الجمعة العظيمة هي لقَب يُطلَق على يوم الجمعة الذي يسبق أحَّد الفصح عند المسيحيِّين، وتسمَّى كذلك نسبةً إلى الحدَث العظيم الذي تمَّ في ذلك اليوم، وهو صَلب المسيح وموته.
وفي كلِّ عام، يُحيي الكثير من المسيحيِّين هذه الذِّكرى الأليمة، حيث يذهب البعض إلى الكنائس للصَّلاة، والبعض يرتدي الملابس السَّوداء حِداداً على صَلب المسيح، والبعض الآخر يُعيد تمثيل مشهد سَير المسيح للصَّلب في الشَّوارع أمام حشود من النَّاس. لكن هذه المشاعر الحزينة كلُّها سُرعانَ ما تنتهي بمجرَّد أن ينتهي يوم الجمعة ويأتي صباح السَّبت، ويعود الجميع إلى حياتهم السَّابقة التي يحيَونها طوال العام مُتناسين ومُنشغلين عن المعنى الحقيقي للجمعة العظيمة.
لكن السُّؤال المهم هنا، هل يطلب منَّا الكتاب المقدَّس أن نُعيد إحياء ذكرى الصَّلب ونحزن على موت المسيح؟ وماذا يعني هذا اليوم أصلاً “الجمعة العظيمة” للمؤمنين المُخلَّصين الذين اختبَروا الوِلادة الجديدة بالمسيح يسوع؟
في الحقيقة صَلب المسيح لم يكُن حدَثاً عاديّاً، ولم يمرّ مرور الكِرام عبر التَّاريخ، بل هو حدَثٌ جَلَل، فيه صُلِبَ رَبّ المجد واعتلى صليب العار، الصَّليب الذي كان يُعَدّ أقسى أداة إعدام للمجرمين في الإمبراطورية الرُّومانيَّة آنذاك. لكن يسوع المسيح لم يكُن مُجرِماً كي يُعدَم ويُصلَب، بل كان يَجول بين النَّاس يصنع خيراً ويشفي جميع الذينَ تسلَّطَ عليهم إبليس. نعم هذا هو جُرمه، أنَّه يشفي الذين تسلَّطَ عليهم إبليس. على من يتسلَّط إبليس؟ يتسلَّط علينا جميعاً، لأنَّ جميعنا خُطاة، وجميعنا لُقمة سائغة في فم الشَّيطان، يُحرِّكنا كيفما يشاء، يُحكِم إقفال قيود خطايانا، يستعبِدنا، ويجعلنا نتوق لفعل الشَّرّ ونبتعد أكثر فأكثر عن مشيئة الله، ولهذا السَّبب بالتَّحديد أتى المسيح من سمائهِ ليُحرِّرنا من هذه العبوديَّة “عبوديَّة إبليس” ويجعلنا أبناءً لله.
لذلك لا يجب أن يكون صلب المسيح مجرَّد ذكرى يتمّ إحياؤها عاماً تلوَ الآخر دون فهم معناها. وبالرَّغم من أنَّ موت المسيح أمر مُحزِن ومؤلم جدّاً، لأنَّه كان بارّاً ولم يفعل خطيئة ومات نيابةً عنَّا نحن الأثَمة، إلَّا أنَّ هذا الحزن ينبغي أن يقودنا إلى التَّوبة، فهذا ما يريده الله منَّا، قلوباً تائبة منكسرة، وليس لباساً أسود وشكليَّات أو كلمات رثاء. يريد دموع توبتنا الحقيقيَّة وليس دموعنا على المصلوب، لأنَّ المصلوب لم يبقَ مُعلَّقاً على الصَّليب، بل قام من موته في اليوم الثَّالث كي يعطينا الحياة بقيامته ويُصالحنا مع الله. لذلك، وتحديداً في ذكرى صلبه وقيامته، يجب أن نشكره على محبَّته لنا وتضحيته بنفسه من أجلنا، وانتصاره على سُلطان الموت (أي إبليس).
يقول الكتاب المقدَّس:
“مَزِّقُوا قُلُوبَكُمْ لاَ ثِيَابَكُمْ. ارْجِعُوا إِلَى الرَّبِّ إِلَهِكُمْ لأَنَّهُ رَؤُوفٌ وَرَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّأْفَةِ، وَلاَ يُسَرُّ بِالْعِقَابِ.” (سِفر يوئيل 13:2)
وذلك لأنَّ بني إسرائيل اعتادوا على تمزيق ثيابهم كدليل حُزن على الخطايا، كالكثير من النَّاس الذين يحزنون على المسيح في ذكرى صلبه، لكن ما يريده الله بالحقيقة هو تمزيق القلب وليس الثِّياب، أي التَّغيير القلبي والتَّوبة الصَّادقة تجاه الخطيَّة وعدم العودة إليها. هذا هو المعنى الحقيقي للحزن الإيجابي، وهذا ما يستحقّه منَّا المسيح الذي فدانا مع أنَّنا لا نستحق الفداء، وجعلنا أبناءً لله مع أنَّنا لا نستحق هذا التَّبني، فشكراً له اليوم وفي ذكرى صلبه وفي كلِّ يوم على ما فعله من أجلنا. سلِّم حياتك له الآن ومَلِّكهُ رَبّاً وسيِّداً عليها، وانضَمّ لعائلة الله كي تحيا معه إلى الأبد.
“فَإِنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ عَاجِزُونَ، مَاتَ الْمَسِيحُ عَنِ الْعُصَاةِ فِي الْوَقْتِ الْمُعَيَّنِ. إِذْ قَلَّمَا يَمُوتُ أَحَدٌ فِدَى إِنْسَانٍ بَارٍّ، بَلْ قَدْ يَتَجَرَّأُ أَحَدٌ أَنْ يَمُوتَ فِدَى إِنْسَانٍ صَالِحٍ. وَلَكِنَّ اللهَ أَثْبَتَ لَنَا مَحَبَّتَهُ، إِذْ وَنَحْنُ مَازِلْنَا خَاطِئِينَ مَاتَ الْمَسِيحُ عِوَضاً عَنَّا. وَمَادُمْنَا الآنَ قَدْ تَبَرَّرْنَا بِدَمِهِ، فَكَمْ بِالأَحْرَى نَخْلُصُ بِهِ مِنَ الْغَضَبِ الآتِي!” (رسالة بولُس الرَّسول إلى أهل روما 6:5-9)
مقالات مُشابِهة
غاية التضحية
أهمية الصلاة
الرجاء المؤكَّد