لا تؤجِّل اهتمامك بأحبَّائك لئلَّا يُداهمك الوقت وتُضيِّع الفُرصة عليك، ولا تقطع وُعوداً مع أحد إن كنتَ لا تستطيع أن تَفي بها، فقُلوب الآخرين ليسَت لُعبة بين يديك.
عاشَت مُنتهى حياتها باذِلَةً نفسها أمام أهلها وعائلتها الصَّغيرة وعائلة زوجها، وكانت مصدَر بهجة وسُرور حيثُما حلَّت بابتسامتها الدَّائمة وخِدمَتها الغير مشروطة وطعامها اللَّذيذ.
خدمَت أهلها وأهل زوجها في شيخوختهم من كل قلبها ولم تتوانَ عن خِدمة زوجها الذي أصابهُ مرَض عُضال وهو في الخمسين من عُمره، وبقيَت بجانبه ولم تتركهُ لحظة إلى أن انتقلَ إلى دُنيا الحقّ.
اهتمَّت بأولاد ابنتها إلى أن قرَّرت ابنتها الوحيدة السَّفر بداعي العمل مع زوجها وأطفالها، وبقيَت مُنتهى وحيدة في منزلها إلى أن قرَّر ولَدها الانتقال للعيش معها هو وزوجته بحُجَّة غلاء المعيشة وتوفير الإيجار الذي يزداد عليه بشكل دائم. فاستقبلَت وحيدها بكُل رَحابة صدر لأنَّه كان هو وأُختهُ كل حياتها وفخرها في هذه الدُّنيا.
ومع مرور الأيَّام لاحظت مُنتهى أنَّ كنَّتها تتضايق وتنزعج منها، وبعد أن صلَّت كثيراً كي تتَّخِذ القرار المُناسب، قرَّرت أن تترُك منزلها لِابنها وزوجته وأن تنتقل هي للعيش في دار لرعاية المُسنِّين، وقالت لنفسها بأنَّها ما دامت نشيطة وبكامل صِحَّتها فسوف تعتني بالمُسنِّين هُناك وتطبُخ لهم الطَّعام. انتقلت للعيش في دار المُسنِّين وكانَ كل ما ترجوهُ وتنتظرهُ هو مُكالمة من ابنتها أو زيارة من ابنها.
ويستمر الانتظار
كانَ يوماً ليس كباقي الأيَّام بل هو اليوم المَوعود بالنِّسبة لمُنتهى فهي سوف ترى ابنتها اليوم بعد غيابٍ دامَ لمدَّة خمس سنوات، لذلك استفاقت باكراً ومشَّطت شعرها المُتمِّوج بالبَياض ولفَّتهُ جدائِل وهي تبتسم وتتذكَّر كيف كانت تجدل شعر ابنتها حين كانت صغيرة.
كانت تعُدّ الدَّقائق والثَّواني في انتظار أن تُكحِّل عيونها برؤية ابنها وابنتها. ابتدأ الوقت يمُرّ لكنَّ أبناءها لم يصِلوا بعد، فجلسَت تحت شجرة الجَوز في الحديقة وهي شجرة عملاقة كانت مُنتهى تجلِس تحت ظِلّها كل يوم وتُخبرها عن شُجونها ومَخاوفها، وراحت تُخبر الشَّجرة عن مدى اشتياقها وتلهُّفها لرؤية أحفادها وولديها.
قاربَت الشَّمس على الغُروب لكنَّ أحداً لم يصِل، وفجأةً رأت رئيسة الدَّار تقترب منها وتُسلِّمها رسالة وعُلبة صغيرة وتقول لها أنَّ أحدهم أوصلَ هذه الأغراض ورحَل. أمسكَت مُنتهى بالرِّسالة وفتحتها لتقرأ ما بداخلها فرأت خَطّ ابنتها التي تُخبرها بأسَفِها لأنَّها لم تستطِع أن تَفي بوعدها وتأتي لرؤية والدتها، فزوجها قد ألغى سَفرهُم لهذا البلد هذه السَّنة وقرَّر أن يُسافِروا لبلدٍ آخر، وأخبرتها أيضاً بأنَّها تشتاق لها كثيراً ووَعدَتها بالقُدوم لرؤيتها في السَّنة القادمة.
فتحت مُنتهى العُلبة المُرفَقة مع الرِّسالة فوجدَت سِلسلة ذهبيَّة تحمل قلباً كُتِبَ فيه “أُمّي”، شعرَت بخيبة الأمَل فأمسكَت بهاتفها واتَّصلت بِابنها، وما أن ردَّ عليها حتَّى راحَ يقول: أعتذر يا أُمّي لأنَّني لم أتمكَّن من الحُضور اليوم كما وَعدتُّكِ، فكما تعلمين أُختي لم تستطع المجيء، وأنا لن أقدِر أن آتي لأنَّ شقيقة زوجتي أتَت لزيارتنا مع عائلتها، لكن هديَّتكِ موجودة وسوفَ أرى الوقت الذي أستطيع فيه المجيء إليكِ لتسليمكِ إيَّاها.
أغلقَت هاتفها واغرَورَقت عيناها بالدُّموع وراحت تشكي للشَّجرة بصوتٍ خَفيضٍ وتقول: نعم، إنَّه يوم عيد الأُمَّهات، لكنَّني لا أُريدُ هدايا ولا ذَهب، أنا فقط أُريد رؤية ولدَيَّ وأحفادي، أُريدُ أن أُعانِقهم وأَشُمّ رائحتهم.
مرَّ الوقت ولم ينتبه أحد من الموجودين أنَّ مُنتهى لم تدخُل إلى الدَّار، لكنَّهم لاحَظوا غيابها في الصَّباح التَّالي حينَ لم يرَوها في المطبخ كعادتها، فأسرَعوا يبحثون عنها وحينَ لم يجِدوها في غُرفتها خرَجوا إلى الحديقة ليرَوا إن كانت هُناك، فوَجدوها مُستلقِية تحت شجرة الجَوز جُثَّة هامِدة وفي يديها القِلادة الذَّهبيَّة والرِّسالة.
حزِنوا عليها جميعهم لأنَّها كانت إنسانة رقيقة حسَّاسة ومُحِبَّة للجميع، ودفَنوها تحت شجرة الجَوز لأنَّهم يعلمون كم كانت تُحبّها وتعتني بها. وبعد أيَّامٍ قليلة وقفت رئيسة الدَّار أمام شجرة الجَوز فوجدتها يابِسة ميِّتة، فهزَّت الرَّئيسة رأسها بحُزنٍ وقالت في تنهُّد: حتَّى الشَّجرة قد شاركتكِ حُزنكِ يا مُنتهى ولحِقَت بكِ كي لا تترُككِ وحيدة.
العبرة
لا يُدرِك الإنسان قيمة الوعد الذي يقطعهُ حين يخلِف به، فلو أنَّ ابنتها لم تعِدها بالقُدوم لكانَت مُنتهى حارَبت أكثر لانتظارها مثلما انتظرتها لمدَّة خمس سنوات، لكنَّ خيبَة أملها وانكِسار خاطِرها في ذلك اليوم منعاها من التَّحمُّل أكثر.
ما أكثرها المرَّات التي يعِدنا فيها النَّاس ويخلِفونَ بوُعودهم، لكنَّ الرَّب وعدهُ وحدهُ هو الصَّادِق في وعودهِ والأمين في كلامه، فلنتشدَّد ولنتشجَّع ولننتظِر الرَّب ولنضَع ثِقتنا فقط في مواعيده.
“اِنْتِظَارًا ٱنْتَظَرْتُ ٱلرَّبَّ، فَمَالَ إِلَيَّ وَسَمِعَ صُرَاخِي،” (مزمور 1:140) AVD