هو رَجُل تحوَّلَ من مُضطَهِد للكنيسة إلى مُضطَهَد من أجلِها، وقد دَفع حياته ثَمناً لإيمانه، تارِكاً لنا إرثاً كبيراً يشمل 13 رسالة كتَبها لنا وهي جزء لا بأس به من العهد الجديد.
شاول الطرسوسي
خلال المَراحل الأولى من نشأة الكنيسة كان الاضطِهاد اليَهودي للمؤمنين المسيحيِّين في أوجِهِ. وتضمَّن هذا الاضطِهاد جَرّ المؤمنين بالمسيح إلى المَحاكم وتَعذيبهم لا بل وقَتلهم. أحَد أبرَز الوجوه التي كان لها يَد كُبرى باضطِهاد الكنيسة هو رَجُل فَرِّيسي مُتقدِّم في الدِّيانة اليهوديَّة اسمهُ شاوُل الطَّرسوسي (نِسبةً إلى مَدينة طَرسوس)، وقد تَتلمَذ على يَد أهَمّ عُلَماء ذلك العَصر والذي يُدعى غَمالائيل (أعمال الرُّسُل 34:5)، كما أنَّهُ كان أيضاً صاحِب نُفوذ وسُلطة لا بأسَ بهما. هذا الرَّجُل كان ينفُث تَهديداً وقَتلاً على تلاميذ الرَّب (أعمال الرُّسُل 1:9)، وهو من الذين كانوا وَراء قتل استِفانوس شَهيد المسيحيَّة الأوَّل الذي رُجِمَ حتى المَوت. وقد رَسم شاوُل خطَّة مُحكَمة للقَضاء على ما كانَ يَظُنّه اليهود (البِدعة الجديدة) التي اعتَبروا أنَّها تُشكِّل خَطراً عليهم، فأعَدَّ الرِّحال إلى دمشق ثُمَّ حصَل معهُ وهو في طريق الذَّهاب أمراً غيَّرَ حَياتهُ إلى الأبد (أعمال الرُّسُل 9).
اللقاء مع المسيح
لم يكُن شاوُل وَحدهُ على الطَّريق نحو دمشق بل كان معه مُرافقين، وفي مَرحلةٍ ما من الرِّحلة ظهَر نورٌ عَظيم أمامَ شاوُل أوقَعهُ أرضاً، وسَمِعَ صَوتاً قَوِيّاً يُناديه، إلَّا أنَّ الرِّجال الذين كانوا معهُ لم يَسمعوا الصَّوت بكَلماتٍ واضحة لكنَّهُم رَأوا النُّور المُبهِر فقط، وكان الرَّب يُكَلِّم شاوُل قائلاً لهُ: “شاوُل، شاوُل، لماذا تَضطَهِدُني؟” (أعمال الرُّسُل 4:9)، وكان هذا اللِّقاء هو الذي غيَّر حَياة شاوُل حيثُ نقرأ في تَتِمَّة الإصحاح عن تَوبة شاوُل وقُبوله للمسيح ومَعموديَّته وانطِلاقه للخِدمة ليُصبح اسمُه الجديد بولُس.
بعدَ إيمان بولُس قال لهُ الرَّب بأنَّهُ سيتحوَّل من مُضطَهِد للمؤمنين إلى مُضطَهَد من أجل الإيمان ونَشر رِسالة الإنجيل (أعمال الرُّسُل 16:9)، وأنَّهُ سيَتألَّم من أجل كنيسة الله. وبذلك خَسِر بولُس كُل امتيازاته الأرضيَّة لكنَّهُ حصَل على برَكات روحيَّة سماويَّة لا تُقدَّر بثمَن.
لم تأتِ خِدمة بولُس بمَعزِل عن خِدمة الرُّسُل، فهو كان قد أخذَ يَمين الشَّرِكة (أي تمَّ التَّأكيد على بدء خِدمته) من الرُّسُل أمثال بطرُس وبَرنابا (غلاطية 9:2) وكان على صِلة مباشرة بهم، وأشارَ بطرُس إلى وَحي رَسائل بولُس للكنائس في رسالته الثَّانية:
لم تأتِ خِدمة بولُس بمَعزِل عن خِدمة الرُّسُل
“… إِنَّ أَخَانَا الْحَبِيبَ بُولُسَ قَدْ كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَيْضاً عَنْ هَذِهِ الأُمُورِ عَيْنِهَا، بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ الَّتِي أَعْطَاهُ إِيَّاهَا الرَّبُّ. ” (رسالة بطرُس الثانية 15:3)
كما أكَّد أيضاً “لوقا البَشير” الذي كَتب سِفر أعمال الرُّسُل على سُلطة بولُس الرَّسوليَّة مُظهِراً لنا هِدايَته وتَفاصيل عن خِدمته.
تعاليم بولس
هذا الرَّجُل الذي تحوَّل إلى المسيحيَّة بعد دعوَة المسيح لهُ، عَلَّمَ باقتِدار من الكُتب المُقدَّسة كَونه صاحِب معرفة كبيرة بها نظراً لتَدريبهِ السَّابق، وقد استطاعَ أن يرى تحقُّق وعود الله من خلال المسيح ويَربطها لنا في رسائلهِ التَّعليمية العقائديَّة التي دائماً يُعطينا منها المَغزى التَّطبيقي لحياتنا. يقول الدكتور روبرت رايموند: “يتبيَّن من الدَّليل الكِتابي أنَّ بولُس كان يَعتبر نفسهُ كرَسول للمسيح. كما أنَّ أصدقاء يسوع الحَميمين اعتَبروه كذلك، وأنَّهُ صاحِب وفرة من مصادر المعلومات عن يسوع، وكَونه شاطَرَ يسوع النَّظرة عينها إلى مَلكوت الله بحيث (حضَر، ولم يَحضُر بعد)، والعقيدة نفسها عن أبُوَّة الله، والعقائد عينها المُختصَّة بالخَلاص على أساس النِّعمة المجَّانيَّة، وبالدَّينونة الأخيرة، وبأدَب المحبَّة كالتَّتميم للنَّاموس، والأهمّ من هذا كُلّه ديانة الفِداء عينها في مَوت يسوع وقيامته…”¹
وقد استطاعَ أن يرى تحقُّق وعود الله من خلال المسيح
ما الذي جناه بولس؟
زَمنيّاً، خَسِرَ بولُس كثيراً:
• فَقدَ مَكانتهُ كرَجُل مُتقدِّم في الدِّيانة اليهوديَّة.
• فَقدَ مَركزهُ كرَجُل مَرموق في المُجتمَع.
• خَسِرَ امتِيازاته كمُواطن روماني.
• جُلِدَ، ضُرِبَ، تعرَّضَ للسَّجن والإهانة.
• نُفِيَ وذُلَّ، وفي النِّهاية قُتِلَ في سَبيل إيمانه.
نعم من وجهَة نظَر بشريَّة أرضيَّة فإنَّ بولُس لم يكسَب شيئاً من إيمانهِ بالمسيح، لكنَّهُ يقول أنَّ كل ما خَسِرهُ لا يعدو كَونه نُفاية إذا ما قُورِنَ بمَعرفتهِ بالمسيح الرَّب (فيلبّي 8:3).
لكن روحيّاً، كَسبَ بولُس ما هو أسمى من ذلك:
• رَبِحَ مَعرفة الإله الحقيقي.
• كَسبَ الإعلانات الإلهيَّة العظيمة التي كتَبها لنا.
• فازَ بالحَياة الأبديَّة المَضمونة لهُ في السَّماويَّات في المسيح يسوع لهُ المَجد.
يقول المؤرِّخ توم هولاند: “قَبِلَ بولُس السُّخرِية التي جلبَتها لهُ المُناداة بالإنجيل، بالإضافة إلى المَخاطر… فهو كان يحمل في جسَدهِ آثار جُروح أُصيبَ بها من أجل المسيح.”² لكن كُل هذا لم يَمنع بولُس من أن يستمرّ بالمُناداة بإنجيل المسيح والكِرازة به، وكِتاباته تُشكِّل جزءاً لا بأس به من الكِتاب الأكثر طِباعةً ومَبيعاً ودِراسةً في العالَم، الكِتاب المُقدَّس.
- .كتاب الإيمان وموجباته المنطقية. مكتبة نور
- Dominion: The Making of the Western Mind. Tom Holland.
مقالات مُشابِهة
هل أتباع المسيح يكرهون أتباع المُعتقدات الأخرى؟
الوجه الآخر للألم
على من نزل الإنجيل؟