هُنا في وَصفِهِ لِحادِثَة الصَّلب. فكيفَ يُمكِن للمَسيح أن يُلعَن؟ لكن هذا الإعتِراض فيهِ مُشكِلة يَجِب حَلَّها في البِداية. لأنَّهُ عِندَما يَسمَع أيّ شَخص عَرَبي اليَوم كَلِمَة “لَعنة” فإنَّ أوَّل ما يَتبادَر إلى ذِهنِهِ: الشَّتيمة، أو أنَّ الشَّخص المَلعون هو شَخص مَشؤوم، تَضَع المَعاجِم العَرَبِيَّة هذهِ التَّعابير في تَعريفِها لِلَّعنة. لكن ليسَ هذا ما قَصَدَهُ بولُس هُنا، لذلكَ يَجِب أن نَحذَر من تَطبيق مَفاهيمنا المُعاصِرة على الكِتاب المُقَدَّس دونَ التَّطَرُّق إلى السِّياق التَّاريخي الذي كُتِب بِهِ وسِياق النَّص الذي وَرَدَت فيهِ الآية. يتَحدَّث هُنا بولُس عن لَعنة الشَّريعة بالتَّحديد، في فَترَةٍ كانَ فيها جُمهور بولُس يُدرِك هذهِ المَفاهيم إذ نَجِد الرَّسول بولُس في كِتاباتِهِ يَفتَرِض مُسبَقاً أنَّ قارِئ الرِّسالة أو المُستَمِع إليها فاهِم للفِكرة التي يَطرَحها. يَقول المُفَسِّر ديفيد غوزِك عن هذهِ الآية: “بِما أنَّ المَسيح صارَ لَعنَةً لِأجلِنا، فَهذا يُفَسِّر كيفَ أن يسوع قَد دَفَعَ الثَّمَن لِإنقاذِنا، حَمَلَ اللَّعنة عَنَّا يَعني أنَّهُ أخَذَ العِقاب الذي نَستَحِق”.
يتَحدَّث هُنا بولُس عن لعنَة الشَّريعة بالتَّحديد
ما هي لعنة الشريعة؟
لَعنة الشَّريعة التي يُمكِن أن نُسَمِّيها أيضاً لَعنة العَهد: هي العُقوبة التي يَحصُل عليها من يُخالِف النَّاموس. لا يتَحدَّث بولُس هُنا عن اللَّعن بِمَعنى الشَّتم ولا أيّ مَعنى آخَر مُختَلِف عن عِقاب مُخالَفة النَّاموس. كانَ مُخالِف الشَّريعة يُعَلَّق على خَشَبة كَعِقاب لَهُ بِسَبَب تَعَدِّيهِ على وَصايا الرَّب. والفِكرة الرَّئيسِيَّة في رِسالة الإنجيل أنَّ المَسيح البَريء تَحَمَّلَ عِقابَنا نَحنُ المُذنِبين، إذ حَمَلَ لَعنة العَهد بَدَلاً عَنَّا، وهي لَعنَة مُخالَفة الشَّريعة لِكَي نَحصُل نَحنُ على الخَلاص.
لِكَي نَفهَم أكثَر اللَّعنة في هذا السِّياق سَنُقارِنها بِنَقيضَتِها وهي البَرَكة. قالَ الرَّب لِمُوسى:
…هَذَا مَا يُبَارِكُونَ بِهِ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَائِلِينَ لَهُم: يُبَارِكُكَ الرَّبُّ وَيَحْرُسُكَ. يُضِيءُ الرَّبُّ بِوَجْهِهِ عَلَيْكَ وَيَرْحَمُكَ. يَلْتَفِتُ الرَّبُّ بِوَجْهِهِ إِلَيْكَ وَيَمْنَحُكَ سَلاَماً.
سِفر العَدَد 23:6-26
في هذا النَّص يوجَد تَوازي شِعري، وهذا يُساعِدنا على فَهم المَعنى المَقصود، لأنَّ الشِّعر العِبري يَتمَيَّز بِأُسلوب تَكرار لِنَفس الفِكرة لكن بِكَلِماتٍ مُختَلِفة في كُل جُملة وبذلك يَتَّضِح المَعنى أكثَر خِلال القِراءة، فَبَرَكَة الرَّب المَذكورة في الآية وحِراسَتِهِ للمؤمِن تَحمِل نَفس المَعنى المَكتوب في الجُملة التي تَليها أي إنارَة وَجه الرَّب على المؤمِن، والذي يُشير في كِلتا الحالتَين إلى حُضور الرَّب في حَياة المؤمِن. إذاً البَرَكَة بِالمُختَصَر هي حُضور الرَّب الذي يُعطي السَّلام، وبِما أنَّ البَرَكَة هي عَكس اللَّعنة، فَماذا تَكون هذهِ الأخيرة إذاً سِوى أنَّها غِياب حُضور الرَّب عن حَياة المؤمِن.
هذا ما قاساهُ المَسيح من أجلِنا، فقَد أُخِذَ خارِج المَحَلَّة أي خارِج “أورشَليم” المَكان الذي يَرمُز لِحُضور الرَّب، قاسى الألَم على الصَّليب وَحيداً مَتروكاً، مع غِياب حِمايَة الآب لَهُ، واحتِجاب التِفاتَة السَّلام عَنهُ، وفي هذهِ الحالة الصَّعبة صَرَخَ المَسيح:
…”إِلهِي، إِلهِي، لِمَاذَا تَرَكْتَنِي؟”
إنجيل مَتَّى 46:27
غابَت البَرَكَة عَنهُ وَقتِيّاً، وقاسى اللَّعنة التي كانَ يَجِب أن نُقاسيها نَحن، لِكَي نَحصُل على البَرَكَة بِفَضل الذي صارَ لَعنَةً لِأجلِنا.
مقالات مُشابِهة
هل ترك الله يسوع وهو على الصليب؟
هل حَقّاً صُلِبَ المَسيح ؟
من هو الإله المسيحي؟