يَستخدِم الكِتاب المُقدَّس أوصافاً بشَريَّة في وَصف لله وفي وَصف تَعامُلاته مع الخَليقة. كيف نَفهم هذه الصِّفات؟ وإلى أيّ مَدى نَستطيع أن نُطَبِّقها على الله؟ هذا ما سنُجيب عنه في هذا المقال.
الله في طَبيعتهِ روح، هذا يعني أنَّ الله غير مَلموس وغير مادِّي، لكن الخَليقة مادِّيَّة، ونحن كبشَر نُدرِك هذا العالَم من خِلال ما هو مادِّي، نَتعامَل معهُ عبر حَواسِنا ونَختَبرهُ بواسِتطها لتَتكوَّن بذلك مَفاهمينا النَّظَريَّة عن العالَم من حَولِنا. نجِد في الكِتاب المُقدَّس وَصفاً لتَعامُلات الله مع البشَر في الخَليقة. الله، الكائن الغير مَحدود أعلَنَ عن نَفسهِ للشُّعوب من خِلال اللُّغة البشَريَّة التي تَبقى مَأسورة في قَوالِب صَنعَتها المَحدوديَّة البشَريَّة. وكَون قُدرَة البشَر مَحدودة هكذا، فهذا يعني أنَّهُم غير قادِرين أن يَرتَقوا بأفكارهِم ليَفهموا أُموراً تَفوق قُدرَتهم على الإدراك، لذلك من الطَّبيعي أن يَستخدِم الله الاِختِبار البشَري لكي يُعَلِّم حَقائق روحيَّة عن طَبيعتهِ لكي نَفهمها.
يُريد الله الذي أعطانا هذه القُدرة الفِكريَّة التي نَتميَّز بها عن المَخلوقات الأُخرى أن يُخبِرنا عن نَفسهِ وعن مَشيئَتهِ في هذه الخَليقة، لذلك كَلَّمَنا الله بطَريقة نَستطيع أن نَفهم من خِلالها الحَقائق الرُّوحيَّة ونُدرِك ما يَكفي عنه، وهذا عبر اللُّغة والصِّفات البشَريَّة. هذه الحَقيقة لطالَما أدرَكَها اللَّاهوتيُّون المسيحيُّون وتَعاملوا مع النُّصوص المُقدَّسة وفقَ هذا الأساس، يقول جون كالفِن في مَحض حَديثهِ عن الصِّفات البشَريَّة المَنسوبة لله من الكِتاب المُقدَّس: “…من عادَة الله أن يلثَغ مَعنا، كما تَفعَل المُرضِعات عُموماً مع الرُّضَّع… لذلك فأشكال كَلام كهذه لا تُعَبِّر كثيراً عن ماهيَّة الله بقَدر ما تُوائِم مَعرفته لاستِيعابنا المَحدود. ولكي يفعَل هذا يجب أن عليهِ أن يَنحَدِر عَميقاً دونَ عَليائهِ.”¹ عندما تُريد المُرضِعة التَّحدُّث إلى الرَّضيع ومُداعَبتهِ فإنَّها تَنطِق بحُروف مُبَعثَرة في مُحاوَلة منها إلى التَّواصُل معهُ بطَريقة تَجعَلهُ يَتفاعَل معها لأن ليسَ بالإمكان الحَديث معهُ كبالِغ، وكذلكَ الله أيضاً يجعَل من الاِختِبار البشَري وَسيلة ليُعَلِّمنا عن نَفسهِ.
كَلَّمَنا الله بطَريقة نَستطيع أن نَفهم من خِلالها الحَقائق الرُّوحيَّة ونُدرِك ما يَكفي عنه
كَون الله مُختَلِف عن البشَر يعني أنَّ اللُّغة تبقى مَحدودة في وَصف الله، لكنَّها تصِفهُ بطَريقة كافِية لنُدرِك ما يَكفي عنهُ عبر مُقارَنتها بمَفاهيمنا البشَريَّة. يَستخدِم توما الأكويني تَصنيفات الفَيلَسوف أرِسطو حَول الاِستِخدامات الثَّلاث للُّغة، والتي سَتُساعِدنا على فهم هذه الفِكرة. وهي:
الاستخدام الأول: Univocal ويُشير إلى أنَّ الصِّفة تُستَخدَم في وَصف كلمات مُختَلِفة بالسِّياق ذاته، مِثال: (صَديقي رَجُلٌ صالِح، وأخي رَجُل صالِح)، فالاِثنانِ صالِحان بنَفس المَعنى.
الاستخدام الثاني: Equivocal وفيهِ تُستَخدَم الصِّفة الواحِدة في سِياقَين مُختَلِفَين تَماماً، مِثال: (بِلادي جَميلة، وأنا أعيشُ لحظَةً جَميلة)، فجَمال بِلادي أصِف فيهِ الطَّبيعة، أمَّا اللَّحظة فجَمالها في مُتعَتِها. إذاً كِلاهُما جَميل لكن ليسَ بنَفس المَعنى.
الاستخدام الثالث: Analogical (اللُّغة التَّشابُهِيَّة) وفيه تُستَخدَم الصِّفة نَفسها في مَعاني مُتَشابِهة ولكن مُمَيَّزة (المسيح يُحِبُّ الكَنيسة، وأنا أُحِبُّ زَوجَتي)، حُبّ المسيح هو حُبٌّ إلهيّ تَجَلَّت فيه أسمى أنواع المَحبَّة، أمَّا حُبّي لزَوجَتي فمَهما علا شَأنه إلَّا أنَّهُ يبقى حُبّاً بشَريّاً يُعطى بقُدرة مَحدودة. لكن هذا التَّشبيه يُساعِدنا أن نَفهم من خِلال إدراكنا البشَري للمَحبَّة ومن اختِبارِنا لهذا الشُّعور كيفَ يُمكِن أن تكون مَحبَّة الله لنا، خاصَّةً حينَ ظَهَرَت لنا عَمَلِيّاً في الصَّليب.
ولُغَتنا في وَصف الله لا تَتعدَّى كَونها تَشابُهِيَّة ولا نَستطيع أن نَستَخدِم اللُّغة والصِّفات عن الله بالشَّكلين الأوَّل والثَّاني المذكورين أعلاه لأنَّهُ غير مَحدود ولا تُوافِقهُ تِلكَ التَّصنيفات. يقول توما الأكويني: “وهكذا فإنَّ جَميع الصِّفات المُطَبَّقة على الله باللُّغة التَّشابُهِيَّة، تُطَبَّق على المَخلوقات في المَقام الأوَّل وليسَ على الله، لذلك حينَ تُقال عن الله فإنَّ المُراد بها يكون فقَط للتَّشابُه مع هذه المَخلوقات. فعندما يقول أحد أنَّ البُستان في جَمال ازدِهارهِ هو كجَمال الاِبتِسامة البشَريَّة، فهو يعني فقَط أنَّ الاِبتِسامة جَميلة جِدّاً بالتَّشابُه المُتَناسِب، لذا فإنَّ اِسم “الأسَد” المُطَبَّق على الله في الكِتاب المُقدَّس يعني فقَط أنَّ الله يُظهِر قوَّةً في أعماله”.²
وَصف الاِبتِسامة بالبُستان المُزدَهِر لا يَعني أنَّ الاِبتِسامة خَضراء وفيها أزهار مُلَوَّنة، بل إنَّهُ من الواضِح أنَّهُ يَقصِد أنَّ الاِبتِسامة مُشرِقة ومُلفِتة، لذلك في اللُّغة التَّشابُهِيَّة لا يُمكِن أن يَتطابَق وَجه الشَّبَه من كُل النَّواحي. وبنَفس الطَّريقة عندما يقول الكِتاب المُقدَّس عن المسيح بأنَّهُ الأسَد، فإنَّ وَجه الشَّبَه هُنا هو القوَّة والاِنتِصار، وهذه الصِّفات هي الجانِب المُتَناسِب مع الله وليسَ صِفات الأسَد الأُخرى كصِفاتهِ الجِسمانيَّة.
إن قُلنا أنَّ الله صالِح فهذا لا يعني أنَّهُ صالِح كما البشَر، إلَّا أنَّ البشَر من خِلال مَعرِفَتهِم عن الصَّلاح يَستطيعونَ أن يُدرِكوا كيفَ أنَّ الله صالِح، لكنَّهُ مُطلَق الصَّلاح بطَبيعَة الأحوال. وعندما يَنسب الكِتاب المُقدَّس أعضاءً بشَريَّة لله، فهي كِناية عن عمَل إلهي في الخَليقة وليسَ عن عضو مادِّي يَمتَلِكهُ الله. مَثلاً عندما يقول الكِتاب المُقدَّس في إشَعياء 10:41 “وأعضُدُكَ بيَميني” فإنَّهُ يَقصِد باليَد اليُمنى أي اليَد القَديرة وتعني أنَّ الله بقُدرَتهِ قادِر أن يُعينك. هذا الأُسلوب يُستَخدَم بإسهاب في اللُّغة العِبريَّة فإحدى صِفات هذه اللُّغة أنَّها تُعَرِّف كُل مَفهوم نَظَري بما هو مَلموس ليَستَطيع الإنسان أن يُدرِكهُ بحَواسهِ الخَمسة، فالكلمة العِبريَّة التي تعني “غَضَب” هي حَرفِيّاً بالعِبريَّة “أَنْف”، لأنَّهُ بالنِّسبة لتِلكَ اللُّغة فإنَّ الذي يَغضَب يَنفُث بِأنْفهِ.³ وعندما يقول الكِتاب المُقدَّس عَينُ الله، فهذا لا يعني أنَّ الله لهُ عَيْن حَرفِيّاً، بل يَقصِد أنَّ الله يَرى. وهذه هي الطَّريقة التي نَستَخدِم فيها اللُّغة لوَصف الله.
وَرَدَ في كِتاب اللَّاهوت النِّظامي المُصلَح عن اللُّغة التَّشابُهِيَّة: “يُمكِننا من خِلالها أن نَتحدَّث عن الله بكلمات بشَريَّة، مُدرِكين أنَّهُ ليسَ مِثلنا ولكن هُناك تَشابُه كافٍ بالنِّسبة لنا لنَعرِفهُ حَقّاً ونَقتَدي به. لهذا السَّبَب يُمكِن للمسيح أن يقول:
“فَكُونُوا أَنْتُمْ رُحَمَاءَ، كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ رَحِيمٌ.” (إنجيل لوقا 36:6)
يُشير هذا الجزء من المُقارَنة إلى أنَّهُ على الرَّغم من أنَّ مَحبَّة الله أكبَر من مَحبَّتِنا بشَكل لا يُمكِن تَصوُّرهُ، إلَّا أنَّهُ يُمكِننا مَعرِفَة مَحبَّتهُ من خِلال مَحبَّتنا لبَعضِنا البَعض بطَريقة مُماثِلة لهُ”.⁴
إن كانَت الصِّفات البشَريَّة تُنقِص من الله فمُجرَّد إعلانه عن نَفسه للبشَر هو انتِقاص من ذاته، لأنَّهُ من الطَّبيعي أن يَستَخدِم الإدراك البشَري للمَفاهيم النَّظريَّة لكي يُعلِن عن ذاتهِ. هذا التَّعريف يُمَهِّد لنا الطَّريق لتَوضيح صِفَة تُلاقي اعتِراضات من البَعض، وسنُلاحِظ كيفَ أنَّ هذه الاِعتِراضات إن أُخِذَت على مَحمَل الجدّ فإنَّها تَمنَع اللَّغة من أن تَصِف لنا الله بشَكل كُلّي.
من الطَّبيعي أن يَستَخدِم الإدراك البشَري للمَفاهيم النَّظريَّة لكي يُعلِن عن ذاتهِ.
هل الله يتعب؟
وَرَدَ في سِفر التَّكوين:
“وَبَارَكَ اللهُ الْيَوْمَ السَّابِعَ وَقَدَّسَهُ، لأَنَّهُ اسْتَرَاحَ فِيهِ مِنْ جَمِيعِ أَعْمَالِ الْخَلْقِ” (سِفر التَّكوين 3:2)
بحَسب ما سَبَق وقُلناه فإنَّ الصِّفة تُشير لجانِب مُعيَّن من الاِختِبار البشَري يَتوافَق مع روحانِيَّة الله، فوَجه الشَّبَه في هذه الآية هو التَّوَقُّف عن العمَل وليسَ الرَّاحَة من التَّعَب، وهذا يَدعَمهُ مَعنى الكلمة في اللُّغة العِبريَّة. فكُل كلمة تُستَخدَم لوَصف الله يجب أن تُفهَم بحَسب مَعناها بلُغَتِها الأصليَّة وليسَ عبر الحُكم عليها من خِلال التَّرجَمة التي بينَ يدَيك.
“وَتَكُونُ كُلُّ أَيَّامِ الأَرْضِ مَوَاسِمَ زَرْعٍ وَحَصَادٍ وَبَرْدٍ وَحَرٍّ وَصَيْفٍ وَشِتَاءٍ وَنَهَارٍ وَلَيْلٍ، لَنْ تَبْطُلَ أَبَداً” (سِفر التَّكوين 22:8)
الكلمة المُتَرجَمة في هذه الآية “تَبطُل” هي نَفس الكلمة التي تُرجِمَت “استَراح” في الآية أعلاه.
من المُهمّ أيضاً فَهم المَعنى كما فَهِمهُ القُرَّاء الأوائِل وكما كانوا يُعَرِّفون الرَّاحة الإلهيَّة، حيثُ يقول “بيتر جينتري” أحَد عُلَماء العَهد القَديم: “المَقصود بالرَّاحة الإلهيَّة هي الإشارة إلى الاِستِقرار المُستَمِرّ للخَليقة… هكذا كانَ مَفهوم شُعوب الشَّرق الأدنى حينها حَول هذا الأمر.”⁵ أوضَحَ لنا الله حَقيقَة تَوَقُّفهِ عن العمَل في اليَوم السَّابِع لأنَّهُ أرادَ بذلك أن يُعَلِّمنا أنَّ علينا أن نَرتاح في اليَوم السَّابِع، فالرَّاحة التي تُستَخدَم في وَصف البشَر استُخدِمَت هُنا في وَصف الله، لكن كَونها لُغة تَشابُهِيَّة فهي لا تَنطَبِق على الله بنَفس السِّياق الذي تَنطَبِق بهِ علينا. الخُلاصة إنَّ القَول “استَراحَ الله” لا يعني أنَّ الله تَعِب ثُمَّ استَراح، بل يعني أنَّهُ انتَهى من العمَل الذي كانَ يَقوم به.
هذه القاعِدة التي تَحدَّثنا عنها تَنطَبِق على كُل الصِّفات التي يَذكُرها الكِتاب المُقدَّس. إن اعتَرَضنا على نَسب هذه الصِّفات لله والتَّحدُّث عنهُ بلُغة بشَريَّة، فسوفَ نقطَع الطَّريق على اللُّغة البشَريَّة وعلى قُدرَتِها في إيصال حَقائق روحيَّة عن الله لنا، ناهيكُم عن أنَّ هذا الاِعتِراض لا يُمكِن أن يُقدِّم دَليلاً يَمنَع هذا الاِستِخدام، فحتَّى لو كانَ الله غير مَحدود، إلَّا أنَّهُ قادِرعلى أن يُعلِن نَفسهُ لمَن خَلقهُم على صورَتهِ ومِثالِه بلُغة بشَريَّة.
- كتاب أسس الدين المسيحي الجزء الأول. مكتبة نور
- Summa Theologica. Thomas Acquinas.
- Ancient-Hebrew-Lexicon. Jeff A. Benner.
- Reformed Systematic Theology, Volume 1: Revelation and God. Joel R. Beeke, Paul M. Smalley.
- Kingdom Through Covenant: A Biblical-Theological Understanding of the Covenants. Peter J. Gentry, Stephen J. Wellum.
مقالات مُشابِهة
كيف تتوب إلى الله؟
من خلق الله؟
الأساسيات في المسيحية