مُعظَمنا أو رُبَّما جَميعنا غَير راضٍ عن الحال التي يَمُرّ بِها، كُلُّنا نَتمَنّى أن تتغيَّر ظُروفنا للأفضَل. لكن قد تكونينَ أنتِ مُتَضايِقة مِن أحَد أفراد عائلتكِ، أو تَشعُرينَ بأنَّكِ مَظلومَة، مُضطَّهَدة، أو مَضغوطَة بسبَب ظَروف عَمَلك التي لا تُحتَمَل، أو تَطمَحينَ لتَغيير المَكان الذي تَقطُنينَ فيه أو تَحلُمينَ بالسَّفَر من أجل تأمين حَياة أفضَل. فكلٌّ مِنّا لدَيهِ مَشاكِلهُ التي يتكبَّدُها ويُريد بشِدَّة أن يتخَلَّص مِنها. وأحياناً نرى أنَّ مُشكِلتنا هي من أصعَب المَشاكل في هذهِ الحَياة، ونكاد نَجزم أنَّنا لو تَخَلَّصنا مِنها سَنستَطيع تَحقيق الرَّاحة والسَّعادة في حَياتِنا.
صَحيحٌ أنَّ الصُّعوبات التي نُواجِهها في حَياتِنا هي مَعوقات حَقيقيَّة للكَثير من الأُمور الإيجابيَّة التي نَحلُم بِها، لكِن علينا أن نَنظُر لها من ناحِية أُخرى. فمَثلاً فَكِّري بأهَمِّيَّة طَرح السُّؤال عن سَبَب وُجود ما تُواجهينهُ في حَياتِكِ، فغالِباً ما نُلقي بِاللَّوم على الله الذي يسمَح بِحُدوث أُمور لا نَرغَب بِها، لكِن اسألي نَفسكِ ما قَصد الله من كُل ما يَجري مَعكِ؟ فحَقيقَة الأمر أن الصِّعاب التي نُواجِهها هي جُزء من مُخَطَّط الله لحَياتِنا، وإهمالنا لهذه الحَقيقَة وتَركيزنا على الظَّرف الرَّاهِن، يجعلنا لا نُدرِك كيف أنَّ الرَّب سَيستَخدِم ما نَمُرّ بهِ من ضيقات ليُقَوِّينا ويُشَدِّدنا، ويُحَوِّل ما نَحنُ فيهِ لفائِدة الآخرينَ أيضاً.
يُخبِرنا الكِتاب المُقدَّس عن فَتاة واجَهَت أسوَأ ظَرف مُمكِن لِأُنثى أن تُواجِهُه، فهيَ كانَت سَبِيَّة أي (غَنيمَةَ حَرب).
تخَيَّلي مَعي فَتاةً مَفجوعةً، قُتِلَت أُسرتها بالسَّيف في الحَرب، وعلى الأغلَب تَمَّ ذلكَ أمامَ عَينَيها، قاسَت أكثَر مِمَّا يُمكِن لإنسان أن يتحمَّلهُ، فواقع حالها لا يسمَح أن تُصَدِّق ما تَراه، لأنَّ الخَوف والرُّعب الذي شَعَرت بهِ عِندَ مَوتِ أحِبَّائِها بِطَريقة وَحشِيَّة من عَدُوٍّ لا يَرحَم أمرٌ لا يُحتَمَل، وعَجزِها عن القِيام بأيِّ شيء يَمنَع وُقوع تِلكَ الجَريمة قد يكون جعلها تَتمَنَّى لو كانَ ذلكَ حُلُماً أو كابوساً بَشِعاً تُريد أن تَستَيقِظ مِنهُ.
لكنَّهُ للأسَف لم يَكُن كذلك. فالشَّمس لم تُشرِق بَعد، وقبلَ أن تَتَدارَك ما حَصَل، أخَذَها الجُنود كَسَبِيَّة إلى قائِدِهم. لا شَكَّ أنَّها كانَت فتاة حَسَنة المَظهَر، حتّى استَحيوها ولم يَقتُلوها، ودونَ أدنى شَك كانَت تَتمَنَّى المَوت، لكِن رُبَّما هذا ما يُسَمَّى بِلَعنَة الجَمال.
لم يَتَسَنَّى لها دَفن أبَوَيها فهيَ لن تَراهُم بعدَ اليَوم. لِأنَّ جُثَثهُم تُرِكَت طَعاماً للنُّسور، وكُل ذَنبهُم أنَّهُم تَواجَدوا في المَكان والزَّمان الخَطَأ. لم تَستَفِق بَعد من صَدمَتها، لكن تَرى نفسَها الآن أمامَ رَجُل غَريب عَنها، وعن عاطِفَة أبيها وحَنانِ أُمِّها. واقِعٌ جَديدٌ لا تَستَطيع تَغييره، وقد يراها هذا الرَّجُل أداةً ليُشبِع بِها رَغَباتِهِ، أو وَسيلةً لتَلبِيَة احتِياجاتهِ، فهذا ما كانَ يحصُلُ عادَةً بالسَّبايا.
الفَتاة التي كانَت تُخدَم مِمَّن أحبُّوها وأحبَّتهُم، تَستَيقِظ بينَ لَيلةٍ وضُحاها على واقِعٍ تَخدِم فيهِ في بيتِ أُناسٍ غُرَباء لم تألَف عِشرَتهُم ولم تَستَهوِ مَحضَرَهُم. هذهِ الحادثِة ليسَت مِن نَسجِ الخَيال، فَكَم من فتاةٍ وإمرأة عاشَت مِثل تِلكَ المُعاناة وتَجَرَّعَت مُر هذا الكَأس.
هذهِ الصَّبِيَّة التي يُخبِرنا عنها الكِتاب المُقَدَّس تَخدِم بينَ يَدَيّ زَوجَة نُعمان السِّرياني رَئيس جَيش مَلِك آرام، هذا القائِد الذي كانَ مُكَرَّماً عِندَ المَلِك لأنَّهُ أحرَزَ لَهُ انتِصاراتٍ عَسكَرِيةٍ عِدَّة. يَصِفُهُ لنا الكِتاب المُقَدَّس بأنَّهُ جَبَّارَ بَأس، لكِنَّهُ كانَ أبرَص، والبَرَص في تِلكَ الأيَّام كانَ منَ الأمراض التي لا عِلاجَ لها أبَداً. لكِن الشَّيء العَجيب في الأمر هو ما قالتهُ هذهِ الفتاة السَّبِيَّة لِمَولاتِها :”…يَا لَيْتَ سَيِّدِي يَمْثُلُ أَمَامَ النَّبِيِّ الَّذِي فِي السَّامِرَةِ، فَيَنَالَ الشِّفَاءَ مِنْ بَرَصِه”. (سِفر المُلوك الثّاني 5: 3).
اقتَرَحَت على سَيِّدِها طَريقةً للشِّفاء، فإيمانَها القَويم بالرَّب إلهِها الذي تَعلَّمَتهُ من أبَوَيها مُنذُ صِغَرِها جَعَلَها تَثِق بأنَّ الحَلَّ لأيِّ مُشكِلة يكون فقَط عن طَريق الإله الحَقيقي، وعلى يَد خادِمهِ النَّبي أليشَع الذي كانَ مَوجوداً في ذلكَ الوَقت. نُعمان السِّريانيّ هذا كانَ ذائِع الصِّيت ولَهُ منَ المُمتَلَكات الأرضِيَّة والخَدَم والقُوَّة العَسكَرِيَّة ما يَتَمنَّاهُ أيُّ رَجُلٍ آخَر، لكن ما كانَ يَنقُصهُ هو الأهَمّ (حَياتهُ الرُّوحِيَّة) فهو لم يَكُن من شَعب الرَّب. “لأنَّهُ ماذا ينتَفِعُ الإنسانُ لَو رَبِحَ العالَمَ كُلَّهُ وخَسِرَ نَفْسَهُ؟”. (إنجيل مَرقُس 8: 36)
أمَّا تِلكَ الشَّابَّة، فلم تَكُن تَملِك شَيئاً مادِّيَّاً، بل هيَ كانَت جُزءاً من مُمتَلَكات سَيِّدها نُعمان، لكن في نَفس الوَقت كانَ لدَيها كُل شَيء لأنَّها تَعبُد الإله الحَقيقي وتَثِق بِمُخَطَّطِهِ لحَياتِها مَهما بَدا هذا المُخَطَّط صَعباً عليها. في حين أنَّ المَنطِق البَشَري يقول أنَّها كانَ عليها أن تَضمُرَ الشَّر لنُعمان ولعائِلَتهِ، وتَستَغِل أوَّل فُرصَة لأذِيَّتِهِم والانتِقامِ مِنهُم.
لكِنَّها على العَكس تَماماً، رَأت الأمرَ مِن مِنظارٍ إلهيٍّ ووَضَعَت نَصبَ أعيُنَها شَوقَها لخَلاصِ النُّفوس عَبر مَعرِفَتِهِم للإله الحَقيقي، وهذا تَماماً ما حَصَلَ مع نُعمان بعدَ سَماعِهِ لنَصيحَتها وشِفائِهِ على يَد النَّبِيّ الذي دَلَّتهُ هيَ عليه. فُممتَلَكاتهُ المادِّيَّة وسُلطَتهُ الأرضِيَّة لم تَجلِب لَهُ السَّعادة الحَقيقِيَّة، لأنَّ المَرَض كانَ يأكُل جَسدَهُ يَوماً بعدَ يَوم، ولأنَّ حَياتَهُ الرُّوحِيَّة كانَت بَعيدة كُل البُعد عن الله. أمَّا الشَّابَّة التي في بَيتِهِ فكانَت تَشعُرُ بِسَلامٍ يَملأُ قَلبها ويُبَلسِم جِراحَها على الرُّغم من كُل ما مَرَّت بِهِ لثِقَتِها في حِكمَة إلهِها وقُدرَتِهِ على تَحويل اللَّعنة إلى بَرَكة.
هذهِ الصَّبِيَّة الصَّغيرة كانَت امَرأةً في الثَّغَر، لم تَسمَح لِظُروفِها بإعاقَتِها عن تَتميم مُخَطَّط الله لحَياتِها، ولم يُثنِها الألَم الذي عانَتهُ عن فَهم مَشيئة الله الصَّالِحَة دَوماً، بل كانَت بَرَكة لِكُل مَن حَولَها. إذاً مَهما كانَت الحَالة التي تَعيشينَها صَعبَة، ومَهما كانَ وَضعُكِ سَيِّء، لا تَدَعي الظُّروف تَمنَعكِ عن فَهم مُخَطَّط الله لحَياتِكِ، وتُثنيكي عن مَعرِفَة ماذا يُريد الله أن يَصنَع مِنكِ في كُل ما تَمُرِّينَ بِهِ، وما الذي يُريد أن يُعَلِّمكِ إيَّاه، والأهَمّ مِن ذلك كَيفَ سَيستَخدِمكِ ويَجعَلكِ بَرَكة في حَياة الآخَرين، وكَيفَ سَيَجعَل مِنك المَرأة التي تَقِف في الثَّغَر.
مقالات مُشابِهة
ما هي مكانة المرأة في المسيحيّة؟
ماذا يُعلِّم الكتاب المقدس عن الحشمة؟