سنتحدث في هذا المقال عن التَّحقُّق النَّصِّي لمخطوطات العهد الجديد، وسنُخصِّص لاحقاً مقالاً آخراً حول الدقَّة التاريخيَّة لهذه المخطوطات.
إنَّ التَّحقُّق النَّصِّي أو ما يُعرَف أيضاً بالنَّقد النَّصِّي هو محاولة لإعادة جمع كلمات نَصّ قديم من خلال دراسة نُسَخ عديدة ومتفرِّقة منه، والمقارنة فيما بينها لمحاولة إيجاد ما يقوله النَّص الأصلي، وذلك في حال فقدان النُّسخة الأولى التي خُطَّت من الكاتب الأوَّل لهذا النَّص، أي النُّسخة الأصليَّة التي نُسِخت عنها النُّصوص الأُخرى. غالباً ما يوجد في هذه النُّسَخ اختلافات نُسمِّيها مُتغيِّرات نَصِّيَّة، لذلك نضطَرّ للتَّحقُّق منها، وهذه الاختلافات هي نتيجة أخطاء في النَّسخ ناتجة عن إغفال سَهو أو عَمد لبعض الكلمات، أو عن اختلاف الهجاء بالنِّسبة لكلمات أُخرى وهو من أكثر الاختلافات التي توجد عادةً في جميع عمليَّات النَّقد النَّصِّي، خاصَّةً مع مرور القرون الطَّويلة على تلك النُّصوص، ونظراً للتَّطوُّر الذي تمُرُّ به اللُّغات جميعها، وهذا تماماً ما حصل للُّغة اليونانيَّة، اللُّغة التي كُتبت فيها نصوص العهد الجديد.
لذلك إذا أردنا أن نتأكَّد من دقَّة وسلامة أيّ نَصّ تاريخي من خلال فحص المخطوطات لمعرفة إن كان النَّصّ الذي بين أيدينا اليوم هو نفسه ما خطَّهُ الكاتب بيَده قبل سنين طويلة، فسوف نجد من خلال الدِّراسة أنَّه كلَّما كان بين أيدينا مخطوطات أو نُسَخ أكثر عن النُّسخة الأصليَّة كلَّما كان ذلك أفضل، لماذا؟ لأنَّه يصبح حينها بإمكان الباحث المُتخصِّص أن يجمع كل تلك المخطوطات التي تحتوي على النُّصوص المختلفة ويُقارِن بينها ليتكشف إن كان يوجد فيها أخطاء في النَّسخ ويُصحِّحها. فكلَّما زاد عدد المخطوطات أكثر كلَّما صار تحديد الأخطاء (المُتغيِّرات النَصِّيَّة) فيها وتصحيحها أسهل. أحياناً قد يوجد تَلَف في المخطوطة، مكان الكلمة المُراد تصحيحها أو التَّأكُّد منها بناءً على نسخة أُخرى، وأحياناً أيضاً تكون أخطاء ظاهرة وواضحة مثل خطأ إملائي ظاهر، أو قد تُنسَخ كلمة بشكل خاطئ كونها تتشابه مع كلمة أُخرى وهذه من أكثر الأخطاء شيوعاً في النُّسَخ جميعها، لأنَّ النَّاسِخ قد يغفل سهواً عن نقل سَطر بكامله، وهذا غالباً ما يعود إلى سبب التَّشابُه في نهاية بعض الكلمات، فحين يعود النَّاسِخ وينظر إلى النَّص ليُكمل النَّسخ، تقع عينه على كلمة أُخرى تنتهي بنفس الشَّكل الذي تنتهي به الكلمة الأولى التي كان يجب أن يُكمل بعدها. أيضاً قد يُخطئ النَّاسِخ بالسَّمع إذا كان أحدٌ ما يقرأ النَّص على مسمعهِ، لأنَّ الكثير من الكلمات تتشابه في النُّطق، مع العِلم أنَّ هذه الطَّريقة بالنَّسخ، أي ترديد العبارات علی مسمَع الكاتب، كانت شائعة في القرون الأولی. وجميع أنواع الأخطاء التي ذكرناها يُصنِّفها العُلَماء بطريقة عِلميَّة ويأخذونها بعين الاعتبار خلال دراستهم للنُّصوص، ممَّا يساعدهم على فهم خلفيَّة الخطأ الذي أخطأَ به النَّاسِخ، ومن ثمَّ تصحيحه.
أحياناً أُخرى تكون الأخطاء غير واضحة، فهي تبدو أنَّها تتماشى بشكل طبيعي مع النَّص، وهي لن تُلاحَظ ولن يلتفت إليها الباحث باعتبارها خطأ في النَّسخ إلاّ من خلال المقارنة التي تحدُث عند النَّظر إلى مخطوطات أُخرى. لنأخذ مثلاً توضيحيّاً: في إنجيل يوحنَّا 4:1 ذكرَت بعض المخطوطات (لمَّا عَلِمَ يسوع)، لكن مخطوطات أُخرى ذكرَت (لمَّا عَلِمَ الرَّب)، هذا يجعل المُتخصِّصين يستخدمون أساليبهم العِلميَّة لتحديد ما هي الكلمة التي يجب أن تُستخدَم، هذا الاختيار يتمّ بناءً علی ما يُعرَف بالأدلَّة الدَّاخليَّة والأدلَّة الخارجيَّة، وسوف نتطرَّق بعد قليل إلی تعريف موجز لهذه الأدلَّة.
إنَّ كلمة (تحنَّنَ) باليونانيَّة بإمكانها أن تُقرأ (غَضِبَ) لاختلاف قراءة حرف واحد فيها (وقد وردت هكذا في بعض مخطوطات إنجيل مَرقُس 41:1)، وهذا الاختلاف (المُتغيِّر النَّصِّي) لن تُلاحظه إن كنتَ تقرأ النَّص من مخطوطة واحدة، وهكذا نوع من الأخطاء شائع بسبب سهولة الخطأ في نَسخ الكلمات المُتشابهة، أو بسبب عدم وضوح خَطّ اليَد في النُّسخة في بعض الأحيان. إن عُدنا للمثَل أعلاه (تحنَّنَ أو غَضِبَ) فقد يبدو مُربكاً معرفة أيُّهما الكلمة المقصودة تحديداً نظراً لأنَّ الكلمتين تتماشيان مع السِّياق، لكن غالباً ما يكون تصحيح الكلمات بناءً على سِياقها في النَّص سهلاً جدّاً، وإذا حاولنا أن نضرب لكم مثلاً عن ذلك من اللُّغة العربيَّة، نقول: (كان يشرب كلَّ صباح كوبٌ من كتيب البقر)، هكذا خطأ يُصَحَّح بسهولة كَونه بإمكاننا ملاحظة أنَّ الكاتب قصدَ كلمة (حليب). طبعاً قِدَم المخطوطة يلعب دوراً أيضا في إظهار الكلمات بوضوح لأنَّه إن وُجِدَ تَلَف في حرف معيَّن فقد يُغيِّر معنى الكلمة، وفي هذه الحال يُحاول الباحث أن يجد الكلمة الصَّحيحة في مخطوطات أُخرى، وهذه هي أساسيَّات عِلم النَّقد النَّصِّي في اكتشاف الأخطاء. لكن ماذا لو تعمَّدَ أحد النُّسَّاخ أن يُغيِّرَ في النَّصّ تغييراً معيَّناً عبر زيادة كلمات أو تنقيصها؟ حينها أيضاً سوف يتمّ كشف هذا التَّلاعُب من خلال المقارنة، فكما ذكرنا هذه هي غاية النَّقد النَّصِّي. إذاً التَّغيير يُصبح بالإمكان كشفه بسهولة مع تعدُّد المخطوطات، خصوصاً مع تعدُّد خطوط نَسخ المخطوطات، وهذا ما سنتحدَّث عنه بالتَّفصيل في مقالٍ آخر. فإذا ما غيَّرَ أحد النُسَّاخ كلمةٌ ما أو سطرٌ في النَّصّ بشكلٍ مُتعَمَّد، فحينها بالطَّبع لن تتَّفق نُسخَته مع النُّسَخ الأُخرى التي وُجِدت في مواضع بعيدة جغرافيّاً عن هذه النُّسخة التي قام بتغييراته فيها. الخطوط المتعدِّدة للنَّقل هي أفضل ضمان لكشف أيّ تغيير أو خطأ للتَّأكُّد من سلامة المخطوطات.
بإمكاننا أن نستنتج أنَّه إذا لم تتوفَّر المخطوطات بوفرة لنَصٍّ مُعيَّن، فسوف تُصبح العمليَّة صعبة جدّاً لأنَّه لن يمكننا أن نتأكَّد من تصحيح ما أخطأً به النَّاسِخ. وكل ما كان هناك عدد مخطوطات أكثر، كل ما كان كشف الأخطاء أسهل، والقدرة على معرفة ما إذا تلاعبَ أحدٌ ما بنصٍّ معيَّن أكبر.
الخطوط المتعدِّدة للنَّقل هي أفضل ضمان لكشف أيّ تغيير أو خطأ للتَّأكُّد من سلامة المخطوطات
الأدلة الخارجية
الأدلَّة الخارجيَّة هي الأدلَّة المُتعلِّقة بنوع المخطوطات وعمرها. ينظُر الباحثون إلى تاريخ المخطوطة، وكل ما كان تاريخها أقرب إلى النُّصوص الأصليَّة، كلّ ما كان هذا أفضل، وبالتَّالي احتمال الأخطاء فيها يكون أقَلّ. لكن توجد استثناءات لهذه القاعدة، وهي مرتبطة بنوعيَّة المخطوطة ونوعيَّة القراءة التي تحتويها، وهي تُصنَّف بحسب الباحثين باسم (العائلة التي تنتمي إليها المخطوطة). مثلاً: ناسِخ المخطوطة التي يُسمِّيها العُلَماء (66P ) مُهتمّ في شكل الخَطّ أكثر من اهتمامه بالدِّقة في النَّسخ، أمَّا مخطوطة (75P ) فعلى الرَّغم من كَونها غير نظيفة، والخَطّ فيها ليس جميلاً، لكن من المُلاحَظ أنَّ الأخطاء فيها التي ارتكبَها النَّاسِخ هي أخطاء بسيطة وقليلة جدّاً.
إذا ذَكرَت عشر مخطوطات من القرن الرَّابع كلمة (هكذا قالَ الرَّب) في موضعٍ ما في نَفس النَّصّ، وهذه المخطوطات تنتمي إلى نفس العائلة، وكانت منسوخة بشكل جيِّد جدّاً، لكن مخطوطة واحدة أُخرى ذَكرَت في الموضع نفسه عبارة (قالَ الرَّب يسوع)، حينها يتَّضح لنا أنَّ هذه الأخيرة هي الخطأ، حتَّى لو كانت تنتمي إلى العائلة نفسها، وحتَّى لو كانت أقدَم منهم.
إذا أردنا إعطاء مثال آخر عن كيف أنَّ نوع المخطوطة يجعلها أفضل من مخطوطة أقدَم منها سِنّاً، فالمثال الأفضل يكون عن مخطوطة (1739Codex)، المنسوخة من النَّاسِخ أفرايم الذي عاش في القرون الوسطى والذي وقَّعَ اسمه كناسِخ للمخطوطة، مُستخدِماً بنَسخِها أقدَم مخطوطة استطاع الحصول عليها تعود للقرن الخامس. وهو ناسِخ بارع، يُظهِر جدِّيَّة كبيرة في النَّسخ، لارتكابِه أخطاءً قليلة جدّاً وبسيطة يسهل تصحيحها.
الأدلة الداخلية
هنالك أيضاً ما يُسمَّى بين العُلَماء بالأدلَّة الدَّاخليَّة خلال عمليَّة التَّحقُّق النَّصِّي، وهي تأخذ بعين الاعتبار أُسلوب الكاتب والسِّياق الطَّبيعي للكلمة في النَّصّ، أعطينا سابقاً مثالاً من إنجيل يوحنَّا 1:4، وإذا أردنا أن نعرف من خلال الدَّليل الدَّاخلي له، أيُّهما الكلمة الأصَحّ بين كلمتَي “الرَّب” و “يسوع”، على الرَّغم من كَون الكلمتين يصحّ استخدامهما، لكن عندما يدقِّق العُلَماء يُلاحظون أنَّ يوحنَّا لم يستخدِم كلمة “رَب” لوَصف “يسوع” إلَّا بعد القيامة، وبالتَّالي رجحت الكفَّة لكلمة “يسوع”، هكذا يُستخدَم الدَّليل الدَّاخلي لتحديد الكلمة المناسبة.
المقاطع المتوازية (أي الأحداث نفسها التي تذكُرها الأناجيل المختلفة) تُسهِّل أيضاً عمليَّة التَّحقُّق النَّصِّي. حوالي 90 بالمئة من الأحداث التي ذكرَها مَرقُس في إنجيله مذكورة في أيضاً إنجيل متَّى، وهذا يُسهِّل تصحيح الاختلاف إذا وُجِد في موضِع معيَّن من إنجيل متَّى عند مقارنة المخطوطات، من خلال موضِع مؤكَّد من إنجيل مَرقُس والعكس صحيح.
يُقَسِّم العُلَماء مخطوطات العهد الجديد بحسب نوع الورق الذي كُتب عليه النَّص، توجد ثلاثة أنواع لهذا الورق وهي كما يلي:
- ورق البَردي Papyrus والذي كُتِبت عليه أقدَم المخطوطات كَونه كان الوسيلة المتوفِّرة للكتابة في القرنين الأوَّل والثَّاني. المخطوطات الأقدم لدينا اليوم مكتوبة على ورق البَردي، ويُرمَز لكل مخطوطة بالحرف P(أوَّل حرف من كلمة Papyrus) مع الرَّقم الذي يُعطى لها من المُختصِّين، مثلاً (P 20، P 72).
- الرُّقوق Parchments وهي مصنوعة من جلود الحيوانات، وقد بدأ استخدامها ابتداءً من القرن الثَّالث. كُتِبت عليها نصوص كاملة من العهد الجديد، وليس فقط رُقَعاً كما كان الحال مع ورق البَردي.
ومنها (Codex Vaticanus، Codex Sinaiticus، Codex Alexandrinus). - الورق المُصنَّع الذي بدأ استخدامه في مرحلة مُتقدِّمة من التَّاريخ (مع نهاية الألفيَّة الأولى) ولدينا اليوم الكثير من المخطوطات التي كُتِبت عليه، ويعود أقدَمها للقرن التَّاسع.
هذا التَّعريف للتَّحقُّق النَّصي هو نظرة سريعة لكنَّها شاملة، إذ إنَّه كفيل بوضع القارئ علی السِّكَّة الصَّحيحة في الطَّريق نحو باقي التَّفاصيل.
الكاتب: الأخ فرح
Minister & Theologian
- Fundamentals of New Testament Textual Criticism Paperback. Stanley E. Porter, Andrew W. Pitts.
- Studies in the Theory and Method of New Testament Textual Criticism. Eldon Jay Epp, Gordon D. Fee.
مقالات مُشابِهة
آيات عن عيد الميلاد
ما هو عيد الشعانين؟
تأملات عيد الميلاد: عيون الإيمان