book in light black and white

لماذا يذكر الكتاب المقدَّس مصادر أُخرى غير النُّصوص الموحى بها؟ وهل يؤثِّر ذلك على مصداقيَّته؟ كل هذا سنجيب عنه في المقال التالي.

يستشهد العهد القديم بكُتب عديدة خلال سرده للأحداث التاريخيَّة، لكن هذه الكُتب التي يستشهد منها ليست جميعها تُشكِّل جزءاً من الكتاب المقدَّس، لا بل إنَّ البعض منها لم يعُد موجوداً على الاطلاق. على الرَّغم من أنَّ هذه المسألة قد يُساء فهمها، إلَّا أنَّ توضيحها سهلٌ جدّاً. قد يظنّ البعض أنَّ هناك نصوص مقدَّسة ضاعت، وبالتالي أنَّنا فقدنا الكثير من الإعلان الإلهي، وهذا ما لا يتوافق مع طبيعة الله الصَّادق الأمين الذي أعلنَ عن نفسه للبشر عبر الوَحي لأنَّه يريد هِدايَتهم. ومن البديهي أن يحفظ الله إعلانه المُبارك هذا كونه الثَّابت الذي لا يتغيَّر ولا يُناقض نفسه. إنَّ الفرضيَّة المُسبقة التي يُبنى عليها الاعتقاد بضَياع نصوص من الكتاب المقدَّس خاطئة، فليس من الضَّروري أبداً أن يكون كل نَصّ يستشهد به الكتاب المقدَّس هو نَصّ موحى به، أو أن يكونَ نَصاًّ أساسيّاً لنا اليوم لكي نفهم رسالة الله.

من هذه الكُتب: سِفر ياشَر (يشوع 13:10)، وأخبار ناثان النَّبي وجاد النَّبي (1 أخبار 29:29، 30)، ورؤى يَعدو النَّبي (2 أخبار 29:9)، والنَّبي ياهو بن حناني (2 أخبار 34:20)، وكتاب إشَعياء النَّبي عن المَلِك عُزِّيَّا (2 أخبار 22:26)، ومرثيَّة النَّبي إرميا على يوشيَّا (2 أخبار 25:35)، وكتاب تواريخ الأيَّام (نحَميا 23:12) وغيرهم، إذ يصل عدد الكُتب هذه إلى 20 كتاب. في الواقع إنَّ استشهاد كُتَّاب الوَحي بكتابٍ أو بنَصٍّ ما فذلك لإرشاد القُرَّاء الأوائل لمصادر أُخرى حول نفس الموضوع، لأنَّ القُرَّاء في تلك الأيَّام كانوا يستطيعون أن يتحقَّقوا من الأحداث المذكورة، وهذا يعطي مصداقيَّة للكاتب لأنَّه بذلك يُقدِّم دليلاً على المعلومات التي يطرحها. كقوله هنا:

“أَمَّا بَقِيَّةُ أَخْبَارِ أَخَزْيَا وَأَعْمَالُهُ أَلَيْسَتْ هِيَ مُدَوَّنَةً فِي كِتَابِ أَخْبَارِ مُلُوكِ إِسْرَائِيلَ؟” (المُلوك الثاني 18:1).

بولس وشعراء اليونان

قد يكون الاقتباس أيضا للمساعدة على إظهار فكرة وتبيان حجَّة ما، مثلاً بولُس الرَّسول عندما كان يحاوِر الفلاسفة الرِّواقيِّين¹، الذين كانوا يؤمنون بالحُلوليَّة²، اقتبسَ من أحد شُعارائهم واسمه آراتوس قائلاً لهم:

“لأَنَّنَا بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ، أَوْ كَمَا قَالَ بَعْضُ شُعَرَائِكُمْ: نَحْنُ أَيْضاً ذُرِّيَّتُهُ!” (أعمال الرُّسُل 28:17)

هدف اقتباس بولُس هو إظهار الحقّ لهم من نفس المصادر التي يؤمنون بها. فأتباع مذهب الحُلوليَّة يؤمنون بأنَّ الله في كل الخليقة وكل الخليقة في الله، وكما أنَّ الخليقة تعتمد في وجودها على الله، أيضاً الله يعتمد في وجوده على الخليقة. هدف بولُس كان التَّأكيد على صحَّة أوَّل فكرة وهي أنَّ كل الخليقة بحاجة لله وتعتمد عليه في كَينونتها، لكي يستطيع بشكل واضح أن يُكمل ويُصحِّح لهم الفكرة الثانية وهي أنَّ الله لا يعتمد في وجوده على الخليقة، حيث أكملَ قائلاً:

“مَا دُمْنَا ذُرِّيَةَ اللهِ، فَيَجِبُ أَلاَّ نَنْظُرَ إِلَى الأُلُوهِيَّةِ كَأَنَّهَا صَنَمٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ حَجَرٍ يَسْتَطِيعُ إِنْسَانٌ أَنْ يَنْحَتَهُ أَوْ يَصُوغَهُ كَمَا يَتَخَيَّلُ!” (أعمال الرُّسُل 29:17)

اقتباس بولُس هدفه البحث عن أرضيَّة مُشترَكة بين الإيمان المسيحي وبين رؤيتهم الكَونيَّة، لكي يبدأ منها الشَّرح والتَّوضيح بُغيَة الكِرازة برسالة الإنجيل، ولكن هذا لا يعني أنَّ كتابات الفيلسوف والشَّاعر اليوناني موحى بها من الله ويجب أن تكون جزءاً من الكتاب المقدَّس. استخدام كُتَّاب الوَحي لنصوص قد لا تكون بهدف التَّبشير فقط بل لأهداف أُخرى أيضاً. فيَشوع مثلاً يذكر سِفر ياشَر في قوله:

“فَثَبَتَتِ الشَّمْسُ، وَتَوَقَّفَ الْقَمَرُ حَتَّى انْتَقَمَ الْجَيْشُ مِنْ أَعْدَائِهِ. أَلَيْسَ هَذَا مُدَوَّناً فِي كِتَابِ يَاشَرَ؟ فَوَقَفَتِ الشَّمْسُ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ وَلَمْ تُسْرِعْ لِلْغُرُوبِ نَحْوَ يَوْمٍ كَامِلٍ.” (يشوع 13:10)

المُراد بهذا الاقتباس هو تذكير الشَّعب بكِتاب تُدَوَّن فيه الإنجازات لكي يَخلق فيهم الرُّوح الاحتفاليَّة ونشوَة انتصارهم على أعدائهم. وليس من الضَّروري أبداً أن يكون السِّفر موحى به من الله كباقي أسفار العهد القديم. كما لا بُدَّ أن نذكُر أنَّه أحياناً يكون لنَفس السِّفر أكثر من اِسم لأنَّ بعض الأسفار التاريخيَّة قد تُكتَب من قِبَل أكثر من شخص، حيث أنَّ من كتَبا سِفرَي صموئيل هما جاد الرَّائي وناثان النَّبي، فمن الطَّبيعي أن يسمَّى أحياناً السِّفر بِاسم أحد الكُتَّاب دون غيره، فالكاتب يفترض معرفة مُسبقة عند القارئ الأوَّل لهذه الحقائق.

Old testament in arabic

مصداقية العهد القديم

لو كانت هذه الكُتب موحى بها، لكانَ احتفظَ بها عُلماء اليهود حينها، لأنَّهم كانوا حريصين على النُّصوص المقدَّسة أشَدّ الحِرص. كما أنَّ استشهاد كُتَّاب الوَحي بهكذا نصوص هو دليل على مصداقيَّتهم، فحين يُشير كاتب سِفر المُلوك لكِتاب آخَر يُصادق على كلامه أو مصدر يوضِّح بعض الأحداث التي يُعالجها، فإنَّ هذا يُعطيه مصداقيَّة لأنَّه بذلك لن يكون خائفاً من أن تنفضح كتاباته في ضوء نصوص أُخرى، وهذا الأمر لا يفعله من يهدف لتلفيق أحداث لم تحصل في الواقع.

إنَّ الكُتَّاب اليهود كانوا نُسَّاخاً محترفين وحرفيَّتهم في العمل كان يُضرَب بها المَثل تلك الأيَّام، ناهيكم عن ارتباطها بالتَّقوى لأنَّهم يعتبرون هذا العمل عمل مقدَّس. يقول جوش ماكدويل في فصل من كتابه يتحدَّث به عن سلامة نصوص العهد القديم: “المَواد المحدَّدة المستخدَمة في نَسخ مخطوطات العهد القديم، التَّحضير المميَّز للأدراج المُلتفَّة، بالإضافة لتجنيد تقنيَّات خاصَّة بالنَّسخ، كل هذا يُظهر احتراف وإلمام جماعة النُّسَّاخ أولئك بالنُّصوص.”³ أحد الكُتَّاب اليهود قال لِابنه الذي كان ينسخ أحد نصوص العهد القديم ناصحاً إيَّاه: “يا ابني احترِس لأنَّ العمل الذي تقوم به هو عمل السَّماء، لا يحب أن تزيد أو أن تنقص حرف واحد، لأنَّك بذلك تكون دمَّرت الكل”. هذا يُظهِر لنا مدى الحِرص الذي كان موجوداً عند النُّسَّاخ في الحفاظ على النُّصوص المقدَّسة.

من الجدير ذكره فيما يخصّ نصوص العهد القديم أنَّ المخطوطات والاكتشافات الحديثة كلّها تؤكِّد على صحَّة هذه النُّصوص، كما يوضِّح العالِم بيتر جينتري في أحد أبحاثه حيث يسرد المخطوطات المختلفة والنّسخات المتعدِّدة المتوفِّرة والتي بالإمكان مقارنتها ببعضها البعض لكي نصل للقراءة الدَّقيقة، نذكر منها التَّوراة السَّامريَّة والتًّوراة الميزوريَّة، مخطوطات قُمران، مخطوطات القاهرة، التَّرجوم أي التَّرجمة الآراميَّة للعهد القديم، البّيشيتَّة أي التَّرجمة السِّريانيَّة، والتَّرجمة اليونانيَّة السَّبعينيَّة وغيرهم. والعديد من هذه النُّسَخ تمَّ تداولها ونَسخها بمعزل عن بعضها البعض كما حال التَّوارة السَّامريَّة والتَّوراة الميزوريَّة، لكن عند مقارنتها تُظهِر لنا تطابقاً رهيباً مع وجود بعض التَّغيُّرات نَصِّيَّة فقط في أُمور ثانويَّة كاللَّفظ أو اختلاف طريقة تدوين بعض العبارات، وهذا لا يؤثِّر على المعنى المقصود.


المخطوطات والاكتشافات الحديثة كلّها تؤكِّد على صحَّة هذه النُّصوص


إذا ما قارَنَّا تواتُر النُّصوص للعهد القديم مع المصادر التاريخيَّة الأُخرى نجدها أكثر توثيقاً، فاتِّهمامها بالتَّحريف يدمِّر إمكانيَّتنا في الوثوق بأيّ نَصّ تاريخي آخر إذا ما طبَّقنا نفس مبادئ النَّقد التي يستخدمها البعض اليوم. أعطانا الله عزَّ وجَلّ إمكانيَّة إثبات صِدق الوَحي سواء منطقيّاً أي بالاحكتام إلى طبيعة الله الصَّادق الأمين نفسه، وعبر الأدلَّة التاريخيَّة العِلميَّة التي نستطيع من خلالها إثبات سلامة هذه النُّصوص من التَّحريف.

  1. .مذهب فلسفي نشأ في اليونان، وبدأ في القرن الخامس ق.م. أسّسه الفيلسوف زينو الفينيقي.
  2. يؤمن الحلوليون بأن الخليقة كلها هي جزء من الله، وأن الغرض منها أن تتماهى كل هذه الأجزاء في الله. هم ينكرون أن الله كيان ذاتي مستقل وكائن عاقل.
  3. Evidence That Demands A Verdict. Josh McDowell, Sean McDowell.
  4. Ibid
  5. Chaos Theory and the Text of the Old Testament. Peter J Gentry.


مقالات مُشابِهة

ما هي نبوءات العهد القديم التي تممها يسوع؟
هل أساء متّى الرسول في الاقتباس من العهد القديم؟
ما هو العهد القديم؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.