رجل يمد ذراعيه في الشمس

سنتعرف في المقال التالي على ماهيَّة العبادة في المسيحية.

أصل كلمة “عبادة” كما جاءت في العهد القديم المكتوب بالعبريَّة مُشتَق من كلمة “عبد” ويُقصد بها الشَّخص الذي يخدم سيِّده. وفي العهد الجديد المكتوب باليونانيَّة هناك كلمتان لوصف العبادة، واحدة تعني الخدمة أيضاً، والأُخرى تعني السُّجود والتَّبجيل، ليكون بذلك أنَّ العبادة هي خدمة الله وتمجيده.

عندما أمرَ الرَّب موسى النَّبي أن يذهب إلى فرعون ويقول له: أطلِق بني إسرائيل من أرض مصر، كانت الغاية هي أن يعبد الشَّعب الرَّب إلههم (الخُروج 16:7). هم كانوا عبيداً لفرعون وسيَصيرون عبيداً لله. رأى أنبياء بني إسرائيل في خُروج أبائهم من أرض مصر نموذجاً لخروج آخر روحي سيُجريه الرَّب مع المؤمنين في المستقبل، والذي تمَّ بفداء المسيح لشعبه، فهو من حرَّر شعبه من عبوديَّة الخطيئة لكي يعبدوه بالرُّوح والحق، فالحرِّيَّة تكمُن في كوننا عبيداً لله، والحرِّيَّة من عبوديَّة الله هي عبوديَّة.

هذه العبادة طلبها الله بعد افتدائه لشعبه لكي تكون مجبولة بالامتنان للنِّعمة الإلهيَّة التي تجلَّت في حياة المؤمنين، لتصبح الحياة الرُّوحيَّة مع الله هي عبادة، فنحن نعبد الرَّب اليوم عندما نخدمه في كنائسنا وعندما نتمِّم وصاياه وعندما نمجِّده في حياتنا.

“إنَّ العبادة الحقيقيَّة التي تتجلَّى في حياة الإيمان تنبع من شعور عميق بالامتنان للنِّعمة الإلهيَّة. والعلاقة بين فداء الرَّب لإسرائيل واستجابتهم الأخلاقيَّة له تشكِّل نموذجاً لنهجنا في التَّعامل مع الحياة الرُّوحيَّة باعتبارها عبادة… إنَّ ذكرى خلاصنا ينبغي أن تُلهمنا الامتنان وتمنحنا ثقة أمام الله، ونقاءً شخصياً، واهتماماً بحاجيَّات الآخرين، وخاصَّةً أولئك المُهمَّشين.”¹


فالحرِّيَّة تكمُن في كوننا عبيداً لله، والحرِّيَّة من عبوديَّة الله هي عبوديَّة


هناك عدة أمور تميز العبادة المسيحية:

1. عبادة روحية

في حين أنَّ العبادة في العهد القديم كانت في ظاهرها مجرَّد طقوس، إلَّا أنَّ هدفها لم يكن أن تُعتبر مجرَّد شكليَّات بل كان فيها رموز لحقائق روحيَّة، فغرض الذَّبيحة مثلاً كان خلق إحساس عميق لدى الخاطئ ببشاعة خطاياه التي تتطلَّب سفك الدَّم، وحاجته الماسَّة إلى من يحمل عنه العقاب. نحن كمسيحيُّون اليوم لا توجد في عبادتنا فرائض النَّاموس المُوسَوي لأنَّ المسيح تمَّم النَّاموس، بل هي عبادة روحيَّة، أي أنَّ اهتمامات المؤمن اليوميَّة وممارساته جميعها يجب أن تعكس إيمانه وعلاقته مع الله، إذ يُظهر اتِّكاله على النِّعمة الإلهيَّة ويسعى لتتميم وصايا الله ويخدمه بمواهبه، ويسبِّحه ويمجِّده من خلال نمط حياته وأُسلوبه.

“لِذَلِكَ أُنَاشِدُكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، نَظَراً لِمَرَاحِمِ اللهِ، أَنْ تُقَدِّمُوا لَهُ أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَقْبُولَةً عِنْدَهُ، وَهِيَ عِبَادَتُكُمْ الْعَقْلِيَةُ. وَلا تَتَشَبَّهُوا بِهَذَا الْعَالَمِ، بَلْ تَغَيَّرُوا بِتَجْدِيدِ الذِّهْنِ، لِتُمَيِّزُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ الصَّالِحَةُ الْمَقْبُولَةُ الْكَامِلَةُ.” (رسالة بولس إلى أهل روما 1:12-2)

2. شكر دائم

يقول كاتب المزمور “أَمَّا مَنْ يُقَدِّمُ لِي ذَبِيحَةَ حَمْدٍ فَهُوَ يُمَجِّدُنِي…” (مزمور 23:50)، فإحدى أنواع الذَّبائح كانت تُقدَّم كشُكرٍ لله على أمرٍ ما قد حصلَ في حياة العابد. لكن في المسيحيَّة يدعونا الله لعَيش حياة شُكر وامتنان نكون فيها مدركين لنعمته العاملة في حياتنا ولعطاياه الصَّالحة.

“رَافِعِينَ الشُّكْرَ كُلَّ حِينٍ وَعَلَى كُلِّ شَيْءٍ لِلهِ وَالآبِ، بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (رسالة بولس إلى أهل أفَسُس 20:5)

3. تتميم الوصايا الإلهية

لا يجب أن يُظهر المؤمن حالته الرُّوحيَّة السَّليمة فقط عندما يكون في الكنيسة، بل يجب أن يعيش حياته المسيحيَّة بشكل دائم. صحيح أنَّ الصَّلاة والصَّوم والحضور في الكنيسة هي أُمور مهمَّة في حياة المؤمن، إلَّا أنَّ هذه الأُمور يجب أن تُنمِّي فينا القِيَم المسيحيَّة لكي نعيشها في كل وقت، كما يقول دانيال إ. بلوك: “في حين أنَّ الممارسات الرُّوحيَّة المُتمثِّلة في الصَّلاة وقراءة الكتاب المقدَّس والتَّأمُّل والصَّمت أمام الله لا غنى عنها للنُّمو الرُّوحي، فإنَّ التَّقوى الأصيلة تتجلَّى أوَّلاً وقبل كل شيء في الأفعال الملموسة التي تُظهر الحب لله، وللنَّاس، وحتى البيئة. وهذا هو الفهم الكتابي الكامل للقداسة.”²

“اجْعَلُوا هَدَفَكُمْ أَنْ تُسَالِمُوا جَمِيعَ النَّاسِ، وَتَعِيشُوا حَيَاةً مُقَدَّسَةً. فَبِغَيْرِ قَدَاسَةٍ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَرَى الرَّبَّ” (الرِّسالة إلى العبرانيِّين 14:12)

4. لمحة عن المجد

في أحد كُتبه التي يتحدَّث فيها عن العبادة يُعَنوِن آر سي سبرول الكتاب بـ “لمحة عن الملكوت”.³ ويصف العبادة بأنَّها تعطينا قبَساً عن اليوم الذي سنكون فيه مع الله في المجد إلى الأبد. فعبادة الله تعطينا لمحة عن الحالة المستقبليَّة للمؤمنين، فعندما نرنِّم، على سبيل المثال، نحصل على لمحة عن التَّسبيح الذي سنُقدِّمه لله عندما نصير في محضره. ومن خصائص العبادة تحضير المؤمنين للملكوت وإعطائهم الرَّجاء والأمل بأنَّ اليوم الذي سيكونون فيه مع الرَّب للأبد قادم.

“ثُمَّ نَظَرْتُ، فَسَمِعْتُ تَرْتِيلَ الْمَلايِينِ مِنَ الْمَلائِكَةِ وَهِيَ تُحِيطُ بِالْعَرْشِ وَبِالْكَائِنَاتِ الْحَيَّةِ وَالشُّيُوخِ، وَهُمْ يَهْتِفُونَ بِصَوْتٍ عَالٍ: «مُسْتَحِقٌّ الْحَمَلُ الْمَذْبُوحُ أَنْ يَنَالَ الْقُدْرَةَ وَالْغِنَى وَالْحِكْمَةَ وَالْقُوَّةَ وَالإِجْلالَ وَالْمَجْدَ وَالْبَرَكَةَ».” (رؤيا يوحنَّا 11:5-12)

معرفة الله وعبادته بالحق هي حاجة لكل إنسان، فالله هو الوحيد القادر على منح الإنسان السَّلام الذي يفوق كل عقل، وهو الوحيد القادر أن يُعزِّي ويعطي الفرح في كل الظُّروف، لأنَّه الوحيد القادر على إشباع حاجتنا الرُّوحيَّة التي نحاول يائسين إشباعها في أُمور مختلفة في هذا العالَم. فالواقع كما عبَّر عنه أوغسطينوس: “لقد خلقتنا لنفسك يا الله وأرواحنا لا ترتاح إلَّا فيك” اِختبر العلاقة المميَّزة التي يمكنك أن تبنيها مع الله بالمسيح من خلال عبادتك له بالحق الذي أعلن عنه المسيح.


مقالات مُشابِهة

هل الله يريد شئ مني؟
الأساسيات في المسيحية
عندما تبتسم الحياة
ترنيمة الحياة فينا مخلد


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.