يُحاول المُشكِّكون ربط نُصوص مُختلفة من نِتاج شُعوب الشَّرق الأدنى القَديمة بالتَّوراة، في مُحاوَلة لجعل التَّوارة مُجرَّد أُسطورة كما غيرها من نُصوص الدِّيانات الغابِرة، لكن بعد دراسة أعمَق يتبيَّن لنا تمايُز التَّوراة وسُموّها بكل التَّعاليم إذا ما قورِنَت بتعاليم الحضارات الوَثنيَّة، وأنَّ كل التَّشابُهات هي عرَضيَّة لا بل طبيعيَّة نظراً لارتباط البيئات جُغرافيّاً، وهذا التَّشابُه لا يؤثِّر على وَحي التَّوراة كما سيُظهر هذا المقال الذي سنتناول فيه أبرز الفَوارِق بين نَصّ حَمورابي ونَصّ التَّوراة.
خلال عمليَّات تنقيب في إيران عام 1901 تمَّ اكتشاف نصب حجري منقوش عليه 282 تشريع قانوني لحَمورابي الذي هو أحد الملوك البابليِّين في القرن السَّابع عشر قبل الميلاد، وقد عاش مئات السِّنين قبل ولادة النَّبي موسى وتدوينه للتَّوراة. وإذا ما قارَنَّا بين نَصّ حَمورابي وبين بعض الأحكام في التَّوراة نجد تشابُهاً، ومن الطَّبيعي أن تُطرَح بعض التَّساؤلات مثل: هل استَوحى موسى بعض الأحكام من الذين كانوا قبله؟ وكيف يمكن أن يكون الوَحي الإلهي وَحياً وهو مُستَقى من نُصوص سَبقته؟
صحيحٌ أنَّنا في الظَّاهر سنُلاحظ بعض الأُمور المُتشابهة لكن إذا ما دقَّقنا في النَّصَّين سنجد أنَّهُ يوجد اختلاف بينهما أكثر بكثير من وجود التَّشابُه، وإذا فهمنا البيئة التي أنتجَت تلك النُّصوص سنجد أنَّه من الطَّبيعي أن تتشابَه الأحكام المدنيَّة بين ثَقافَتين مُتقارِبَتين جُغرافيّاً وزَمنيّاً، وأنَّ الرَّب قد يستخدم أُموراً مُتعارَف عليها في تلك الثَّقافة، فيُثني عليها ويسمو بها.
من الطَّبيعي أن تتشابَه الأحكام المدنيَّة بين ثَقافَتين مُتقارِبَتين جُغرافيّاً وزَمنيّاً
هل تسلَّم حمورابي الشريعة من إلهه؟
يُصوِّر لنا النَّقش الموجود أعلى النَّصب الحجري (إله العدالة شاماش) جالساً على عَرشهِ وحَمورابي مُقابِلهُ يتسلَّم منهُ صَولَجان، وقد ظَنَّ العُلَماء في البداية أنَّ هذا الصَّولَجان يحتوي على نَصّ الشَّريعة المُدوَّنة أسفل الصُّورة ليكون أنَّ حَمورابي أخذَ التَّشريعات من إلههِ كما فعل موسى.
لكن بعد دراسة أعمق اكتَشف العُلَماء أنَّ حَمورابي هو من يُسلِّم النَّص للإله وليس العكس وهذا تؤكِّدهُ النُّقوش الأُخرى لنفس الإله، يُعلِّق على ذلك العالِم جون والتون بالقول: “مع اكتشاف المزيد من المعلومات حول شاماش يتبيَّن لنا أنَّ الصَّولَجان المُسَلَّم إلى حَمورابي ليس لهُ علاقة بسَنّ القوانين، ولا يُقصَد به تسليم قوانين موحى بها، ولا تسليم السُّلطة لتشريع القوانين، بل إنَّهُ فقط يرمز إلى سُلطَة الإله نفسه التي يُظهرها على شكل صَولَجان وليس أنَّهُ يُسلِّمهُ لحَمورابي.”¹ توصَّل العُلَماء إلى هذا الاستنتاج بعد دراسَة كل النُّقوش التي يَظهر بها شاماش، إذ تظهر رُسومات أُخرى فيها الإله نفسه مع نفس الصَّولَجان لكن دون وجود حَمورابي لاستِلامه.
هذا يوضح لنا أبرز اختلاف، أنَّ حَمورابي لم يُعلِن أنَّهُ تَسلَّم الشَّريعة من إلهه، حتَّى تسنَح الفُرصة لموسى بأن يَغار منه ويُقلِّده.
بعض أبرز عُلَماء تاريخ الشَّرق الأدنى يَنفون وجود أيّ استِعارة في التَّوراة من أيّ مؤلَّف أدَبي آخَر، وكما يقول العالِم جون والتون: “من الصَّعب جدّاً إظهار أيّ اعتِماد من نَصّ على آخَر أو أنَّ استِعارة من مؤلَّف أدَبي كانت قد حصَلت بالفعل في التَّوراة، لكن حتَّى ولو وُجِدَت بشكل عرَضي فإنَّ العهد القديم سيُعيد صِياغة الأفكار الأدَبيَّة هذه ليجعلها تتوافَق مع الرِّسالة العامَّة له.”² سننتقِل الآن إلى ما قد يقوله البعض (استِعارة أدَبيَّة) لحَمورابي استَخدَمها موسى في كتابة التَّوارة، وسنوضح بُطلان هذا الادِّعاء.
فروقات بارزة
- الطبقية بين موسى وحمورابي
قانون حمورابي كان في صالح الطَّبقيَّة. حيث تضمَّنت التَّشريعات التي ينُصّها على امتيازات لنُبلاء وأغنياء البلاد، في حين استُثنِيَ الفُقراء من تلك الامتيازات. مثلاً يقول النَّص في القوانين 196، 197، 198 أنَّهُ إن كسَر أحَد الفُقراء ساق أحَد من النُّبَلاء فسَتُكسَر ساقهُ بالمُقابل بمبدأ العين بالعين والسِّن بالسِّن، لكن إن كسَر أحد النُّبلاء ساق أحد من الفُقراء فعلى الرَّجُل الذي ينتمي لطَبقة الأغنياء أن يدفع فِدية فقط وهذا كافٍ.
لكن في التَّوراة هذه الطَّبقيَّة تندَثر حيث نلاحظ أنَّ العُقوبات تسري على الجميع دون مُحاباة للمركز الاجتماعي:
“وَإِذَا قَتَلَ أَحَدٌ إِنْسَاناً فَإِنَّهُ يُقْتَلُ. وَمَنْ أَمَاتَ بَهِيمَةَ جَارِهِ يُعَوِّضُ عَنْهَا نَفْساً بِنَفْسٍ. وَمَنْ أَوْقَعَ بِقَرِيبِهِ ضَرَراً فَبِمِثْلِ مَا أَوْقَعَ يُوْقَعُ بِهِ. كَسْرٌ بِكَسْرٍ وَعَيْنٌ بِعَيْنٍ وَسِنٌّ بِسِنٍّ. وَكَمَا أَنْزَلَ بِسِوَاهُ مِنْ أَذىً يُنْزَلُ بِهِ. مَنْ قَتَلَ بَهِيمَةَ جَارِهِ يُعَوِّضُ عَنْهَا، وَمَنْ قَتَلَ إِنْسَاناً يُقْتَلُ. حُكْمٌ وَاحِدٌ يُطَبَّقُ عَلَيْكُمُ، الْغَرِيبُ كَالإِسْرَائِيلِيِّ، إِنِّي أَنَا الرَّبُّ إِلَهُكُمْ.” (سِفر اللَّاويِّين 17:24-22)
لتُصبح مقولة “عَينٌ بعَين وسِنٌّ بسِنّ” ليست نَسخ من قانون حَمورابي بل هي لتصحيح المَفهوم الذي كان سائداً (رُبَّما سادَ بسبب قانون حَمورابي) أنَّ عَينٌ بعَين وسِنٌّ بسِنّ يجب أن تُطَبَّق حتَّى على الأغنياء دون استثناء وليس لأنَّ موسى أُعجِبَ بفِطنَة حَمورابي أو أنَّهُ ذُهِلَ بالتَّشريعات التي نَصَّ عليها، كما نلاحظ هنا التَّغاضي عن التَّمييز العِرقي بين بني إسرائيل والغُرباء المُقيمين بينهم.
غاية هذا التَّشريع في التَّوراة هو تشريع المُساواة بأن يُعاقَب الشَّخص على قدر الإصابة التي أحدَثها. وهذا ما فَهمهُ القضاء اليهودي، لذلك كانوا يبُتُّونَ بكل حالة بشكل مُنفرد. إذاً أيّ انتقاد للرَّب على سَنِّهِ لهذا القانون، هو نتيجة سوء فهم البيئة التي كان الرَّب يُشَرِّع لها، سواء في اليهوديَّة أو في الشُّعوب المُحيطة بها، لكن بعد البحث نجد أنَّ هذا الإعلان هو صرخة في وجه الطَّبقيَّة.
- الحياة أو الممتلكات؟
إنَّ قانون حَمورابي وقوانين أُخرى مُختلفة لشُعوب الشَّرق الأدنى، تُحدِّد عُقوبة الموت للسَّارق لكنَّها تصفَح عن الغَنيّ حتَّى ولو قتلَ فَقيراً مُقابل دَفع تعويض لعائلته، وهذا يوضح أنَّ تلك القوانين تُحبِّذ المُمتلَكات على الحياة البشريَّة. أمَّا التَّوراة فالعكس تماماً، الحياة أوَّلاً قبل المُمتلَكات، لأنَّ الأخيرة تُعوَّض أمَّا الأولى فَلا. لم يُنَصّ أبداً أيّ تشريع في التَّوراة لتنفيذ عُقوبة الإعدام على السَّارق. يقول العالِم دايفد بايكر: “العُقوبات التي تُعاقِب السَّارق في نَصّ التَّوراة هي الأكثر إنسانيَّة بين شُعوب الشَّرق الأدنى تلك الأيام، حيث لا تشمل أيّ أذيَّة في الجسد، ضَرب أو إعدام.”³
- الكل يموت بذنبه
ورد في المادة 230 من قانون حَمورابي ما يلي: “إذا بنى بنَّاءً بيتاً لسَيِّد ولم يكُن بناءهُ قوِيّاً بحيث انهارَ ذلك البيت الذي بَناه وقُتل اِبن صاحب البيت، فعليهم أن يقتلوا اِبن صاحب البِناء”.⁴ من الواضح أنَّ قتل اِبن صاحب البِناء لأجل خطأ في العمل قام به والدهُ هو ليس الطَّريقة المُثلى للتَّعامُل مع هكذا موقف وبالتالي فذلك بعيد كل البُعد عن العدالة، أمَّا في التوراة فنجد التَّعليم العادل:
“لاَ يُقْتَلُ الآبَاءُ عِوَضاً عَنِ الأَبْنَاءِ، وَلاَ يُقْتَلُ الأَبْنَاءُ بَدَلاً مِنَ الآبَاءِ، فَكُلُّ إِنْسَانٍ يَتَحَمَّلُ وِزْرَ نَفْسِهِ.” (سِفر التَّثنِية 16:24)
كما أنَّ هناك قانون آخَر في شريعة حَمورابي يَنُصّ على اغتصاب زوجة المُغتَصِب، ممَّا يوضح لنا أنَّ قانون حَمورابي يُعاقِب الأبرِياء الذين لا ذنبَ لهم بما حصَل، في حين أنَّ التَّوراة تُحمِّل الذَّنب للمُذنِب فقط إلَّا إن كان أفراد عائلته شُرَكاء معه أيضاً.
فروقات أخرى
شريعة حَمورابي تحتوي على تعليمات لتنفيذ الأحكام، وهكذا تعليمات تَظهر في جزء بسيط من التَّوراة فقط. فهدَف الأسفار الخَمس الأولى من الكتاب المقدَّس هي إرشاد الشَّعب للتَّصرُّف الحسَن مع الله أوَّلاً ومع بعضهم ثانياً، ممَّا يتضمَّن نَواهي وأوامر لا نجد لها نظير في الشُّعوب القديمة للشَّرق الأدنى. مثال على ذلك:
“لاَ تَنْتَقِمْ وَلاَ تَحْقِدْ عَلَى أَحَدِ أَبْنَاءِ شَعْبِكَ، وَلَكِنْ تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَمَا تُحِبُّ نَفْسَكَ، فَأَنَا الرَّبُّ.” (سِفر اللِّاويِّين 18:19)
إحدى أهداف الشَّريعة هي تعليم شُعوب قبَليَّة بدائيَّة مَدى أهميَّة المَحبَّة لبعضهم ومُساعدة بعضهم المَبنيَّة أساساً على محبَّة الله لهم، الذي يَدعونا دائماً للتَّشبُّه بصفاته الحميدة:
“…فَكَرِّسُوا أَنْفُسَكُمْ وَتَقَدَّسُوا، لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ” (سِفر اللَّاويِّين 44:11)
التَّشابُه المَزعوم بين شريعة حَمورابي وشريعة موسى لا يُعَدّ تَشابُهاً بعد الفحص والتَّدقيق، بل هو اختلاف شاسع، إذ يقتصِر على بعض الأحكام المَدنيَّة البسيطة التي من الطَّبيعي جداً أن تكون مُتشابهة نظراً لأنَّ الشَّعبَين كانا مُتقارِبَين جُغرافيّاً وزَمنيّاً، يقول جون والتون: “في خُصوص الأحكام المَدنيَّة، كان بني إسرائيل في تفكيرهم أقرب إلى التَّفكير السَّائد لدى الشُّعوب الأُخرى ذلك العصر…”⁵ ويقول في كِتاب آخَر حول نفس الموضوع: “لا يجب علينا أن نَظُنّ أنَّ هذه القوانين لم يتمّ التَّحدُّث عنها أو التَّفكير بها من قبل، لذلك هو أمر لا يدعو للعَجب إن كان بني إسرائيل يعيشون وفق قوانين مُشابِهة للشُّعوب المُحيطة”⁶، وهذا أمر مُتوَقَّع وليس له علاقة بنَقض الوَحي لا من قريب ولا من بعيد لأنَّ الرَّب في الوَحي لن يستخدم ما هو غريب عن نمَط الحياة السَّائد بل يُصحِّح الخطأ فيه، ويَسمو بما يحتاج إلى تعديل، ويؤكِّد على الصَّحيح منه. فمثلاً نحن اليوم لا نَنسِب وجود قانون الحُكم بالسّجن المؤبَّد على القاتِل في أكثر من دَولة بأنَّهُ (نَسخ من دَولة إلى أُخرى) لأنَّ في كلا الدَّولَتين يوجد قَتَلة، ولأنَّ هذا الحُكم أصبَح من الأحكام المَدنيَّة المُتعارَف عليها في عَصرنا هذا، وإذا ما طبَّقنا نفس المبدأ على الأحكام المَدنيَّة لشُعوب الشَّرق الأدنى في الألفيَّة الثَّانية قبل الميلاد لوَجدنا أنَّ التَّشابُه بين القوانين هو من البَديهيَّات وليس بالضَّرورة أن يكون نَسخ ولَصق.
إذ يقتصِر على بعض الأحكام المَدنيَّة البسيطة
بإمكاننا القول أنَّ إعلان الله أبعدَ بني إسرائيل عن الطَّريق الخاطئة التي دَفعتهم ثقافتهم إلى التَّفكير بها، وأحدثَ تغييراً في أذهانهم، هو وَحيٌ ثَوريٌّ نعم لكن يجب ألَّا ننسى أنَّهُ بطَريقةٍ ما لا يزال مُتوافِق مع الحُزمة الثَّقافيَّة لتلك الحقبة.
- The Lost World of the Torah: Law as Covenant and Wisdom in Ancient Context (The Lost World Series, Volume 6). Walton, John H., Walton, J. Harvey.
- Old Testament Theology for Christians: From Ancient Context to Enduring Belief. Walton, John H.
- Tight Fists or Open Hands? Wealth and Poverty in Old Testament Law. David L. Baker.
- شريعة حمورابي، ترجمة محمود الأمين.
- The Lost World of the Torah: Law as Covenant and Wisdom in Ancient Context (The Lost World Series, Volume 6). Walton, John H., Walton, J. Harvey.
- The Lost World of Scripture: Ancient Literary Culture and Biblical Authority. John H Walton, D Brent Sandy.
مقالات مُشابِهة
قانون الإيمان الأثاناسيوسي
دعوة موسى
آيات في التوراة تشير إلى المسيح