أحياناً نشعر بالغُبن إن تنازَلنا عن حقِّنا في سبيل أمرٍ ما، وأحياناً نتمسَّك بحقِّنا دون استعداد للتَّخلِّي عنه أبداً مهما كان الدَّافع لذلك. قد يقول البعض بأنَّ هذا هو التَّصرُّف الصَّحيح لأنَّ الحقّ لا يجب أن يتمّ التَّفريط به مهما كان الثَّمن. من النَّاحية البشريَّة يُعتبَر هذا الكلام صحيح، لكن إن ألقينا نظرة على الكتاب المقدَّس سوف نرى الكثير من الحالات التي تنازلَ فيها رِجالات الله عن حقِّهم من أجل بِناء الآخرين ومساعدتهم.
أحد رِجالات الله هؤلاء هو بولُس الرَّسول الذي كرَّس نفسه لخِدمة الرَّب، وكان من حقِّه الطَّبيعي أن يعيش على نفقة الرَّعيَّة التي يتفانى في خِدمتها. فخُدَّام الرَّب الذين يُخصِّصون أنفسهم وحياتهم في خدمة الله ونشر كلمته ورعاية مؤمنيه من حقِّهم بأن يعيشوا أيضاً على نفَقة هذه الخدمة.
“هَكَذَا أَيْضاً رَسَمَ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يُبَشِّرُونَ بِالإِنْجِيلِ أَنْ يَعِيشُوا مِنَ الإِنْجِيلِ.” (رسالة بولُس الأولى إلى أهل كورنثوس 14:9)
جميع الرُّسل كانوا يجمعون التَّقدمات (العطايا) من الكنائس لكي يتوفَّر لهم تسديد احتياجاتهم الجسديَّة، ومنهم بولُس الرَّسول الذي أسَّس كنيسة في مدينة تسالونيكي التي بشَّرَ فيها، ثمَّ اضطُّهِدَ وتألَّم هناك لأجل اسم المسيح (أعمال الرُّسل 1:17-9). لكن كان في مدينة تسالونيكي نزعة عند البعض للكسل وعدم العمل، أي كان لديهم تهاوناً في مسؤوليَّاتهم الزَّمنيَّة، وكان بولُس يريد أن يعلِّمهم درساً ليس بالقول فقط بل بالفعل أيضاً، لذلك أظهرَ لهم إيمانه بأعماله، فعملَ باجتهاد لتأمين لقمة عيشه واحتياجاته الجسديَّة وتنازلَ عن حقّه في الحصول على المال منهم لكي يشجِّعهم على العمل، وكان يُجاهد أيضاً لكي يقدِّم لمؤمني هذه الكنيسة كل مساعدة روحيَّة إذ كان يُواظب على رعايتهم، وَعظهِم، ومتابعة أحوالهم.
كان الأحرى ببولُس أن يتكرَّس للرِّعاية دون أن ينشغل بأُمور أُخرى كتأمين متطلَّبات الحياة، لكنَّه ضحَّى بحقِّه كي يعلِّمهم التَّضحية وكي يصبح لكلماته وَقعاً أقوى على مسامعهم وصدىً أعمق بسبب ما فعله حين كتب لهم في رسالته:
“وَلا أَكَلْنَا الْخُبْزَ مِنْ عِنْدِ أَحَدٍ مَجَّاناً، بَلْ كُنَّا نَشْتَغِلُ بِتَعَبٍ وَكَدٍّ لَيْلَ نَهَارَ، لِكَيْ لَا نَكُونَ عِبْئاً ثَقِيلاً عَلَى أَيِّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ. وَذَلِكَ لَا يَعْنِي أَنَّهُ لَيْسَ لَنَا حَقٌّ، بَلْ لِنَجْعَلَ أَنْفُسَنَا مِثَالاً لَكُمْ لِتَقْتَدُوا بِنَا.(رسالة بولُس الثانية إلى أهل تسالونيكي 8:3-9)
تعلَّم بولُس هذه التَّضحية من مُعلِّمه وسيِّده الرَّب يسوع المسيح الذي بدوره لم يُعلِّم عن التَّضحية بالقول فحسب بل قدَّم مثالاً عمليّاً يُحتذى به، وهذا المثال مُصوَّر بأبهى صورة في الآيات التالية:
“فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ أَيْضًا: الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً ِللهِ. لكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذًا صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِرًا فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. (رسالة بولُس إلى أهل فيلبِّي 5:2-8)
أمام ما فعله بولُس وأمام التَّضحية الكبرى التي بذَلها الرَّب يسوع من أجلنا قد نقف في بعض الأحيان عاجزين أمام تضحيات أقلّ منها بكثير، فإذا أساءَ لنا أخٌ قد نُقسِّي قلوبنا عن مسامحته، وإذا علِمنا عن ضيقة مادِّيَّة يمرّ بها أحد الإخوة المؤمنين قد نتغاضى عن مساعدته ولا نضحِّي ببعض أموالنا لسَدّ احتياجه أو حلّ مشكلته. لكن إذا ما أردنا أن نترك أثراً عميقاً في الآخرين من حولنا ونغيِّرهم للأفضل، فعلينا أن نقدِّم لهم مثالاً عمليّاً عن التَّضحية الحقيقيَّة ليس بالقول فقط بل بالفعل أيضاً مُتذكِّرين بأنَّ المسيح هو القدوة التي يجب أن نقتدي بها.
“… فَالْمَسِيحُ، الَّذِي تَأَلَّمَ لأَجْلِكُمْ، هُوَ الْقُدْوَةُ الَّتِي تَقْتَدُونَ بِهَا. فَسِيرُوا عَلَى آثَارِ خُطُوَاتِهِ” (رسالة بطرس الأولى 21:2)
مقالات مُشابِهة
أين ستقضي الأبدية؟
الطريق الوحيد
الرجاء المؤكَّد