Figures of people in a large colorful church

سنتحدث في هذا المقال عن كيف تأسست الطوائف المسيحية المختلفة مع لمحة تاريخية عامة عن أبرزها.

الحديث عن هذا الموضوع يتطلَّب إعطاء لمحة عن تاريخ الكنيسة بهدف توضيح أُمور رئيسيَّة خاصَّة بموضوعنا. ليس هدف هذا المقال أن يكون بحثاً شاملاً بل مُلَخَّصاً نذكر فيه أهمّ الأحداث التي أدَّت إلى انشقاق الكنائس عن بعضها البعض. لن نتمكَّن من الحديث عن جميع التَّسميات المسيحيَّة وجميع توجُّهاتها بمقالٍ واحد، لذلك سيقتصر مقالنا على الطَّوائف المسيحيَّة الرَّئيسيَّة. من المهم التَّوضيح أنَّ الطَّوائف لم تأتِ من العدَم بل وجدَت جذورها في مراحل مبكِّرة من تاريخ الكنيسة. لذلك يُعَدّ بداية ظهور طائفة معيَّنة انشقاقاً تنقطع فيه الشَّركة بين طرفين.

كل طائفة أو تسمية جديدة كانت يوماً جزءاً من تسمية أقدم منها. إن كنت تبحث عن إجابة سريعة عن نشأة الطَّوائف المسيحيَّة الرَّئيسيَّة، فإليك أهمّ الانشقاقات في تاريخ الكنيسة، لكن خُذ بعين الاعتبار أنَّ هذه التَّواريخ تصِف ذروة أحداث كانت قد بدأت قبلها واستمرَّت تداعياتها بعدها:

  1. سنة 1054 انفصلت الكنيسة الشرقيَّة عن الكنيسة الغربيَّة، وأصبح لدينا ما يُعرَف اليوم بالكنيسة الأرثوذكسيَّة (الشرقيَّة) والكنيسة الرُّومانيَّة الكاثوليكيَّة (الغربيَّة).
  2. سنة 1517 بدأ الإصلاح البروتستانتي الذي نتج عنه انشقاق جماعات كبيرة عن كنيسة روما الكاثوليكيَّة، وعُرِفت هذه الجماعات بِاسم البروتستانتيَّة.
  3. على مراحل مختلفة ظهرت انشقاقات بين البروتستانت أنفسهم، وأيضاً ظهرت جماعات أُخرى خلال الإصلاح البروتستانتي.

إليك المزيد من المعلومات أدناه:

church in arabic

الكنيسة الأولى

الاختلافات في التَّوجُّهات والتَّفاسير تجد جذورها في الكنيسة النَّاشئة، إذ نجد في سِفر أعمال الرُّسل والرَّسائل بعض الصِّدامات اللَّاهوتيَّة وأحياناً العِرقيَّة. لكن هذا لم يمنع الكنيسة من أن تكون كنيسة كَونيَّة واحدة مُشَكَّلة من مجموعة من الكنائس المحلِّيَّة، فعندما حصلت مشكلة في أنطاكية، تدخَّلت كنيسة أورشليم لتَحُلَّ هذا الأمر (أعمال الرُّسل 15).

ظهرت العديد من البدع في هذه الفترة لكنَّها كانت تُصنَّف دائماً على أنَّها هرطقات، وبالتالي فهي خارج الكنيسة. استمرَّ هذا الحال في الكنيسة لحوالي ألف سنة قبل حصول أوَّل انشقاق جدِّي تركَ أثراً إلى يومنا هذا. تخلَّلت هذه المرحلة بضعة انشقاقات (كالانشقاق النوفاتي والانشقاق الدوناتي) لكنَّها لم تستمر، ولن نتحدَّث عنها هنا، كما أنَّنا لن نتحدَّث عن الهرطقات لأنَّها لم تُعتبر يوماً جزءاً من الكنيسة الجامعة.

من المهم قبل الحديث عن انفصال الكنيسة الشرقيَّة عن الغربيَّة تعريف الكنيسة الكاثوليكيَّة بالنِّسبة للقرنين الثاني والثالث وكيف تطوَّر مع الزَّمن ليرتبط بالكنيسة الرُّومانيَّة الكاثوليكيَّة. فهم الخلفيَّة التاريخيَّة سيساعدنا على:

  • فهم كيف ولماذا حصلت الانشقاقات.
  • معرفة أنَّ كل طائفة مسيحيَّة لم تنشأ من العدم بل تجد جذورها في ممارسات وتعاليم أقدم منها.
الكاثوليكية

ما معنى “الكنيسة الكاثوليكية”

في جيل ما بعد الرُّسل، أطلقَ الآباء الأوائل مصطلَح “الكاثوليكيَّة” على الكنيسة الكَونيَّة أي كل الكنائس في مختلف بقاع الأرض، وهذا المصطلَح يعني “الكنيسة الجامعة” والتي تشمل كل المؤمنين الحقيقيِّين التَّابعين لنفس التَّعاليم، ليكون غرض هذه العبارة تحديد ما هو الإيمان القويم وفصل الهراطقة عن الكنيسة. لكنَّهم بذلك لم يقصدوا “الكنيسة الرُّومانيَّة الكاثوليكيَّة” أي وجود سُلطة مُطلَقة لكنيسة روما على باقي الكنائس. لأنَّ سُلطة أُسقف روما على باقي الأساقفة في هذه الفترة لم تكن موجودة بعد، أي لم يكن هناك بابويَّة بالمفهوم الذي نعرفه اليوم. السُّلطة المركزيَّة لأُسقف روما على غيره من الأساقفة بدأت بالتَّبلور لاحقاً نتيجةً لتطوُّرات سياسيَّة ولاهوتيَّة. إليكم بعض الحجج التي تدعم عدم وجود بابويَّة رومانيَّة في تلك الفترة:

  • لم يظهر في قانون نيقية سنة 325 م. أو في مقرَّراته أو حتى أُسلوب جلساته أي تفوُّق لأُسقف روما على غيره، بعكس مجامع العصور الوسطى.
  • أطلقَ قبريانوس حوالي سنة 256 لقب “البابا” على كل الأساقفة في المناطق السَّبع الرَّئيسية أو الأُسقفيَّات (ما يُعرف اليوم بالبَطريَركيَّات) كما يُظهر تعامله مع ستيفن أُسقف روما على أنَّه مجرَّد أُسقف عادي. يقول المؤرِّخ فيليب شاف: “…في الجدل حول المعموديَّة الهرطوقيَّة، يُعارض قبريانوس البابا ستيفن…متَّهماً إيَّاه بالخطأ وإساءة استخدام سُلطته، ويصِف التَّقليد الذي يفتقر إلى الحقيقة بأنَّه خطأ قديم. ولم يتراجع عن هذا الاحتجاج بكلمة واحدة.”¹
  • تعامُل إيريناوس مع فيكتور أُسقف روما يُظهر أنَّه كان ينظر له بأنَّه أُسقف عادي، فبالرَّغم من أنَّ إيريناوس كان ينظر نظرة مميَّزة لكنيسة روما إلَّا أنَّها لم ترتقِ لنظرة كنائس القرون الوسطى إلى البابويَّة. يقول فيليب شاف: “في عام 190، عندما قطع البابا فيكتور الشَّركة مع كنائس آسيا الصُّغرى في غطرسة وعدم تسامح لسبب تمسُّكها بتقاليدها فيما يتعلَّق بزمن الاحتفال بعيد الفصح، وبَّخه إيريناوس بشدَّة باعتباره مزعزعاً لسلام الكنيسة (على الرَّغم من أنَّ إيريناوس كان من نفس رأي فيكتور)…”²
  • عدم إمكانيَّتا تاريخيّاً من التَّأكُّد من أسماء البابوات في القرنين الأوَّل والثاني بعد نشأة الكنيسة. كما يؤكِّد على ذلك شاف أيضاً: “إنَّ التَّسلسل الزَّمني وخِلافة البابوات الأوائل غير مؤكَّد.”³
  • رسالة إكلِمندُس الرُّوماني الأولى والتي كُتبت حوالي سنة 95 م. تُلمِّح إلى أنَّ كنيسة روما كان لها عدَّة أساقفة.

وهكذا استمرَّت الحال إلى أن بدأت روما تكتسب تدريجيّاً أهميَّةً وتفوُّقاً نظراً لمكانة المدينة السِّياسيَّة، وبفضل مجهود بابوات كانوا قد وضعوا فكرة تفوُّق أُسقف نصب أعينهم وحقًّقوها ليرتبط اسم الكنسية الكاثوليكيَّة بكنيسة روما، لذلك تسمَّى اليوم بالكنيسة الرُّومانيَّة الكاثوليكيَّة. لكن أبرز الكنائس التي نشأت نتيجة الإصلاح البروتستانتي تعتبر نفسها هي الكنيسة الكاثوليكيَّة الحقَّة لأنَّها باعتقادها تُرجع الكنيسة الجامعة إلى الإيمان الذي فقدته كنيسة روما. ومن الخطأ التَّاريخي اعتبار كنيسة روما الكاثوليكيَّة في القرون الأولى للمسيحيَّة كما نعتبرها اليوم.

الأرثوذكسية

انفصال الكنيسة الشرقية عن الغربية

لطالما كان هناك شَدّ وجَذب بين كنيسة روما وكنيسة القسطنطينيَّة، فقد وردَ في أحد مقرَّرات مجمع خلقيدونيَّة سنة 451 أنَّ سُلطة أُسقف القسطنطينيَّة موازية لسُلطة أُسقف روما: “إنَّ أُسقف القسطنطينيَّة سيكون له الأولويَّة في الشَّرف كأُسقف روما لأنَّ القسطنطينيَّة هي روما الجديدة”. كانت الخلافات بمجملها خلافات سُلطويَّة، وهذا أحد الأدلَّة التي تُظهر أنَّ قيمة روما السِّياسيَّة أثَّرت في سُلطتها على غيرها. هذا المُقرَّر كان له تأثير استمرَّ لقرونٍ لاحقة، وعلى حدّ تعبير المؤرِّخ الرُّوماني الكاثوليكي ليو د. دايفس: “سيكون هذا القانون القصير سبباً للاضطراب في الكنيسة لقرونٍ قادمة.”

كان هذا القانون مثيراً للجدل ولم يقبله الأساقفة الرُّومان في ذلك الوقت، حيث اعتبَرت الكنيسة الرُّومانية أنَّ أُسقف روما يتمتَّع بمكانة فريدة ومتفوِّقة بسبب دوره كخليفة للقدِّيس بطرس، مستندين بهذا الادِّعاء على تفسير معيَّن للآيات في (متَّى 18:16-19).

في العام 1054 وتحت عنوان (خِلاف لاهوتي) حرَمت الكنيسة الغربيَّة نظيرتها الشرقيَّة من الشَّركة (أي نزعت عنها شرعيَّتها) وكذلك فعلت الكنيسة الشرقيَّة بالغربيَّة. ليكون هذا أوَّل صدع في لُحمة الكنيستين، لكن لم يكن هذا الخلاف هو الحدّ الفاصل النِّهائي بل كان له دور كبير في ابتعاد الكنيسة الشرقيَّة والتي صارت تُعرف بالأرثوذكسيَّة عن الكنيسة الغربيَّة أي الرُّومانيَّة الكاثوليكيَّة. كان للخلافات القديمة بينهما صدىً بطبيعة الحال لكنَّه تجلَّى في خلاف على عبارة أضافها الغربيُّون في إقرار الإيمان النِّيقوي ورفضها الشرقيُّون، وهي أنَّ الرُّوح القدُس ينبثق من الابن أيضاً وليس فقط من الآب.

انقطاع الشَّركة الدَّائم بين الكنيسة الغربيَّة والشرقيَّة استمرَّ إلى يومنا هذا، وإليكم أبرز الخلافات بين الكنيستين:

  • الخلاف حول السُّلطة الرَّئيسيَّة: في حين أنَّ الكنيسة الغربيَّة تعتبر كنيسة روما هي مصدر القرار، تعتبر الكنيسة الشرقيَّة أنَّ القرارات تصدر عبر اجتماع البَطريَركيَّات جميعها وليس عبر كنيسة واحدة فقط.
  • انبثاق الرُّوح القدُس من الآب والابن: تعتبر الكنائس الشرقيَّة أنَّ هذه العبارة لم ترِد في إقرار الإيمان النِّيقوي بل أُضيفت في القرن السَّادس في مجمع توليدو في إسبانيا، أمَّا الكنائس الغربيَّة فتعتبر أنَّ هذه العبارة تحمل تعليماً ضروريّاً ينتج عن تفسير صحيح لإقرار نيقية لذلك يجب أن تكون مقبولة. طبعاً هذا الخلاف له أبعاد لاهوتيَّة لن نتطرَّق إليها الآن.
  • زواج الكهنة: تسمح الكنائس الشرقيَّة بزواج الكهنة، بينما ترفض ذلك الكنائس الغربيَّة.
Timeline of the History of the Church Graphic

بعض الحركات الانفصالية في أوروبا قبل ظهور الإصلاح البروتستانتي

استمرَّت الكنيسة الغربيَّة بلُحمتها وكانت أوروبَّا كلّها تحت سيطرة البابويَّة. لكن الكثير من الرهبانيَّات التي كانت حينها تهدف لعيش حياة تقشُّف، أصبحت غنيَّة وتغيَّرت توجُّهاتها ليصبح تركيزها على الأمور الأرضيَّة والمادِّيَّات، ممَّا أثار غيظ العديد من المسيحيِّين الذين حاولوا إصلاح الرهبانيَّات، وقد نشأ على إثرها جماعات مسيحيَّة ضمن الكنيسة تهدف لإصلاح هذه الأُمور، يقول المؤرِّخ كيرنز إيرل عن تلك الفترة: “تسبَّب تكرار الفساد في حياة وممارسات التَّسلسل الهرَمي البابوي والأنشطة العلمانيَّة للبابويَّة في ردود فعل من كثيرين ضد نقص القوَّة الرُّوحيَّة التي كانوا يرونها غالباً في كنائسهم الرَّعويَّة.”

بالإضافة إلى محاولات الإصلاح من الدَّاخل حصلت بضعة انشقاقات لكنَّها كانت ضعيفة ومحدودة ووقتيَّة، نذكر منها:

الكاثاريون: يعتبر الكاثاريون أو الألبجنسيون جماعة دينيَّة ظهرت في فرنسا الجنوبيَّة، حيث كانت تعتقد بوجود ثنائيَّة مُطلَقة بين إله الخير الذي خلق أرواح البشر وإله الشَّر الذي صنع العالَم المادِّي. اعتبرت المادَّة شرِّيرة، ورفضت التَّناسل، والطُّقوس الكنسيَّة كالقدَّاس، كما رفضت الإيمان بوجود الجحيم والقيامة الجسديَّة في يوم القيامة. كانت الوسيلة للخلاص عندهم تتضمَّن التَّوبة وتجنُّب الملذَّات المادِّيَّة.

الوالدونسيون: أمَّا حركة الوالدنسيين، التي بدأت في أواخر القرن الثاني عشر، فكانت أكثر شبهاً بالحركات البروتستانتيَّة. أسَّسها بيتر والدو، الذي تخلَّى عن ثروته ليكرِّس حياته للدَّعوة. كانوا يؤمنون بضرورة توفير الكتاب المقدَّس للجميع كلٌّ بلُغتهِ، ويعتبرونه السُّلطة النِّهائيَّة للإيمان والحياة كما نادى البروتستانت لاحقاً. تمَّ طردهم من الكنيسة بسبب رفضهم التَّوقُّف عن الوعظ، ثمَّ ابتكروا مجتمعاً خاصّاً بهم مع قادة كهنة لهم.

البروتستانتية

السبي البابلي للكنيسة

عام 1305، تمَّ انتخاب رئيس أساقفة بوردو كَبابا جديد، لكنَّه اختار إقامة البابويَّة في مدينة أفينيون بفرنسا بدلاً من روما. أسعد هذا الخيار الملِك الفرنسي، لكنَّه أدَّى إلى استياء عارم خارج فرنسا، سُمِّيت هذه المرحلة بالسَّبي البابلي لأنَّ العديد اعتبروا أنَّ الكنيسة في أفينيون حالها كحال بني إسرائيل عندما كانوا مسبيِّين في بابل.

بعد سبعين عاماً، سَئِم أهل روما من الوضع، وعندما اجتمع الكرادِلة في عام 1378 لاختيار بابا جديد، تعرَّضوا لضغوط من الحشد مُطالبين ببابا إيطالي. انتخَبوا بالفعل بابا جديد لكنَّه لم يكن على القدر الكافي من التَّطلُّعات، أراد الكرادِلة عزله وانتخَبوا آخر فأصبح هناك بابا فرنسي وآخر إيطالي في روما، بالإضافة إلى البابا في أفينيون، وكل بابا منهم عزلَ الآخر.

انقسمت أوروبَّا بين الباباوات، ودعت الحاجة لعقد مجلس لحلّ المشكلة. تمَّت الإطاحة بجميع الباباوات، وتمَّ انتخاب بابا جديد لكن التَّوتُّرات استمرَّت، ممَّا خلق أزمة في السُّلطة وهي: أين تكمن السُّلطة العليا في الكنيسة، في أفينيون أم روما؟ أعلنَ مجمع كونستانس (1414-1418) أنَّ مجلس الكرادِلة هو أعلى سُلطة من البابا، لكن الباباوات عارضوا ذلك. استمرَّت أزمة السُّلطة طويلاً بعد انتهاء الانقسام، ممَّا ترك المسيحيِّين في حيرة من أمرهم حول أين تكمن السُّلطة الدِّينيَّة.

يقول مايكل ريفز عن هذه الحقبة:

“في هذه الأثناء، ومع وجود الباباوات في أماكن أُخرى، بدأت مدينة روما في الانهيار. كان هذا أكثر من مجرَّد عار، لأنَّه إذا كانت روما ستصبح الأُمّ المجيدة التي تتطلَّع إليها جميع المسيحيَّة، فلا يمكن أن تصبح خراباً. في الواقع، لاستعادة مكانتها، كانت بحاجة إلى أن تصبح أكثر مجداً من أيّ وقت مضى. كان من الضَّروري أن تُدهش كل أوروبَّا. على مدى القرن التالي، جذبَ الباباوات في عصر النَّهضة مجموعة من الفنَّانين إلى دوائرهم: تمَّ توظيف فرا أنجيليكو وجوتسولي وبينتوريتشيو؛ تمَّ تكليف رافائيل بتزيين شقق البابا الشَّخصيَّة في الفاتيكان؛ ومايكل أنجلو لتزيين كاتدرائيَّة سيستين؛ وبرامانتي لإعادة بناء كاتدرائيَّة سانت بيتر. قد كان ذلك مجيداً، ولكنَّه كان أيضاً مُكلِفاً بشكل مُروِّع. تمَّ البحث عن التَّمويل من أيّ مكان يمكن العثور عليه، وبدأ النَّاس يتذمَّرون من الباباوات الذين بدوا أنَّهم مهتمُّون بأموالهم أكثر من أرواحهم، ومن فَنّ يبدو لهم أكثر وثنيَّة من كونه مسيحيّاً. كانت إعادة بناء كاتدرائيَّة سانت بيتر، على وجه الخصوص، ستثبت أنَّها أكثر تكلفة على روما من أسوأ كابوس يمكن أن يواجهه البابا، لأنَّها ستثير غضب مارتن لوثر.”

ذلك لأنَّ جمع التَّبرُّعات لبناء هذه الكاتدرائيَّة في مدينة لوثر تحت حُجَّة بيع صكوك الغفران كان سبب رئيسي في انطلاق حركة الإصلاح التي أشعلَها هو.

مصلحوا ما قبل الإصلاح

قبل بداية الإصلاح البروتستاتني الشَّامل ظهرت بعد الأصوات التي نادت بأهميَّة الكتاب المقدَّس وتفوُّقه على التَّقليد البشري وضرورة ترجمة النُّصوص المقدَّسة إلى لُغات النَّاس العامَّة. شكَّك هؤلاء في سُلطة البابا وتحدَّوا كنيسة روما، وقد كان للسَّبي البابلي للكنيسة دوراً في تأثيرهم بالنَّاس حيث صار العديد من النَّاس يُشكِّكون في سُلطة البابويَّة. لم تنتشر تعاليمهم كثيراً لأنَّ العوامل التي ساعدت الإصلاح البروتستانتي لم تكن متوفِّرة بعد، كآلات الطِّباعة لطباعة ونشر الكُتب، وبروز الرُّوح القوميَّة عند العديد من الشُّعوب أمام سطوة روما عليها، لكن هذا لم يمنع أفكار هؤلاء من أن تؤثِّر بالمُصلِحين البروتستانت الذين رأوا أنَّ ما يقومون به هو امتداد لعمل هؤلاء لذلك عُرفوا باسم مُصلِحي ما قبل الإصلاح، ونذكر أبرزهم:

جون ويكليف: كان كاهناً وانتقل للتَّعليم في أكسفورد، وهناك أصبحت آراؤه اللَّاهوتيَّة مثيرة للجدل، لكن علاقته الجيِّدة بالعائلة المالكة أعطته حصانة. خلال معظم حياته، كان الباباوات يقيمون في أفينيون، ممَّا خلق أجواء من الشَّك في السُّلطة الدِّينيَّة. لكن مع تنصيب باباوَين في عام 1378، بدأ ويكليف بتحديد الكتاب المقدَّس كمصدر السُّلطة الرُّوحيَّة العليا بدلاً من البابا، معتبراً أنَّ البابويَّة مجرَّد اختراع بشري. خلال سنوات قليلة، أثار حديثه الضجَّة في أكسفورد وفي البلاد. اضطرَّ ويكليف للتَّقاعد إلى أبرشيَّة لوتيرورث حيث عاش ككاهن وكتب منشورات شعبيَّة وعمل على تحويل ترجمة الكتاب المقدَّس الفولغاتا اللَّاتينيَّة إلى الإنجليزيَّة. توفِّي في عام 1384 قبل أن يدينه مجمع كونستانس كهرطوقي، ويتمّ على إثر ذلك استخراج رُفاته وحرقها. ترك ويكليف إرثاً كبيراً، حيث كرَّس أتباعه في إنجلترا أنفسهم لممارسة قراءة الكتاب المقدَّس سِرّاً. لهذا السَّبب عُرفوا باسم “اللولارد” وهو مصطلَح يعني “المتلعثِم” إشارةً إلى عادتهم في قراءة الكتاب المقدَّس سِرّاً. وحين وصلت إليهم حركة الإصلاح بعد قرنٍ، كانوا مستعدِّين لها.

جان هوس: العديد من الطُّلاب زاروا أكسفورد وأخذوا تعاليم ويكليف معهم إلى بوهيميا (التشيك حاليّاً)، وقوبلت هناك أفكار ويكليف بترحاب من العديد، بما في ذلك جان هوس، مدير جامعة براغ. أصبح هوس شخصيَّة بارزة في الدِّفاع عن تعاليم ويكليف. انتقدَ الكنيسة بشدَّة، ونفى علناً سُلطة البابا في إصدار صكوك الغفران، وأعربَ عن شكوك حول وجود المَطهَر. تمَّ إبعاده واستدعاؤه إلى مجمع كونستانس للدِّفاع عن آرائه. رغم تردُّده، ذهب بعد أن ضُمن له الأمان، لكنَّه سُجن فوراً. وبعد ستَّة أشهر ومحاكمة سريعة رفضَ فيها التَّراجع عن آرائه، حُكم عليه بالإعدام بتهمة الهرطقة عام 1415.

بعد وفاة جان هوس، اندلعت ثورة مسلَّحة في بوهيميا حيث أصبح الرَّجل بطلاً قوميّاً. من عام 1420، أٌطلِقت سلسلة من الحملات الصَّليبيَّة ضد الهوسيِّين الذين اعتبرتهم الكنيسة الرُّومانيَّة الكاثوليكيَّة هراطقة، لكنَّهم حقَّقوا انتصارات مذهلة وأسَّسوا كنيسة هوسيَّة مستقلَّة في قلب أوروبا الكاثوليكيَّة. هناك، تمكَّن الوُعَّاظ الهوسيُّون من التَّعليم بحُرِّيَّة. وكان هوس قد قال قبل وفاته: “بعد مئة عام سيأتي من لن تستطيعوا إسكاته”. فبعد مئة عام تقريباً على وفاة هوس، حملَ المشعل من بعده مارتن لوثر.

المطهر

الإصلاح البروتستانتي

في الكاثوليكيَّة الرُّومانيَّة خلال العصور الوسطى سادَ الاعتقاد التالي: عندما كان الخاطئ يذهب للاعتراف لدى الكاهن، كان الكاهن يطلب منه القيام بأعمال التَّوبة بهدف التَّكفير عن ذنوبه، وإن لم يتمّ التَّكفير عنها في هذه الحياة فسيُعاني المُذنب من نيران ما عُرِف بالمَطهَر، وهو حالة متوسِّطة بعد الموت بين الملكوت وجهنَّم، هدفها تطهير المؤمن لكي يدخل الملكوت.

علَّمت كنيسة روما أنَّ بعض القدِّيسين كانوا قد حقَّقوا من الفضائل ما يكفي لدخول الملكوت مباشرةً دون المرور بالمَطهَر وأنَّه كان لديهم فائض من الفضائل احتفظت به الكنيسة. البابا هو الوحيد الذي كان لديه مفاتيح هذا الكنز، وكان بإمكانه منح الهدايا من الفضائل أو الإعفاءات لأيّ روح يراها مستحقَّة، ممَّا يُسرِّع مسارها خلال المَطهَر أو حتى يجعلها تتجاوز المَطهَر بالكامل أي بإعفاءٍ تامّ. في البداية، كانت هذه الإعفاءات الكاملة تُمنح للمشاركة في الحملة الصَّليبيَّة الأولى، لكن سرعان ما تمَّ اعتبار التَّبرُّع بالمال كافياً للحصول على الإعفاء. وبذلك أصبح واضحاً لدى النَّاس أنَّ القليل من المال يمكن أن يضمن السَّعادة الرُّوحيَّة. هذه الأموال كانت تُدفع بمقابل ما عُرِف باسم “صُكوك الغفران”.

كما انتشر الفساد بكثرة في هذه الفترة، ويصِفها المؤرِّخ أوبين كالتالي:

“انتشار الفساد في الحياة والممارسات داخل الهيكل البابوي وأنشطة البابويَّة العلمانيَّة جعل الكثيرين يشعرون بالإحباط من نقص القوَّة الرُّوحيَّة التي كانوا يرونها غالباً في كنائسهم المحلِّيَّة. رودريغو بورجيا، الذي كان كاردينالاً وأُسقفاً، عاش علناً مع امرأة تُدعى فانونزا، وأنجب منها خمسة أطفال. بعد وفاة البابا إنوسِنت الثامن، تمكَّن بورجيا من الحصول على البابويَّة من خلال رشوة الكرادِلة، ودخل القصر بأربع بكَرات محمَّلة بالفضَّة. أصبح هو البابا ألكسندر السَّادس وكان سعيداً بتحقيقه هذه القمَّة من السُّلطة الدُّنيويَّة.”

مارتن لوثر كان راهباً انتسب للرَّهبنة لإيفاء نذر، ثمَّ بدأت بذور الشَّك تنمو في قلبه عند ذهابه إلى روما، وكان يظنّ أنَّ في انتظاره جوّ روحي نابض بالحياة في هذه المدينة العظيمة، لكنَّه اكتشف أنَّه جوّ فوضوي. كانت روما تُتاجر بالإيمان حيث كانت القُدَّاسات تُقام بسرعة لكي يقوم الكاهن بأكبر عدد قُدَّاسات بهدف الرِّبح، وغالباً ما كانت تكون القُدَّاسات غير مفهومة لأنَّها باللُّغة اللَّاتينيَّة وليست باللُّغة العامَّة للشَّعب، ممَّا أثار قلق لوثر.

تسلَّق لوثر الدَّرج المقدَّس (سكالا سانكتا) على رُكبتيه بهدف الحصول على غفران الخطايا الذي هو بحسب زعم كنيسة روما نفس الدَّرج الذي تسلَّقه المسيح خلال محاكمته عند بيلاطس. وعند كل خطوة كان لوثر يتساءل عن صحَّة هذه الممارسات، وبعد وصوله إلى القمَّة، تساءل: “من يعرف ما إذا كان هذا صحيحاً؟” اعتقد لوثر أنَّ الكنيسة بحاجة فقط إلى إصلاح، وهذا ما ظنَّ أنَّه سيقوم به، غير عالِم بتداعيات هذا القرار الذي سيتَّخذه.

أصبح لوثر معلِّماً للكتاب المقدَّس في جامعة ويتنبرغ الجديدة. وقد أتاحت له العودة إلى النَّص اليوناني فهم أعمق للنُّصوص كما ساهمت في ذلك أيضاً ترجمة إيراسموس اللَّاتينيَّة الحديثة، ممَّا أحدث تغييرات عميقة في تفكير لوثر وفهمه للإيمان. في البداية، كان لوثر يعاني من قلق داخلي حول خلاصه، وكان يشعر بأنَّ أعماله الصَّالحة غير كافية أمام الله. لكن بعد دراسته للعهد الجديد، خاصَّةً رسالة بولس الرَّسول إلى كنيسة روما، تغيَّر كل شيء، فقد وجد أنَّ الخلاص ليس نتيجةً للأعمال أو الطُّقوس بل هو هبة مجَّانيَّة من الله تُمنح لمن يؤمن، وشدَّد على أهميَّة العلاقة الشَّخصيَّة مع الله.

في 31 تشرين الأوَّل سنة 1517 وضعَ مارتن لوثر ورقة على باب الكنيسة في ويتنبرغ، وكانت الورقة تحتوي على 95 بند انتقد فيها الممارسات الكنسيَّة. كانت هذه الطَّريقة مُعتمَدة لمناقشة الأفكار تلك الأيَّام. تلت تلك الحادثة أحداث أُخرى عديدة أدَّت إلى عدَّة انشقاقات عن كنيسة روما وعُرِفت بالإصلاح البروتساتني الذي غيَّر وجه أوروبَّا بشكل جذري. من الجدير بالذِّكر أنَّ التَّسمية “بروتستانت” والتي تعني “المعترضون” أُطلِقت لأوَّل مرَّة سنة 1529 خلال مؤتمر سبير لوصف المعترضين على القرارت التي اتَّخذها الملك تشارلز الخامس لإدانة لوثر وتعاليمه.

بإمكاننا تلخيص المعتقدات البروتستانيَّة كالتالي:

يؤمن البروتستانت أنَّ:

  • الخلاص هو بالإيمان وحده، وأنَّ الأعمال الصَّالحة هي نتيجةً لهذا الإيمان وليس لها دور للخلاص.
  • الكتاب المقدَّس هو السُّلطة الرَّئيسيَّة وحده وهو الوحيد المعصوم، بعكس تقاليد ومقرَّرات الكنيسة.
  • المؤمن يجب أن يكون هدفه مجد الرَّب وحده، وليس مجد القدِّيسين أيضاً.
  • الرَّب يسوع المسيح هو الشَّفيع والوسيط الوحيد، ولسنا بحاجة إلى شفاعات خلاصيَّة أُخرى.
  • النِّعمة الإلهيَّة هي أساس خلاص الإنسان، وهي هبة إلهيَّة مجَّانيَّة لا يستحقَّها الإنسان ولا يستطيع الحصول عليها.

بينما يؤمن الرُّومان الكاثوليك أنَّ:

  • الخلاص هو بالإيمان بالإضافة إلى الأعمال.
  • الكتاب المقدَّس هو ليس السُّلطة الرَّئيسيَّة بل سُلطته موازية لتقاليد الكنيسة.
  • المؤمن يمكن أن يعطي المجد للقدِّيسين.
  • الرَّب يسوع المسيح ليس الشَّفيع والوسيط الوحيد بل يوجد شُفعاء كُثر.
  • الإنسان قادر على أن يختار الإيمان بمساعدة النِّعمة وليس بالاعتماد المُطلَق عليها.

خلاف لوثر وزوينغلي

تلك الأيَّام في أوروبَّا كان الدِّين جزءاً أساسيَّاً من السِّياسة والحُكم، لذلك كان الحُكَّام على صلة قويَّة مع رجال الدِّين وكان بعض رجال الدِّين حُكَّاماً. عندما ظهر لوثر في ألمانيا ظهر مُصلِح آخر يحمل نفس الأفكار في سويسرا، اسمه أولريخ زوينغلي. آمن زوينغلي كما لوثر أنَّ الكتاب المقدَّس هو السُّلطة العليا للإيمان. أراد الأمير فيليب توحيد صفوف البروتستانت في مواجهة الكاثوليك، لذلك جمع لوثر وزوينغلي ولاهوتيِّين آخرين في مدينة ماربورغ الألمانيَّة لكي يتَّفقوا على أساسيَّات الإيمان بهدف توحيد الصَّوت البروتستانتي.

اتَّفق لوثر وزوينغلي على 14 نقطة من أصل 15. اختلفوا على نقطة واحدة وهي العشاء الرَّبَّاني أو الإفخارستيَّا. في حين أنَّ لوثر لم يوافق على تعاليم كنيسة روما حول ما يُعرف بعقيدة الاستحالة (تحوُّل جوهر الخبز إلى جسد المسيح دون تغيير في شكل الخبز، وكذلك الأمر بالنِّسبة للخمر) إلَّا أنَّه صاغ تعليماً قريباً منه إذ قال إنَّ المسيح حاضر في الخبز والخمر كحضور النَّار على الحديد خلال مرحلة صَهره، أي محيطاً به من كل النَّواحي. لكن زوينغلي رفض كل هذا وقال إنَّ فريضة العشاء الرَّبَّاني هي مجرَّد ذكرى لا أكثر.

أدَّى هذا الخلاف بينهما إلى انفصال لا عودة فيه، ليصبح لدينا اليوم الكنائس اللُّوثريَّة التي تتبع مارتن لوثر، والكنائس المصلَحة التي تُعرف أيضاً بالمشيخيَّة وقد نتج عنها كنائس معمدانيَّة مصلَحة، وسنتحدَّث عن المعمدانيَّة في الجزء الأخير من هذا المقال.

من الجدير بالذِّكر أنَّ عقيدة زوينغلي عن العشاء الرَّبَّاني كان لها عدَّة تفاسير وهي بحسب تفسير المُصلِح الفرنسي جون كالفن الذي كان في جنيف سويسرا، لم تكن مجرَّد ذكرى بل فيها حضور روحي حقيقي للرَّب يسوع وقد وافق المُصلِحون الآخرون على هذا الرَّأي ليصبح الرَّأي السَّائد في الكنائس المُصلَحة.

كان جون كالفن مفكِّراً لامعاً وراعي كنيسة في جنيف، وكان له دور بارز في وضع عقائد الإصلاح بطريقة ممنهجة، وكان صاحب تأثير لاهوتي كبير.

إليكم أبرز خلافين بين الكنائس اللُّوثريَّة والكنائس المصلَحة:

  • العشاء الرَّبَّاني: يؤمن المُصلِحون بحضور روحي للمسيح في هذه الفريضة، بينما يؤمن اللُّوثريُّون بحضور فعلي له.
  • المعموديَّة: يؤمن اللُّوثريُّون بأنَّ المعموديَّة ضروريَّة للخلاص والولادة الجديدة، بينما يؤمن المُصلِحون بأنَّ المعموديَّة هي علامة العهد الجديد وهي أساسيَّة لكنَّها ليست ضروريَّة للخلاص أو للولادة الجديدة.

ظهور المعمدانيون

فتحَ الإصلاح البروتستانتي المجال أمام جماعات دينيَّة أُخرى في أوروبَّا، أخذ أعضاؤها على عاتقهم فهم الكتاب المقدَّس بمفردهم ووصلوا إلى نتيجة لاهوتيَّة مفادها أنَّ المعموديَّة لا يجب أن تكون للأطفال بل للبالغين الذين قدَّموا إقرار إيمان. كانت ممارسة معموديَّة الأطفال سارية المفعول في جميع أنحاء العالَم المسيحي لمدَّة ألف سنة وربَّما أكثر، لذلك وجد الجميع بمن فيهم المُصلِحون أنَّ هذا تعليم غريب وخاطئ.

لا يمكن أن ننسى ارتباط الدِّين الوثيق بالدَّولة تلك الأيَّام، فقد كان كل مولود جديد يُعمَّد، يدفع أهله رُسوم معموديَّته ثمَّ تؤخذ منها الضَّرائب. وإذا توقَّفت هذه الممارسة فستتوقَّف معها الضَّرائب وبالتالي سيتوقَّف دعم الجيش، وهذا غير ممكن لأنَّ الخطر العثماني كان على أبواب أوروبَّا، لذلك وُوجِهَ إيمان مُعمِّدي الكبار بالاضطهاد سواء من الكاثوليك أو البروتستانت، وقد عُرِفوا باسم “معيدوا المعموديَّة”.

ورد في كتاب قصَّة المعمدانيُّون: “لم يكن بإمكان معظم البروتستانت في القرن السَّادس عشر تخيُّل عالَم لا تعمل فيه الدَّولة والكنيسة معاً من أجل قضيَّة المسيح.”

لم يكن لمُعيدي المعموديَّة إيمان موحَّد، فالبعض منهم رفض حتى الإيمان بالثَّالوث. نادى معظمهم بانفصال الدِّين عن الدَّولة لكن هذا الأمر لم يكن وارداً تلك الأيَّام، وقد أسَّسوا هم أنفسهم دولة مصغَّرة في مدينة مونستر ألمانيا حين أصبح عددهم كبيراً، وقد دُمِّرت دولتهم على يد جيوش البروتستانت والكاثوليك الذين اتَّحدوا معاً عليهم.

لم نتحدَّث عن الإصلاح في إنجلترا وكيف ظهرت الكنيسة الإنجليكانيَّة هناك لكي لا نطيل الحديث أكثر، لكن في إنجلترا بدأت تعاليم معموديَّة البالغين تزدهر بين المُنشقِّين عن الكنيسة الإنجليكانيَّة، ولم يشأ هؤلاء ربط أنفسهم بجماعة مُعيدي المعموديَّة الذين ظهروا في فترة الإصلاح نظراً للجدل الكبير حول إيمان تلك الجماعات، لكنَّهم صاغوا تعاليم شبيهة تتمّ فيها معموديَّة البالغين الذين لديهم إقرار إيمان، وقد اجتمع المعمدانيُّون الإنجليز في لندن سنة 1689 ليُطلقوا إقرار إيمان الكنائس المعمدانيَّة والذي تعتمده الكنائس المعمدانيَّة المُصلَحة إلى اليوم.

ورد في كتاب قصَّة المعمدانيُّون: “بدأت الطَّائفة المعمدانيَّة كفرقة صغيرة في العالَم النَّاطق بالإنجليزيَّة، مع شخصيَّات مثل جون سميث، توماس هيلوايس، هنري جيسي، وروجر ويليامز. أصبح المعمدانيُّون الآن حركة عالميَّة، ولا تزال أفكار وإنجازات هؤلاء القادة الأوائل وغيرهم تساعد في توجيه تاريخ المعمدانيِّين في القرن الحادي والعشرين.”¹⁰

الكنائس الشرقية

الكنائس الشرقيَّة هي كل الكنائس التي تنتمي إلى مجموعات عِرقيَّة مختلفة كالكنيسة الأشوريَّة والقبطيَّة والإثيوبيَّة وغيرها. هذه الكنائس هي جزء من الكنائس الأرثوذكسيَّة الشرقيَّة بمعظمها، لكن البعض منها في شركة مع كنيسة روما الكاثوليكيَّة، والقليل منها بروتستانتي، وكل كنيسة لها تقاليد خاصَّة بها.

نذكر من هذه الكنائس:

  •  الكنيسة القبطيَّة الأرثوذكسيَّة: هي الكنيسة المصريَّة، وتُعَدّ واحدة من أقدم المجتمعات المسيحيَّة، حيث تعود أصولها بحسب التقليد الكنَسي إلى مَرقُس الرَّسول.
  • الكنيسة الأرمنيَّة الرَّسوليَّة: تأسَّست في أرمينيا، وهي واحدة من أقدم الكنائس الوطنيَّة، ولها تُراث ثقافي غني.
  • الكنيسة السريانيَّة الأرثوذكسيَّة: هذه الكنيسة متجذِّرة في المجتمعات المسيحيَّة القديمة في سوريا، ولها وجود قوي في الشَّرق الأوسط والمهجر.
  • الكنيسة الأشوريَّة: تمتد بين العراق وسوريا وتركيا وإيران، وهي كنيسة تتبع تقاليد قديمة تاريخيّاً، ولها الكثير من الأتباع في المهجر.

الكنيسة الخمسينية

بدأت الجماعات الخمسينيَّة أو الكاريزماتيَّة في الظُّهور مع بداية القرن التاسع عشر في أوساط معمدانيَّة خلال مؤتمرات كنسيَّة مختلفة، وقد تمَّ التَّشديد فيها على إعادة إحياء الاختبارات الرُّوحيَّة نتيجة عمل الرُّوح القدُس الذي بحسب رأيهم يعطي مواهب روحيَّة لإجراء معجزات كما كان الحال مع الرُّسل والكنيسة الأولى. ظهرت عدَّة مراحل تاريخيَّة مهمَّة في تاريخ هذه الكنائس ساهمت في جعلها واحدة من أكبر الكنائس الإنجيليَّة في العالَم اليوم من حيث العدد.

أبرز معتقدات الكنائس الخمسينيَّة:

  • يؤمن الخمسينيُّون أنَّ موهبة التَّكلُّم بألسِنة لا تزال تُعطى كما كانت في الكنيسة الأولى، وهي بالنِّسبة لهم ليست فقط لُغات أُخرى معروفة، بل هي لُغات ملائكيَّة خاصَّة هدفها بُنيان الرُّوح.
  • يؤمن الخمسينيُّون أيضاً بوجود مواهب روحيَّة خاصَّة بالشِّفاء، لذلك يُقيمون مؤتمرات للشِّفاءات.
  • يؤمن الخمسينيُّون أنَّ موهبة التَّنبُّؤ لا تزال مستمرَّة إلى أيَّامنا هذه..

كل هذه المواضيع تحتاج إلى الكثير لشرحها بالتَّفصيل، ونتمنَّى أن نكون قدَّمنا لمحة موجزة تُفيدك في التَّعرُّف على نشأة الطَّوائف المسيحيَّة الرَّئيسيَّة المختلفة. نتعلَّم كثيراً من تاريخ الكنيسة وقد نواجه أموراً لا تعجبنا لكن هذه هي الكنيسة وهذا إرثنا، التَّاريخ موجود لكي نتعلَّم منه بهدف تفادي أخطاء الماضي في الحاضر، ولكي نعرف كيف نتطلَّع إلى المستقبل.


مقالات مُشابِهة

ما هي الطوائف المختلفة في المسيحية؟
ما هي المسيحية؟
ما هي الكنيسة؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.