بعد سنين من الغربة عادَ عابد إلى قريته وفي قلبه نيَّة لبناء بيت لله فيها، لكن أحد شيوخ القرية نصحَهُ بغير ذلك، فهل أخذ عابد بتلك النَّصيحة؟
في إحدى القرى الموضوعة على كتف أحد الجبال الشَّاهقة العلُوّ، عادَ عابد من المهجر وهو أحد أبناء هذه القرية الذي تغرَّب لسنواتٍ طوال. كان فقيراً حين هاجر، لكنَّه عادَ الآن مُتخماً بالنُّقود ومُحمَّلاً بالهدايا لأهله وأقربائه. وبعد الاحتفال برجوعه، وبعد أن نفضَ عن جسده مشقَّة الغربة وتعب رحلة السَّفر، جمعَ كل سكَّان القرية وأخبرَهم عن نيَّتهِ في بناء بيت لله تعبيراً عن شُكره له على التَّوفيق الذي حَباهُ به في الغربة.
وقال لهم: سيكون معبَداً لا مثيل له، فقريَتنا تفتقِر لمعبَد يسُرّ النَّاظرين، معبَد يليق بمكانة هذه القرية، وقُربها من السَّماء سيجعل هذا المعبَد أقرب للخالق، وبذلك سيكون الله أيضاً أكثر قُرباً منَّا.
حوار غيّر القرار
تقدَّم أحد الشُّيوخ الذي أحنَت السَّنوات ظهرهُ وأنهكتهُ مصاعب الحياة، لكنَّ قسوة الأيَّام لم تبخل عليه بالحكمة، فاقترب من عابد وقال له: اسمع يا بُنيّ، ما أكثرهم في هذه القرية من هم بحاجة إلى ترميم بيوتهم، فالشِّتاء القادم لن يرحم أحد خاصَّةً من ينقصهم شراء الحطب للتَّدفئة، وما أكثرهم الشَّباب الذين يتمنَّون الزَّواج لكن لا حولَ لهم ولا قوَّة بسبب فقرهم.
حينها تملَّكت الحيرة عابد وراح يقارن في ذهنه بين بناء بيت لله وبين مساعدة الفقراء، فقال لنفسه: أليس الله أهم من كل النَّاس؟ ثمَّ استطردَ الشَّيخ كلامه قاطعاً على عابد استنتاجاته وقائلاً له: أمَّا المرضى يا بُنيّ فحَدِّث ولا حرَج، وهم بأمَسّ الحاجة إلى مساعدتك المادِّيَّة، وتذكَّر أنَّ الله أكرمكَ وأغناك ليس من أجلهِ هو بل من أجل هؤلاء المساكين، فالله ليس بحاجة لمعابد من حجَر سواء كانت متواضعة أم فخمة مطليَّة بالذَّهب، بل هو يريد معابد حيَّة لأرواح مُنكسِرة وقلوب خاشعة مستعدَّة لطاعة مشيئته، ومشيئته أن تعكس صورته ومحبَّته بين النَّاس.
كان عابد آنذاك مصغياً للكلام، فتابع العجوز كلامه وقال: أنا لا أُقلِّل من أهميَّة بناء مكان يجتمع فيه المؤمنون للعبادة، لكنَّ الله لن يُسَرّ بالذَّبائح بقدر ما سَيُسَرّ بقلوب تشعر بالآخرين، وترحم من هم بحاجة للرَّحمة، فبيت الرَّب الحقيقي هو قلب كل مؤمن أمين.
حينها شعرَ عابد وكأنَّ قوَّة تلمس قلبهُ وشُعلة تُنير ذهنه، واستطاع أن يفهم فِكر هذا الشَّيخ ويرى الحقائق من وجهة نظره. وهكذا كرَّسَ عابد كل المال الذي كان يريد استخدامه في بناء المعبد وحوَّلَهُ لمساعدة كل محتاج، وبهذه الحالة تجلَّى حضور الرَّب في القرية بضحكات المساكين، وتسديد احتياجات الفقراء والمحتاجين.
العبرة
من المهم بناء دُور للعبادة كي يجتمع فيها المؤمنون ويتشاركون إيمانهم فيما بينهم، لكن الأهمّ أن تكون هذه العبادة حيَّة وفعَّالة تعكس صورة الخالق المُحِبّ للخلق أجمعين، فالله لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيادي بل في هياكل حيَّة.
“إِنِّي أَطْلُبُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، وَمَعْرِفَتِي أَكْثَرَ مِنَ الْمُحْرَقَاتِ.” (سِفر هوشع 6:6)
مقالات مُشابِهة
الحقل الملآن
عدالة السماء
قصة سارة