ancient church ruins

الكثير من الأُمور تُنسَب خطأً لهذا المَجمَع والعديد من التَّكَهُّنات تدور حَوله، لذلك سوف نُقدِّم لمحة تاريخيَّة من مصادِر مُختَصَّة من أجل الإجابة على سؤال: ما الذي حصل في مَجمَع نيقية؟

عام 325 بعد الميلاد، اجتَمَعَ 318 أُسقُف في آسيا الصُّغرى بمدينة اسمُها نيقية، انعَقَدَ المَجمَع بأمر من الإمبراطور الرُّوماني قسطَنطين، الدَّاخِل الجَديد على المَسيحِيَّة. وقَد تَعَرَّضَت المَسيحِيَّة قبلَ قسطَنطين لِاضِّطهادٍ مُمَنهَج، فالعَديد من الأساقِفة الذينَ حَضَروا المَجلِس كانوا حامِلين في أجسامِهِم سِمات الاِضِّطهاد من نُدوب أو إعاقة جَسَدِيَّة تَعَرَّضوا لها تحتَ التَّعذيب وذلكَ فقَط لأنَّهُم كانوا مَسيحِيِّين، وكان هذا الاِضِّطهاد قَد تَوَقَّفَ حَديثاً سَنَة 311 ميلادِيَّة أي قبلَ سَنَوات قَليلة من انعِقاد المَجمَع. لكن ما الذي حَصَلَ حَقّاً في ذلكَ المَجلِس؟ يَظُن البَعض أنَّ المَجلِس اختَرَعَ عَقيدَة أُلوهِيَّة المَسيح، ويَظُن البَعض الآخَر أنَّ المَسيحِيِّين هُناك اختاروا الأناجيل وحَدَّدوا الكُتُب المُقَدَّسة بِأنفُسِهِم. لكن ماذا تَقول الأدِلَّة؟ هذا ما سَنُزيح السِّتار عَنهُ في السُّطور الآتِية التي سَتُعلِن لنا حَقيقَة ما حَصَلَ في مَجمَع نيقية.

نيقية وألوهية المسيح

دَعا الإمبراطور المَسيحِيِّين للاِنعِقاد بِسَبَب الجِدال مع أحَد الأساقِفة المَعروف بِاسم “آريوس”، والذي كانَ يَنشُر تَعليم مُخالِف لِما تَسَلَّمَتهُ الكَنيسة من الرُّسُل، وهذا التَّعليم يَقول أنَّ المَسيح على الرّغم من أنَّهُ أسمى من المَلائِكة ومن البَشَر، لكِنَّهُ ليسَ من نَفس جَوهَر الله وأنَّهُ كانَ هُناكَ وَقتٌ لم يَكُن فيهِ المَسيح مَوجوداً أصلاً، بل هو أوَّل من خَلَقَهُ الله. لم يؤمِن آريوس وأتباعه أنَّ المَسيح كانَ مُجَرَّد نَبي أو رَسول، بَل كانوا يؤمِنون أنَّهُ أكثَر من ذلك لكِنَّهُ أقَلّ مِمَّا كانَ المَسيحِيِّين الحَقيقِيِّين يؤمِنون بِهِ. لم يَختَلِق الأساقِفة في المَجمَع أُلوهِيَّة المَسيح بل دافَعوا عن تَعليمٍ سَبَقَ وتَسَلَّموه من قَبل، وهو أنَّ المَسيح مُساوي لله أي مُعادِلاً لَهُ في الجَوهَر. يَقول المُؤَرِّخ فيليب شاف: “لَطالَما آمَنَت الكَنيسة بالثَّالوث كَما أُعلِنَ على صَفَحات الكِتاب المُقَدَّس، وأقَرَّت ذلك عَبرَ مُمارَسَة المَعمودِيَّة بِاسمِ الآب والاِبن والرُّوح القُدُس”.¹

سَنَستَعرِض الآن بعض الإقتِباسات من آباء الكَنيسة قبلَ سِنين طَويلة من انعِقاد المَجمَع تُثبِت ما سَبَقَ وذُكِرَ أعلاه.


دافَعوا عن تَعليمٍ سَبَقَ وتَسَلَّموه من قَبل، وهو أنَّ المسيح مُساوي لله


ألوهية المسيح قبل نيقية

  1. إكليمِندُس الرُّوماني هو أحَد أساقِفَة كَنيسَة روما في القَرن الأوَّل الميلادي، كَتَبَ رِسالة لِكَنيسَة كورِنثوس، والمُلاحَظ أنَّهُ يَستَخدِم في الرِّسالة وَصفاً لِلمَسيح تَماماً كَما وَصَفَهُ العَهد الجَديد، مُساوي لله لكِنَّهُ في نَفس الوَقت أُقنوماً بِذاتِهِ، حَيثُ يَقول: “… هذهِ البَرَكة حَلَّت على الذينَ اختارَهُم الله عَبرَ يسوع المَسيح رَبَّنا، الذي لَهُ كُل المَجد إلى الأبَد. آمين
    وفي هذهِ الجُملة يُساوي بينَ الأقانيم الثَّلاثة للثَّالوث فيقول: “…كما أنَّ الله حَيّ، والرَّب يسوع المَسيح حَيّ، والرُّوح القُدُس حَيّ…”
    سَنَكتَفي بهذا القدر مِمَّا كَتَبَهُ إكليمِندُس مع العِلم أنَّهُ يتَحَدَّث في رِسالَتِهِ كُلّها بِلَهجة شَبيهة لتِلكَ التي تحدَّثَ بِها الرُّسُل والرَّب يسوع نَفسَهُ فيما يتَعَلَّق بهذا التَّعليم.

  2. إغناطيوس أُسقُف أنطاكية هو أحَد شُهَداء المَسيحِيَّة، وقَد كَتَبَ في بِدايَة القَرن الميلادي الثَّاني مَجموعَة رَسائِل لِكَنائِس مُختَلِفة عِندَما كانَ ذاهِباً على طَريق الشَّهادة لِكَي يُعدَم في روما.
    وفي بِدايَة رِسالَتِهِ إلى كَنيسَة أفَسُس يَكتُب إغناطيوس الكَلِمات التَّالِية: “من إغناطيوس المَدعو أيضاً ثِيوفورُس، إلى الكَنيسة التي بورِكَت في العَظَمة بِحَسَب مِلء الله الآب،… بإرادَة الله الآب وإرادَة يَسوع المَسيح إلهنا …”
    ويُضيف أيضاً في نَفس الرِّسالة: “… لأنَّ يسوع المَسيح إلهَنا، حُبِلَ بِهِ من مَريَم بِحَسَب تَدبير الله.”
    وفي رِسالَتِهِ إلى كَنيسَة روما يَكتُب: “..لأنَّ إلهَنا يسوع المَسيح، بِكَونِهِ في الآب..”
    يُمَيِّز إغناطيوس في الإقتِباسات المَذكورة بينَ أقانيم الثَّالوث دونَ أن يُشير في تَعليمِهِ إلى تَعَدُّد الآلِهَة طالَما أنَّهُ يَعتَبِر تِلكَ الأقانيم إلهٌ واحِد، تَماماً كَما يَفعَل كُتَّاب العَهد الجَديد.
    من المُلاحَظ كيفَ أنَّ إكليمِندُس وإغناطيوس لا يُحاوِلانِ شَرح هذهِ التَّعاليم ولا يَتَحَدَّثانِ عَنها وكأنَّها مَصدَر جَدَل، بَل على العَكس يَستَخدِمانها وكأنَّها من المُسَلَّمات في التَّعليم المَسيحي، وهذا طَبعاً لأنَّها كذلك.

  3. مِلِّيتو السَّاردِسي الذي عاشَ في القَرن الميلادي الثَّاني والذي قالَ في إحدَى عِظاتِهِ بِعيد الفِصح: “…الذي خَلَقَ كُل الأشياء، عُلِّقَ على خَشَبة… الذي خَلَقَ السَّماوات والأرض وكَوَّنَ الإنسان، الذي أنبَأَت عَنهُ أسفار التَّوراة والأنبِياء، الذي وُلِدَ من عَذراء، عُلِّقَ على خَشَبة، دُفِنَ لكِنَّهُ قامَ من المَوت، وصَعدَ إلى السَّماء وهو جالِس عن يَمين الآب…”²

شهادة من الوثنيين عن إيمان المسيحية

  1. لوسيان الكاتِب اليوناني في بِدايَة القَرن الثَّاني قالَ عن عِبادَة المَسيحِيِّين: “وكانَ في المَرتَبة الثَّانِية بعدَ ذلك الذي لا يَزالونَ يَعبُدونَهُ حتَّى اليَوم، الرَّجُل في فلسطين الذي صُلِبَ لأنَّهُ جَلَبَ هذا الشَّكل الجَديد من العِبادة إلى العالَم.”

شَهادَة لوسيان تُثبِت ما أشَرنا لَهُ أعلاه أنَّ أُلوهِيَّة المَسيح سَبَقَت نيقية بِسِنين لَيسَت بِقَليلة. على الرّغم من أنَّ هَدَف لوسيان هو نَقد الإيمان المَسيحي إلَّا أنَّ عِباراتَهُ سَجَّلَت لنا شَهادة مُهِمَّة لِتُزِدنا من الشِّعر بَيتاً حَولَ المَوضوع الذي نَتَحَدَّث عَنهُ.

  1. سيلسوس هو أيضاَ كاتِب يوناني من القَرن الثَّاني، اشتُهِرَ في نَقدِهِ لِلمَسيحِيَّة، وتُعَبِّر كِتاباته عن جَهل في العَقائِد المَسيحِيَّة لذلك هو يُسيء تَعريف المُعتَقَدات المَسيحِيَّة، وقَد تَكَفَّلَ المُدافِعين الأوائِل عن المَسيحِيَّة بالرَّد عليهِ وعلى رَأسِهِم أوريجانُس. لكن سيلسوس وعلى الرّغم من انتِقادِهِ لِلمَسيحِيَّة إلَّا أنَّهُ عَبَّرَ صَراحَةً عن عِبادَة المَسيحِيِّين لِيَسوع قبلَ سِنين طَويلة من انعِقاد مَجمَع نيقية: “… إن كانَ المَسيحِيِّين يَعبُدونَ إلهاً واحِداً لَكانَ لدَيهِم حِجَّة ضِدّنا. لكِنَّهُم يَعبُدونَ إنسان كانَ قَد ظَهَرَ حَديثاً…”
    يَرُد سيلسوس على اعتِراضات بَرَزَت من المَسيحِيِّين ضِد تَعَدُّد الآلِهة، مُحاوِلاً أن يَتَّهِم المَسيحِيِّين بِذات الفِعل لأنَّهُم يَعبُدون المَسيح. عَبَّرَ سيلسوس عن جَهلِهِ بِما يؤمِن بهِ المَسيحِيُّون وبِعَقيدَة الثَّالوث وأعطانا إثبات آخَر عن قِدَم أُلوهِيَّة المَسيح في التُّراث المَسيحي.

  2. كَتَبَ بلِني الصَّغير حاكِم بيثِينِيَّة وهي مُقاطَعة رومانِيَّة في آسيا الصُّغرى، كَتَبَ رَسائِل مَطلَع القَرن الثَّاني للإمبراطور الرُّوماني تراجان، وتَحَدَّثَ فيها عن نَزاهَة وصِدق المَسيحِيِّين بِكَونِهِم مُواطِنين صالِحين، وقَد عَبَّرَ للإمبراطور عن جَهلِهِ في كَيفِيَّة التَّصَرُّف مَعَهُم لأنَّهُم يَرفُضون تَقديم العِبادة للإمبراطور كَما جَرَت العادة بينَ المُواطِنين الرُّومان. وأوضَحَ في إحدى رَسائِلِهِ أنَّ المَسيحِيِّين كانوا يَعبُدون يسوع قبلَ قَرنَين على الأقَل من انعِقاد مَجمَع نيقية: ” كانوا يَجتَمِعونَ بِاستِمرار في يَوم مُحَدَّد لِكَي يُنشِدوا أناشيد لِتَكريم المَسيح وكأنَّهُ إلهاً لَهُم…”
church in arabic

هل حُددت الأسفار المقدسة في هذا المجمع؟

لم يَتَطَرَّق المَجمَع وَلا بأيّ شَكل للأسفار المُقَدَّسة، وَلا يوجَد أيّ دَليل يُشير لذلك، بَل على العَكس كانَ المُتَناظِرون يَستَخدِمون الكُتُب المُقَدَّسة نَفسَها في جِدالاتِهِم مِمَّا يَدُل على أنَّ الطَّرَفَين كانوا يَعتَبِرونَها مُقَدَّسة قبلَ أن يَدخُلوا المَجلِس أصلاً. يَقول برُوس شِلّي في كِتابِهِ تاريخ الكَنيسة: “الأناجيل الأربَعَة، قُبِلَت بالإجماع في الكَنيسة خِلال القَرن الثَّاني، وآباء الكَنيسة لاحَظوا وعَرَفوا الكُتُب المُزَيَّفة آنَذاك، وكانوا واثِقين أنَّ ما تُعَلِّمهُ الأناجيل الأربَعَة عن يسوع هو الحَقيقة”.³ كانَ الآريوسِيُّون في دِفاعِهِم عن مُعتَقَداتِهِم يَرُدُّونَ على المَسيحِيِّين بِاستِخدام الكُتُب نَفسها التي استَخدَمَها المَسيحِيُّون مُحاوِلينَ تَغيير مَعنى الآيات واللَّعِب على التَّأويل، الأمر الذي يَبدو سَخيفاً لو لم يَكونوا حَقّاً يؤمِنون بِوَحي هذهِ الكُتُب، كَما أنَّهُم لم يَستَخدِموا أيّ كُتُب أُخرى قَد تَكون مُقَدَّسة في نَظَرِهِم دونَ غَيرِها في نَظمِ رُدودِهِم. كُل البِدَع الأولى التي نَشَأت في كَنَف المَسيحِيَّة لم تَستَخدِم كُتُب غَير الكُتُب المُتَعارَف عليها. لِنَأخُذ مارسيون على سَبيل المِثال والذي كانَ أحَد الهَراطِقة في القَرن الثَّاني، فقَد حاوَلَ أخذ أجزاء مُعَيَّنة من الأسفار المُقَدَّسة لأنَّها تُناسِب مُعتَقَده، ولم يَأخُذ نُصوصاً من خارِج الكُتُب التي قُبِلَت من المَسيحِيِّين كأسفار قانونِيَّة.


كانَ المُتَناظِرون يَستخدِمون الكُتُب المُقَدَّسة نَفسَها في جِدالاتِهم


أُلوهِيَّة المَسيح آمَنَ بِها آباء الكَنيسة، عَلَّموها لِغَيرِهِم واستُشهِدوا من أجلِها. وهؤلاء الذينَ حَمَلوا في أجسادِهِم سِمات التَّعذيب هُم الذينَ كانوا مُستَعِدِّين للمَوت في سَبيل إيمانِهِم، فَمِنَ الطَّبيعي أن لا يُساوِموا على الإيمان المُسَلَّم مَرَّةً لِلقِدِّيسين أمامَ البِدَع. ومن الواضِح أنَّهُ لم يَكُن لِقسطَنطين أيّ يَد لاهوتِيَّة في هذا المَوضوع فهوَ أرادَ انعِقاد المَجمَع لِكَي يَحُلّ المَسيحِيِّين المَسألة بُغيَة تَفادي الجَدَل والنِّزاعات في الإمبراطورِيَّة الرُّومانِيَّة.


  1. History of the Christian Church, Volume 1. Philip Schaff
  2. The Forgotten Trinity. James R. White
  3. Church History in Plain Language, 4th Edition. Bruce L. Shelley
  4. Reinventing Jesus. Daniel B. Wallace, J Ed Komoszewski, M. James Sawyer
  5. About Creeds of Christendom. Philip Schaff
  6. Apostolic Fathers Greek English Translations. Michael W. Holmes


مقالات مُشابِهة

قانون الإيمان النيقوي
الأساسيات في المسيحية
كيف صار المسيح لعنة لأجلنا؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.