animatation-of-crucifixion with three crosses

يتمَحوَر الإيمان المسيحي حَول فِداء المسيح الذي تَمَّ بالصَّلب والقِيامة، لكن في قِراءَتِنا لحادِثَة الصَّلب في الأناجيل قد نُلاحِظ بعض الاِختِلافات الظَّاهِريَّة، والتي تَنتُج عن مَعاييرِنا المُعاصِرة في الحُكم على النُّصوص دونَ الأخذ بعَين الاِعتِبار لمَعايير البيئة التي أنتَجَت هذا النَّص، وفيما يلي بعض الأمثِلة على ذلك.

نحنُ لا نعرف السَّنة التي صُلِبَ فيها المسيح بالضَّبط، لكنَّ صَلبهُ هو إحدى أكثر الأحداث التي نستطيع أن نكون مُتأكِّدين من أنَّها حَصَلَت وبشَهادَة مؤرِّخين غير مَسيحِيِّين أيضاً. حيثُ يقول المُلحِد بارت إرمان: “إحدى أكثَر الأحداث المُوَثَّقة تاريخِيّاً هي أنَّ يسوع قد صُلِبَ في اليَهودِيَّة خِلال فترَة حُكم بيلاطُس البُنطِيّ”¹. ويقول جون دومينيك كروسان: “صَلب يسوع هو أمر أكيد كأيّ حَدَث تاريخي مُهِمّ، طالَما أنَّ يوسيفوس وتاسيتوس يَتَّفِقان مع المسيحِيِّين حَول هذا الأمر.” ²

سَنُعالِج في المَقال التَّالي بعض الأمور التي تَبدو للوَهلة الأولى وكأنَّها تَناقُض، وسنوضِح مَعناها في سِياقِها التَّاريخي وفق ثَقافَة تِلكَ الحَضارة.

ما المدة التي قضاها المسيح بين الصلب والقيامة؟

قالَ المسيح أنَّهُ سيَبقى مَدفوناً لثَلاث أيَّام وثَلاث لَيالٍ (إنجيل متّى 40:12)، لكنَّهُ دُفِنَ يَوم الجُمعة وقامَ يَوم الأحَّد، فكيف تَمَّ ذلك؟ من خِلال قِراءتنا المُعاصِرة للكِتاب المُقدَّس قد نَفتَرِض أنَّ المسيح يجب أن يبقى مَدفوناً لمُدَّة 72 ساعة لأنَّهُ قال ثَلاث أيَّام وثَلاث ليالٍ، لكن الحال لم تَكُن هكذا مع حِسابات اليَهود للوَقت والأيَّام في زَمَن حُكم الرُّومان. يقول جيمس إرماتينجر: “في أيَّامِنا الحالِيَّة (السَّاعة 60 دقيقة) (واليَوم 24 ساعة)… لكن القُدَماء لم يستَخدِموا الوَقت بهذه الدِّقة بل كانوا يَرَونَ الوَقت كَمُدَّة، أي وَقت قَصير أو وَقت طَويل…”³. ففي تِلكَ الأيَّام كانَ يُحسَب أيّ جزء من اليَوم كأنَّهُ يَوم كامِل، وأيّ جزء من السَّنة كأنَّهُ السَّنة كامِلة، ووفق حِساب الوَقت لدَيهِم، لم يَكُن من المُمكِن أن يَفهَموا أنَّ 3 أيَّام يجب أن تكون حَصرِيّاً 72 ساعة. فمثلاً في حِساب سِنين سَبي شَعب إسرائيل التي هي 70 سَنة، يُحسَب جزء من السَّنة الأولى وجزء من السَّنة الأخيرة كأنَّها سَنة كامِلة لتُصبِح سَنَوات السَّبي من عام 605 (السَّنة التي سَبى فيها نَبوخَذ نَصَّر الشَّعب اليَهودي) إلى عام 537 (السَّنة التي عادوا فيها إلى أرضِهم) 70 سَنة بَدَل 68 سنة، وذلك لأنَّهُم حَسَبوا جُزءاً من أواخِر عام 606 وجُزءاً من بِدايَة عام 536. أمَّا بالعَودَة لحادِثَة دَفن يسوع فقَد تَمَّ حِساب الجزء الأخير من يَوم الجُمعة كيَوم كامِل، والجزء الأوَّل من نَهار الأحَّد كيَوم كامِل، وبذلك يكون المسيح قَد دُفِنَ لثَلاثَة أيَّام وثَلاث لَيالٍ وفق مَعايير ذاكَ الزَّمان.

ما هو يوم الاستعداد؟

مَكتوب أنَّ المسيح صُلِبَ في يَوم الاِستِعداد قبلَ يَوم السَّبت، يقول البَعض أنَّ يَوم السَّبت هُنا قد يُشير إلى يَوم الفِصح اليَهودي الذي كانَ من المُمكِن أن يَأتي في أيّ يَوم من أيَّام الأُسبوع، وهُم يقولونَ ذلك لأنَّهُم يَعتَبِرون أنَّ الثَّلاث أيَّام والثَّلاث لَيالي يجب أن تكون حَرفِيّاً 72 ساعة، وبذلك يَكون المسيح قَد صُلِبَ يَوم الأربِعاء وقامَ يَوم السَّبت. لكن هذه النَّظَرِيَّة يَنتُج عَنها العَديد من المَشاكِل.

أوَّلاً: قَد أوضَحنا أنَّهُ استِناداً لطَريقَة حِساب الوَقت في ذلكَ العَصر، إذاً فليسَ من الضَّروري أن تكون الثَّلاث أيَّام هي 72 ساعة حَرفِيّاً.

ثانِياً: إنَّ يَوم الاِستِعداد كانَ يُشير ليَوم الجُمعة وقَد سُمِّيَ بذلك لأنَّهُ يَوم الاِستِعداد للعِبادة التي كانَت تَتِمّ يَوم السَّبت، ولغايَة اليَوم في اللُّغة اليونانِيَّة تَعني الكَلِمة المُتَرجَمة في الكِتاب المُقدَّس “يَوم الاِستِعداد” بيَوم الجُمعة.

ثالِثاً: إنَّ سِياق تَرتيب الأيَّام في الأناجيل يؤكِّد لنا أنَّ المسيح صُلِبَ الجُمعة وقامَ أوَّل أيَّام الأُسبوع. ونَرى في إنجيل لوقا كيفَ يُخبِرنا النَّص بأنَّ النِّساء ارتَحنَ يَوم السَّبت حَسَب الوَصِيَّة ثُمَّ أتَينَ إلى القَبر مُباشَرَةً في أوَّل أيَّام الأُسبوع.

“وَكَانَ يَوْمُ ٱلِٱسْتِعْدَادِ وَٱلسَّبْتُ يَلُوحُ. وَتَبِعَتْهُ نِسَاءٌ كُنَّ قَدْ أَتَيْنَ مَعَهُ مِنَ ٱلْجَلِيلِ، وَنَظَرْنَ ٱلْقَبْرَ وَكَيْفَ وُضِعَ جَسَدُهُ. فَرَجَعْنَ وَأَعْدَدْنَ حَنُوطًا وَأَطْيَابًا. وَفِي ٱلسَّبْتِ ٱسْتَرَحْنَ حَسَبَ ٱلْوَصِيَّةِ. ثُمَّ فِي أَوَّلِ ٱلْأُسْبُوعِ، أَوَّلَ ٱلْفَجْرِ، أَتَيْنَ إِلَى ٱلْقَبْرِ حَامِلَاتٍ ٱلْحَنُوطَ ٱلَّذِي أَعْدَدْنَهُ، وَمَعَهُنَّ أُنَاسٌ.” (إنجيل لوقا 54:23-56، 1:24).

أوَّل أيَّام الأُسبوع هو (الأحَّد) وبعد صعود المسيح أصبَح يَوم الأحد هو يوم العِبادة للمسيحيين بَدَلاً من يَوم السَّبت (أعمال الرُّسُل 7:20) مِمَّا يوضِح لنا أنَّ المسيحِيّين الأوائِل آمَنوا أنَّ القِيامة حَصَلَت يَوم الأحَّد.

salvation in arabic

في أي ساعة صلب المسيح؟

وَرَدَ في إنجيل مَرقُس أنَّ المسيح صُلِبَ في السَّاعة الثَّالِثة (إنجيل مَرقُس 25:15)، أمَّا إنجيل يوحَنَّا فيقول أنَّ المسيح حُوكِمَ في السَّاعة السَّادِسة (إنجيل يوحَنَّا 14:19)، يَعني أنَّ الصَّلب لم يَتِمّ قبلَ السَّاعة التَّاسِعة على الأقل، فهل هذا تَناقُض؟

المُشكِلة هي أنَّنا مُعَرَّضين لأن نُسيء فَهم هذه النُّصوص وفق مَفاهيمنا المُعاصِرة، من خِلال ظَنّنا أنَّ اليَهود والرُّومان في القَرن الأوَّل كانوا يَمتَلِكون ساعات مِثلنا ويَحسِبون الوَقت بنَفس طَريقَتنا، وهذا طَبعاً تَفكير خاطِئ كما أشَرنا سابِقاً.

ففي تِلكَ المِنطَقة كانَ يوجَد تَوقيت روماني وتَوقيت يَهودي، والرَّسول يوحَنَّا كانَ يَحسِب الوَقت وفق التَّوقيت الرُّوماني لبَدء اليَوم وذلك عندَ مُنتَصَف اللَّيل، وبذلك يكون المسيح قَد صُلِبَ في حَوالي السَّاعة التَّاسِعة صَباحاً، أمَّا كُتَّاب الأناجيل الأُخرى فكانوا يَحسِبونَ الوَقت وفق التَّوقيت اليَهودي المُعتَمَد في شَمال فلسطين والذي كانَ يبدَأ من شُروق الشَّمس أي السَّاعة السَّادِسة صَباحاً ثُمَّ يَنتَهي اليَوم بالشُّروق التَّالي أيضاً. وهذا التَّوقيت كانَ يَشمل مِنطَقَة الجَليل حيثُ كانَ المسيح، وبذلك يَكون الصَّلب قَد تَمَّ بعدَ ثَلاث ساعات من شُروق الشَّمس أي في السَّاعة التَّاسِعة صَباحاً بحَسَب تَوقيتنا نحن.

لا شَكّ أنَّ ليوحَنَّا قَصد لاهوتي في المَسأَلة لكي يَستَخدِم التَّوقيت الرُّوماني، فهو أرادَ أن يُظهِر لنا أنَّ ذَبيحَة المسيح حَصَلَت في نَفس التَّوقيت الذي كانَ يُذبَح فيهِ حَمَل الفِصح، بِما في ذلك من دَلالات لفِداء المسيح الذي هو فِصحنا، وقَد وَرَدَ في التَّفسير العَرَبي المُعاصِر للكِتاب المُقدَّس شَرح لهذه الفِكرة: “يُحَدِّد يوحَنَّا الوَقت بدِقَّة، إنَّها السَّاعة السَّادِسة من يَوم الاِستِعداد للفِصح أي 14 نيسان، ساعَة تَحضير الخِراف للتَّقدِمة الفِصحِيَّة في الهَيكَل. ويسوع هو الحَمَل المَذبوح…”


ذَبيحَة المسيح حَصَلَت في نَفس التَّوقيت الذي كانَ يُذبَح فيهِ حَمَل الفِصح


متى أكل التلاميذ الفصح؟

في حين أنَّ الأناجيل السِّينوبتيكِيَّة (مَتَّى، مَرقُس، لوقا) تُخبِرنا أنَّ المسيح وتَلاميذه أكَلوا الفِصح يَوم الخَميس الذي يَسبِق يَوم الاِستِعداد، نَجِد في إنجيل يوحَنَّا أنَّ اليَهود لم يَدخُلوا دار الوِلاية الرُّومانِيَّة عندَ مُحاكَمَة يسوع لِئَلَّا يَتنَجَّسوا، وذلك لكي يَتمَكَّنوا من تَناوُل الفِصح (إنجيل يوحَنَّا 28:18)، إذاً اليَهود لم يَتناوَلوا الفِصح يَوم الخَميس. يَتوَضَّح هذا أيضاً عبرَ فَهمنا لِاختِلاف حِسابات الأيَّام والتَّوقيت بينَ مُختَلَف الفِئات اليَهودِيَّة، حَيثُ كانَ يُحتَفَل بالفِصح ليَومَين مُتَتالِيَين، فقِسم من اليَهود كانَ يَحتَفِل بالعيد مع شُروق يَوم الخَميس إلى شُروق يَوم الجُمعة، وقِسم آخَر مِنهُم كانَ يَحتَفِل مع غُروب يَوم الخَميس إلى غُروب يَوم الجُمعة.

يُنَوِّه جون ماك آرثر أنَّه يوجَد فَوائِد لهذا الاِختِلاف في التَّوقيت، ومِنها أنَّهُ كانَ يُحتَفَل بالعيد ليَومَين مُتَتاليين وكُلٌّ بحَسَب تَوقيتهِ لكي يَتِمّ تَجَنُّب الصِّدامات الدِّينِيَّة بينَ اليَهود، وقَد استَخدَمَ يسوع هذا الأمر ليوصِل لنا حَقائِق لاهوتِيَّة. إذ يقول جون ماك آرثر في مُقَدِّمَة تَفسيرهِ لإنجيل يوحَنَّا: “فخِلال وَقت الفِصح سَمَحَ هذا الاِختِلاف في الوَقت، أن يُحتَفَل بالعيد شَرعِيّاً في يَومَين مُتَلازِمَين… فبِما أنَّ يسوع والتَّلاميذ كانوا جَليلِيِّين، فقَد اعتَبَروا أنَّ الفِصح قَد بَدَأَ يَوم الخَميس مع شُروق الشَّمس ليَنتَهي عندَ شُروق شَمس يَوم الجُمعة. أمَّا رؤساء اليَهود الذينَ قَبَضوا على يسوع وحاكَموه… فاعتَبَروا أنَّ الفِصح يَبدَأ عندَ غُروب الخَميس ويَنتَهي عندَ غُروب يَوم الجُمعة. بذلك الاِختِلاف المُعَدّ مُسبَقاً بالعِناية الإلهِيَّة الكُلِّيَّة السِّيادة، استَطاعَ يسوع شَرعِيّاً أن يَحتَفِل مع تَلاميذهِ بآخِر فِصح ويَظَلّ مع ذلك قادِراً أن يُقَدِّم نَفسهُ ذَبيحة في يَوم الفِصح.”.

وهكذا نَرى أنَّ هذه التَّناقُضات الظَّاهِريَّة تُصبِح واضِحة وجَلِيَّة حينَما نَفهَم أكثَر البيئة التي أنتَجَت هذه النُّصوص، لذلك نحنُ مُطالَبون دائِماً بمُراجَعَة خَلفِيَّة كُل نَصّ قبلَ أن نَحكُم عليهِ بحَسَب مَفاهيمنا المُعاصِرة.


مقالات مُشابِهة

هل حقا صلب المسيح ؟
قصة صلب المسيح
هل ترك الله يسوع وهو على الصليب؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.