البِرّ هو الصَّلاح، والإنسان البارّ هو الإنسان الصَّالِح الذي يحيا حياة الصَّلاح المُطلَق بحسب المعايير الإلهيَّة لهذا الصَّلاح، ومعنى ذلك أنَّ البارّ هو الذي لا يرتكب الذُّنوب، ولا يفعل خطيئة، ويعيش حياة الكَمال على الأرض. لكن وبحسب هذه المعايير، لا يوجد إنسان بارّ على وجه الأرض، لأنَّنا كبشر جميعنا خُطاة وجميعنا وَرِثنا الخطيئة عن آدَم وحوَّاء، إذاً وبناءً على ذلك فإنَّ صِفة “البارّ” لا يمكن أن تُطلَق على أيّ إنسان مهما بلغَ تديُّنه. يقول بولُس الرَّسول مقتبساً آيات من سِفر النَّبي إشعياء والمزامير:
“كَمَا قَدْ كُتِبَ: «لَيْسَ بَارٌّ، وَلاَ وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يُدْرِكُ. لَيْسَ مَنْ يَبْحَثُ عَنِ اللهِ. جَمِيعُ النَّاسِ قَدْ ضَلُّوا، وَصَارُوا كُلُّهُمْ بِلاَ نَفْعٍ. لَيْسَ مَنْ يُمَارِسُ الصَّلاَحَ، لاَ وَلاَ وَاحِدٌ.” (رسالة بولُس الرَّسول إلى أهل روما 10:3-12)
البر الذاتي
قد تظُنّ بأنَّك صالِح، وتشعُر بالبِرّ الذَّاتي كَونك تُصلِّي وتصوم وتُمارس كل الطُّقوس الدِّينيَّة والفرائض المفروضة عليك، لكن لو دقَّقت في حياتك جيِّداً وفحصتَ قلبك وأفكارك بكل صدق وشفافيَّة وأدركتَ بأنَّك ستقف يوماً أمام الله الدَّيَّان الذي يعلَم خفايا الصُّدور، وستُحاسَب أمامه على كل كبيرة وصغيرة فعَلتها في حياتك، حينها ستعرف بأنَّ اعتقادك بصَلاحِك ما هو إلَّا شُعور زائف يوهِمك به إبليس، وستستنتِج بأنَّك لستَ بارّاً بحسب معايير الله ولستَ مؤهَّلاً للدُّخول إلى ملَكوته وجنَّته. يقول المسيح:
“أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: كُلُّ مَنْ يَغْضَبُ عَلَى أَخِيهِ، يَسْتَحِقُّ الْمُحَاكَمَةَ؛ وَمَنْ يَقُولُ لأَخِيهِ: يَاتَافِهُ! يَسْتَحِقُّ الْمُثُولَ أَمَامَ الْمَجْلِسِ الأَعْلَى؛ وَمَنْ يَقُولُ: يَاأَحْمَقُ! يَسْتَحِقُّ نَارَ جَهَنَّمَ!” (إنجيل متَّى 22:5)
هكذا كان حال الكَتَبة والفرِّيسيِّين في أيَّام المسيح، فهم كانوا في أعيُن أنفسهم أبراراً وصالِحين أكثر من غيرهم، وكانوا ينظرون إلى الآخرين بنظرة فوقيَّة لأنَّهم يظنُّون بأنَّهم أفضل منهم، وأنَّهم يُطيعون الله ويكرِّسون حياتهم له فقط، لذلك كانوا يشكُرون الله على أنفسهم ويعتقدون أنَّ لهم الحقّ بأن يفتخروا على غيرهم بتديُّنهم والتِزامهم. لكنَّ المسيح حين رأى تصرُّفاتهم وعَلِمَ ما في قلوبهم، وبَّخهُم أشَدّ توبيخ ناعتاً إيَّاهم بأوصاف لم يتخيَّلوها أبداً عن أنفسهم:
“الْوَيْلُ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُنَافِقُونَ! فَإِنَّكُمْ كَالْقُبُورِ الْمُبَيَّضَةِ: تَبْدُو جَمِيلَةً مِنَ الْخَارِجِ، وَلَكِنَّهَا مِنَ الدَّاخِلِ مُمْتَلِئَةٌ بِعِظَامِ الْمَوْتَى وَكُلِّ نَجَاسَةٍ! كَذَلِكَ أَنْتُمْ أَيْضاً، تَبْدُونَ لِلنَّاسِ صَالِحِينَ، وَلَكِنَّكُمْ مِنَ الدَّاخِلِ مُمْتَلِئُونَ بِالنِّفَاقِ وَالْفِسْقِ!” (إنجيل متَّى 27:23-28)
كيف نتبرر إذاً؟
وبما أنَّ أحداً لا يستطيع أن يتبرَّر بأعماله الشَّخصيَّة أمام الله، إذاً نحن جميعاً محكوم علينا بالدَّينونة الإلهيَّة العادلة لأنَّنا لسنا أبراراً ولا نستطيع أن نفعل الصَّلاح. هذه هي الحقيقة، لكنَّ الله أحبَّنا وأرادَ أن يعطينا برَّه الكامل إن اتَّكلنا عليه وآمنَّا بما سيفعله من أجلنا، لذلك أرسلَ إلى أرضنا إنساناً كاملاً عاشَ حياة الصَّلاح والبِرّ المُطلَق دون أن يرتكب خطيئة. قد تسأل نفسك كيف يكون ذلك إن كان ما من أحدٍ بارّ سِوى الله بنفسه؟ سأُجيبك، نَعم، فهذا الإنسان الكامل هو الله بنفسه، الذي أخلى مجدهُ وتنازلَ من عليائه وظهرَ في الجسد كي يُنقذنا من الدَّينونة الأبديَّة، ويموت عوَضاً عنَّا على عود الصَّليب حاملاً كل ذُنوبنا التي كنَّا سنواجه بها الله بأنفسنا، ومُعطياً لنا بِرَّه الإلهي الكامل.
“لأَنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيئَةِ هِيَ الْمَوْتُ، وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا.” (رسالة بولُس الرَّسول إلى أهل روما 23:6)
إذاً وبناءً على ما سبَق، فإنَّ كل من يؤمن بالمسيح وبعملهِ الذي صنعهُ من أجلنا، يُصبح بارّاً أمام العدالة الإلهيَّة بفضل بِرّ المسيح، لكن هذا لا يعني أنَّ المؤمن المُبرَّر يجب أن يعيش حياة لا تمجِّد الله، بل العكس تماماً، فنحن مُطالَبون بأن نحيا حياة البِرّ العمليَّة أي أن نُطبِّق وصايا الله ونعيش مُتمثِّلين بالمسيح، ليس كي نتبرَّر أمام الله، بل كي نعكس صورته أمام الجميع كعُربون شُكر وامتنان له على ما فعلهُ من أجلنا.
“فَمِثْلَمَا قَبِلْتُمُ الْمَسِيحَ يَسُوعَ الرَّبَّ، فَفِيهِ اسْلُكُوا” (رسالة بولُس الرَّسول إلى أهل كولوسّي 6:2)
المسيح قادر أن يبررك الآن
وأخيراً، ليست الخطايا باللِّباس الفاضح أو ارتكاب الزِّنى والأفكار الشِّرِّيرة والشَّهوات الرَّديئة فقط، بل أيضاً اقتناعك بأنَّك صالِح واتِّكالك على بِرِّكَ الذَّاتي هو خطيئة كُبرى ونُكران لحاجتك إلى نعمة الله وخلاصه، لأنَّك بذلك تستهين بعمل الله وتتَّكِل على نفسك وعلى أعمالك كي تحظى برضاه وتدخُل إلى جنَّته، لكنَّ أعمالك نفسها التي تتَّكِل عليها هي التي سوف تُدينك أمام الله وتقف حاجزاً بينك وبينه، لأنَّ الشَّريعة والفرائض أُعطيت لنا كي نعرف حجمنا ونُدرِك عجزنا وضعفنا وحاجتنا إلى مُخَلِّص يُكمل نقصَنا ويُدخلنا إلى ملكوت الله بفضل برِّه وعملِه هو، لا بفضل أعمالنا:
“أَمَّا الآنَ، فَقَدْ أُعْلِنَ الْبِرُّ الَّذِي يَمْنَحُهُ اللهُ، مُسْتَقِلاً عَنِ الشَّرِيعَةِ، وَمَشْهُوداً لَهُ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَالأَنْبِيَاءِ، ذَلِكَ الْبِرُّ الَّذِي يَمْنَحُهُ اللهُ عَلَى أَسَاسِ الإِيمَانِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ. إِذْ لاَ فَرْقَ، لأَنَّ الْجَمِيعَ قَدْ أَخْطَأُوا وَهُمْ عَاجِزُونَ عَنْ بُلُوغِ مَا يُمَجِّدُ اللهَ. فَهُمْ يُبَرَّرُونَ مَجَّاناً، بِنِعْمَتِهِ، بِالْفِدَاءِ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ الَّذِي قَدَّمَهُ اللهُ كَفَّارَةً، عَنْ طَرِيقِ الإِيمَانِ، وَذَلِكَ بِدَمِهِ.” (رسالة بولُس الرَّسول إلى أهل روما 21:3-25)
مقالات مُشابِهة
غاية التضحية
أهمية الصلاة
الرجاء المؤكَّد