عبر التَّاريخ، كانت كل حضارة تعبِّر عن سبب وجود الخليقة عبر قصص مختلفة، لكن توجد قصَّة تتحدَّث عن الخلق وتتميَّز عن غيرها من القصص الأُخرى بأمور جوهريَّة لأنَّها تقدِّم نظرة عن الله تتفوَّق فيها على جميع القصص التي تحدَّثت عن هذا الموضوع.
معظم الشُّعوب القديمة ابتكرَت قصَّة تشرح فيها كيف دخلت الحياة حيِّز الوجود وما هي غاية الأشياء ولماذا وُجِدَت. ويَعتبر الكثيرون أنَّ القصَّة التَّوراتيَّة لا تتعدَّى كونها مُجرَّد قصَّة أُخرى من تلك الأساطير الكثيرة التي تتحدَّث عن الخلق، كونها تحتوي على تفسير بدائي وغير عِلمي لكيفيَّة دخول هذا الكون حيِّز التَّنفيذ. لن أغوص في النِّقاش حول ما إذا كانت نيَّة سِفر التَّكوين الذي يُخبرنا هذه التفاصيل أن يُعلِّمنا عن الأصل المادِّي للخليقة، أو أن يُرسي نظريَّة علميَّة، أو إن كان هدفه فقط التَّفسير اللَّاهوتي للوجود. وليس هدفي الغَوص في طُرق تفسير الإصحاحات الأولى لسِفر التَّكوين بين الحَرفيَّة والمَجازيَّة، لكنِّي أُريد أن أُنوِّه لفكرة واحدة وهي أنَّ القصَّة التَّوراتيَّة تُظهِر مفهوماً ثَوريّاً عن الله، أي أنَّه متقدِّم جداً على مفاهيم تلك الحقبة عن الآلهة والبشر، وهي بذلك تحتوي على المفهوم المنطقي الوحيد بالنِّسبة لوجود الإله، ممَّا يجعلها مميَّزة ومختلفة.
القصة اليونانية عن الخلق
تبدأ قصَّة الخلق اليونانيَّة تماماً كغيرها من قصص الخلق، إذ تُخبرنا عن آلهة متعدِّدة غير أزَليَّة (أي لها بداية) موجودة ضمن المادَّة (الطَّبيعة) التي تبدو أنَّها مادَّة أزَليَّة (ليس لها بداية) في هذه الأساطير. تَظهر الآلهة على أنَّها جزء ممَّا هو موجود أساساً، وتَخضع لقوانين الطَّبيعة، وتعمل ضمن محدوديَّة الخليقة التي هي بالأساس جزءاً منها، وتعيش فيها صراعات تشبه صراعات البشر حيث تتنازَع فيما بينها على السُّلطة وتُعاني بسبب خضوعها لرغباتها الجنسيَّة.
تُخبرنا القصَّة اليونانيَّة للخلق كيف أنَّ أورانوس (إله السَّماء) تزوَّج غايا (إلهة الأرض)، ليَنتُج عن هذا الزَّواج اِثنَي عشر عملاقاً ومخلوقات أُخرى، لكن بسبب اشمئزاز أورانوس من أطفاله، قام بإخفاء بعض أولاده في مكانٍ ما في غايا (الأرض). غضبت غايا من هذا الأمر وطلبت من أطفالها الجبابرة معاقبة والدهم. اِبنها كرونوس هو الوحيد الذي كان على استعداد للقيام بذلك وقام بإخصاء والده بمنجل من غايا، تناثرَ الدَّم من أورانوس على الأرض ليُخلَق إرينيس (إله الغضب) والعمالقة وغيرهم من الآلهة. ألقى كرونوس الخصيَتين المقطوعتين لوالده الإله أورانوس في البحر لتُخلَق إلهة الحُب أفروديت. تنتقل الأساطير بعد ذلك إلى حرب الجبابرة وصُعود زِيوس في نهاية المطاف وهزيمة والده، ومن هناك إلى خلق البشر.¹
خالق السماوات والأرض
أسماء الآلهة اليونانيَّة في معجم اللُّغة اليونانيَّة القديمة تُستخدَم لوصف المادة التي يُمثِّلها كل إله، فلَفظَة السَّماء في اليونانيَّة هي “أورانوس”، ولفظة الأرض هي “غايا”، وهكذا سُمِّيَت الأشياء بحسب من يُمثِّلها من الآلهة. كما سبقَ وأشرنا أعلاه، الآلهة اليونانيَّة ليست خارج الوقت والمكان (ليست أزَليَّة)، ولا وجود عندهم لإله خارج المادَّة أي لديه القُدرة على الوُجود الذَّاتي ليستطيع أن يُوجِد الخليقة، فبحُكم التَّعريف لا يمكن أن يكون جزءاً من الخليقة ويُوجِدها في نفس الوقت لأنَّ هذا بحدّ ذاته تناقُض. لكن في التَّوراة فإنَّ الأمر ليس هكذا بتاتاً، بل يتمّ تصوير الله بأنَّه المُتسامي والمُتعالي على الخليقة والمُسيطِر على كل شيء فيها، وسنبدأ بمثال بسيط قبل المقارنة.
تُرجِم العهد القديم العبري لليونانيَّة خلال القرن الثَّاني قبل الميلاد، واستُخدمت في التَّرجمة نفس التَّعابير المُعتمَدة في اللُّغة اليونانيَّة لتبدأ الآية الأولى من سِفر التَّكوين هكذا:
ἐν ἀρχῇ ἐποίησεν ὁ θεὸς τὸν οὐρανὸν καὶ τὴν γῆν
“في البدء خلقَ الله (أورانوس وغايا) السَّماء والأرض.”
هذه الآية وحدها كفيلة بأن تعطينا أوَّل فرق جوهري. تخيَّل معي أوّلاً كيف ستكون ردَّة فعل اليوناني الذي تربَّى على أدَب هِسيود وهومر حينما يقرأ الآية أعلاه ويرى كيف أنَّ العبرانيِّين يؤمنون بأنَّ الله هو المُوجِد للمادَّة التي يعبُدها اليونانيُّون. بيت القصيد من المفهوم التَّوراتي لقصَّة الخلق هو أنَّ الله هو المُوجِد للخليقة كلِّها، والصَّانِع المادَّة والمكان والوقت والتي هي عوامل لا يتأثَّر بها، وأنَّ له صفات يتفرَّد بها عن سائر المخلوقات.
مثال آخر من نَصّ إرميا 10 الذي كُتِبَ بجُملته بالعبريَّة ما عدا الآية 11 التي كُتِبت بالآراميَّة اللُّغة التي كان يتواصل بها الأشوريُّون آنذاك، وفيها أرادَ الكاتب توصيل رسالة جوهريَّة للأشوريِّين عن الفرق بين الإله الحقيقي والآلهة المزيَّفة، حيث قال لهم:
«وَهَذَا مَا تَقُولُونَهُ لَهُمْ: إِنَّ الآلِهَةَ الَّتِي لَمْ تَصْنَعِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ يَجِبُ أَنْ تُسْتَأْصَلَ مِنَ الأَرْضِ وَمِنْ تَحْتِ السَّمَاءِ».
الغرَض هنا هو أن يُظهر الله عبر النَّبي إرميا للأشوريِّين بلُغَتهم أنَّ مفهومهم عن الله خاطئ، حيث يفترِض الكاتب أزَليَّة الخالق وتعاليهِ عن خليقته، أي أنَّ الله لكي يكون إلهاً حقيقيّاً يجب أن يكون أزَليّاً، وأن يكون هو من أَوجَدَ السَّماوات والأرض، وأن يكون وجوده ليسَ عرَضيّاً أو معتمداً عليها كما كان يؤمن الأشوريِّين وغيرهم من الشُّعوب حولهم آنذاك. فالإله الغير أزَلي هو إله غير أبدي، وبكل تأكيد سيَفنى.
المفهوم التوراتي عن الله
كان لدى الإسرائيليِّين مفهوم حقيقي مُنقطِع النَّظير في تلك الأيَّام عن طبيعة الله وكَينونته، في حين كانت جميع الشُّعوب من حولهم تؤمن بعكس ذلك. النَّظرة الإلحاديَّة السَّائدة اليوم تُعرَف بالمادِّيَّة، إذ يقتصر الوُجود بحسب هذه النَّظرة على المادَّة، فلا وُجود لشيء اسمه روح أو ملائكة ولا حتَّى إله. لكن التَّفكير التَّحليلي المنطِقي يفترِض أنَّه لا بُدَّ من وجود إله (مُسبِّب لهذا الوُجود) ولا بُدَّ له أن يكون فوق كل ما هو مادِّي لكي يُوجِد الخليقة، ولا بُدَّ أن يكون عنده قُدرَة الوُجود بذاته (جوهر صافي دون أعراض). لكن السُّؤال الذي يطرح نفسه هو كيف أتى العبرانيُّون بهذا المفهوم المتقدِّم عن الله في تلك الحقبة التي سادَت فيها مفاهيم مختلفة مشابهة لبعضها عن الآلهة؟ مهما كان نظرتك للقصَّة التَّوراتيَّة، توضح لك هذه النُّقطة أنَّ هذا الشَّعب كان لديه معرفة لاهوتيَّة تفوق العصر الذي عاشَ فيه، ونحن نؤمن أنَّها معرفة لاهوتيَّة مصدَرها الله نفسه.
مهما كان نظرتك للقصَّة التَّوراتيَّة، توضح لك هذه النُّقطة أنَّ هذا الشَّعب كان لديه معرفة لاهوتيَّة تفوق العصر الذي عاشَ فيه
لا يقتصر المفهوم التَّوراتي على معرفة العبرانيِّين للضَّرورة المنطقيَّة الوحيدة لوُجود إله، بل أيضاً لغاية وُجود البشر والمخلوقات كلّها، فالآلهة بحسب الأساطير خَلقَت البشر لأنَّها تعتمد عليهم كي يُلَبُّوا احتياجاتها كونها عاجزة عن الاستمرار دونهم، حيث تُصوِّر لنا هذه الأساطير أنَّ للآلهة احتياجات كالطَّعام والمسكَن والملبَس، وقد خَلقت البشر لتلبية تلك الاحتياجات. كان من المتوقَّع من النَّاس أن يُدَلِّلوا الآلهة، التي بدورها ستوفِّر لهم الحماية كي يتمكَّنوا من الاستمرار في تلبية احتياجاتها.
في المقابل، يمتدّ مُلك “يهوه” الإله الحقيقي إلى جميع الأُمَم، ولكنَّه يتعلَّق أيضاً بشكل خاص ببني إسرائيل (لفترة محدَّدة) ويعمل ضمن إطار العهد معهم إلى أن يصِل لكل الأُمَم عبر المسيح. ومن خلال هذا العهد، فإنَّ الله يحمي شعبه بشرط إخلاصهم للعهد معه، وليس بشرط تلبيَتهم لاحتياجات مُفترَضة لديه كما حال العلاقة مع الآلهة الوثنيَّة والتي يسمِّيها عالِم العهد القديم جون والتون “علاقة التَّكافُل”. فالكتاب المقدَّس يُخبرنا أنَّ الله غير محتاج لخليقته، وأنَّ الخلق كان من أجل البشر وليس من أجله هو. تذكُر الأساطير أصل ونشأة الآلهة، لكن الكتاب المقدَّس لا يذكُر شيئًا محدَّداً عن طبيعة وُجود الله، في مثل هذه الحالة، بل يُعلِّم بشكل واضح أنَّ الله فريد (ليس هناك أحد مثل إلهنا).
يقول جون والتون: “إنَّ هدف البشريَّة جمعاء هو أن تكون في علاقة مع الله (ولهذا السَّبب خَلَقَنا)، ويتمّ تعريف هذه العلاقة بالشَّراكة بين الله والبشر، والتي تتمثَّل منذ البداية في مفهوم خلق الإنسان على صورة الله. وقد دخلَ بنو إسرائيل في شراكة مع الله من خلال المشاركة في العهد، أمَّا اليوم فأصبحَ المسيحيُّون شُرَكاء مع الله من خلال المشاركة في الملَكوت. وتتناقَض هذه الأفكار بشكل صارخ مع بيئة الشَّرق الأدنى القديمة ومع بيئتنا العلمانيَّة الحديثة. ففي الشَّرق الأدنى القديم، كان النَّاس مُجرَّد عبيد للآلهة، وفي البيئة العلمانيَّة الحديثة (Humanism) مُجرَّد عبيد لأنفسهم، لكن أولئك الذين في العهد وفي المسيح هم شعب الله، وأعضاء في ملَكوت الله، وقد مُنِحوا القداسة، ودُعوا بِاسمه، ولم يعودوا عبيداً. ولذلك فإن الأفكار المُثبَتة في العهد القديم تجد الاستمراريَّة مع تقدُّمها في لاهوت العهد الجديد.”²
النَّظرة التَّوراتيَّة تُجيب عن أعمق الأسئلة الوُجوديَّة التي لن أدخل في تفاصيلها الآن، بل سأتركُكم مع قول أغسطينوس: “لقد خَلقتَنا لكَ يا رب، ونُفوسنا لا تشعر بالسَّلام حتى تستقِرّ فيك.” ³
الكاتب: الأخ فرح
Minister & Theologian
- The Complete Works. Hesiod.
- Old Testament Theology for Christians: From Ancient Context to Enduring Belief. John H. Walton.
- Confessions. Augustine of Hippo.
مقالات مُشابِهة
من خلق الله؟
قصة الخلق
الله يخلق الرجل والمرأة