Women in the market in first century

تعرَّف في المقال التالي بشكل مختصر على دور المرأة في الكنيسة المسيحية الناشئة.

اعتراضات سيلسوس

سيلسوس الوثني الذي عاش في القرن الثاني كان أحد أبرز الذين انتَقدوا الإيمان المسيحي. ليس لدينا اليوم أيّ شيء من كتاباته سوى ما اقتبسه أوريجانوس في كتابه الذي كتبه خصِّيصاً للرَّد على سيلسوس.¹ أحد الاعتراضات التي طرحها سيلسوس ضد الإيمان المسيحي أنَّ النِّساء شكَّلنَ عنصراً بارزاً في المسيحيَّة تلك الأيَّام. قد لا نفهم هذا الاعتراض من وجهة نظر عصريَّة، لكنَّه يفتح لنا نافذة على التَّفكير السَّائد في القرن الثاني والذي كان يعتبر النِّساء ساذجات ومن السَّهل إقناعهنّ، بالتَّالي أنَّ المسيحيِّين كانوا يستغلُّون ذلك.

يتبع هذا الاعتراض اعتراضاً آخر يندرج تحت نفس التَّصنيف، ومفاده أنَّ المسيحيِّين يؤمنون بقيامة المسيح بالرَّغم من أنَّ أوَّل من شَهِد على القيامة هنَّ نساء. طبيعة هذا الاعتراض تتوضَّح حين نعلَم أنَّ شهادة المرأة في تلك الأيَّام لم تكن مصدر ثقة. قد يبدو هذا نتيجة تفكير بدائي رجعي لشعوب بدائيَّة، لكن هذا للأسف لا يزال موجوداً في بقع جغرافيَّة معيَّنة. المرأة في أيَّام الإمبراطوريَّة الرُّومانيَّة لم تكن قادرة على الانتخاب، وكانت تُعتبَر مواطن درجة ثانية إن صحَّ التَّعبير. كل هذه المفاهيم تحدَّاها الإيمان المسيحي متخطِّياً معايير عصره ومتقدِّماً عليها.

Difference early christian women AR graphic

شهادة المرأة في المسيحية

إحدى الجوانب الاجتماعيَّة المتعارَف عليها تلك الأيَّام هي التَّقليل من مصداقيَّة المرأة، فتلك مجتمعات كان الرِّجال فيها مُهَيمِنين، وكان بوسعهم أن يقرِّروا استبعاد شهادة المرأة من المحكمة. ومن الجدير بالذِّكر أيضاً أنَّ الحال لم يكن هكذا بالنِّسبة للنِّساء في المجتمعات المسيحيَّة المبكِّرة والتي قُبِلَت فيها القصص المأخوذة من النِّساء في الأناجيل (كالشَّهادة عن القيامة). يقول العالِم ريتشارد باكوم:

“لم تكن النِّساء مؤهَّلات للشَّهادة في المحاكم اليهوديَّة… }فقد سادَ مفهوم بين اليهود{ أنَّ النِّساء أقَلّ عقلانيَّة من الرِّجال، وأكثر تأثُّراً بالعاطفة، وأكثر عُرضة للتَّأثُّر، وأكثر عُرضة للقفز إلى الاستنتاجات دون تفكير مدروس… وبما أنَّ شهادة النِّساء في العالَم القديم (بما فيه فلسطين اليهوديَّة على وجه الخصوص) كانت تُعتبَر على نطاقٍ واسع غير موثوقة ولا يمكن الاعتماد عليها، فمن غير المرجَّح أن يكون هذا الدَّور الذي لعبته النِّساء في أحداث عيد الفصح قد تمَّ اختراعه… لا بُدَّ أنَّ دَور المرأة كان راسخاً بالفعل في التَّقليد لدرجة أنَّ أيّ كاتب إنجيل لم يستطع ببساطة قمعه.”²

بمجرَّد تدوين كُتَّاب الأناجيل لشهادة النِّساء فهذا يعطي مصداقيَّة لهؤلاء الكُتَّاب، لأنَّ تلفيق هكذا حدث لا يتناسب مع زَجّ نساء فيه وبالتالي تقديم أمر يخالف أعراف تلك الأيَّام. بإمكاننا القول إنَّ هذا الأمر فتحَ الباب على تغيير مهمّ في المجتمعات التي تأثَّرت بالمسيحيَّة.


بإمكاننا القول إنَّ هذا الأمر فتحَ الباب على تغيير مهمّ في المجتمعات التي تأثَّرت بالمسيحيَّة


تعاليم بولس وبطرس

كما سبق وأشرنا لم تكن الحال عند اليهود أفضل بكثير من الأُمَم، فقد كان اليهودي يشكُر الله كلَّ يوم على ثلاثة أُمور رئيسيَّة، وهي أنَّه رَجُل وليس امرأة، وأنَّه حُرّ وليس عبداً، وأنَّه يهوديّ وليس أُمَميّاً. بولس كان واحداً من هؤلاء، فهو يهودي متقدِّم في الدِّيانة اليهوديَّة، وهو فرِّيسي اِبن فرِّيسي كما يقول عن نفسه (أعمال الرُّسل 6:23)، لا يقصد بذلك أنَّ والده كان فرِّيسيّاً أيضاً بل يقصد أنَّه من أقحاح الفرِّيسيِّين، ولا شَكّ أنَّه كان يصلِّي صلاة الشُّكر هذه كجميع اليهود. لكن بعد أن صار مسيحيّاً تغيَّرت صلاته بحسب التَّغيير الذي أجراه فيه المسيح سواء في قلبه أو في مفاهيمه، إذ يقول بولس:

“لَا فَرْقَ بَعْدَ الآنَ بَيْنَ يَهُودِيٍّ وَيُونَانِيٍّ، أَوْ عَبْدٍ وَحُرٍّ، أَوْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعاً وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.” (رسالة بولس إلى أهل غلاطية 21:3)

“أَيُّهَا الأَزْوَاجُ، أَحِبُّوا زَوْجَاتِكُمْ مِثْلَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ الْكَنِيسَةَ وَبَذَلَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا” (رسالة بولس إلى أهل أفَسُس 25:5)

ما لا يمكن إنكاره عن تعاليم المسيح وأتباعه أنَّها تسمو في المحبَّة من كل الجوانب، فبينَ بولس وبطرس نجد تعاليم متوافقة عن ضرورة محبَّة الزَّوج لزوجته وإكرامها. وقد علَّم بطرس أنَّ الرِّجال يجب ألَّا يستهينوا بالنِّساء وأن يأخذوا آراءهنَّ بعين الاعتبار وأن يعطوهنَّ كرامة. هذه التَّعاليم تتخطَّى معايير ومفاهيم تلك البيئة:

“وَأَنْتُمْ، أَيُّهَا الأَزْوَاجُ، إِذْ تُسَاكِنُونَ زَوْجَاتِكُمْ عَالِمِينَ بِأَنَّهُنَّ أَضْعَفُ مِنْكُمْ، أَكْرِمُوهُنَّ بِاعْتِبَارِهِنَّ شَرِيكَاتٍ لَكُمْ فِي وِرَاثَةِ نِعْمَةِ الْحَيَاةِ، لِكَيْ لَا يَعُوقَ صَلَوَاتِكُمْ شَيْءٌ.” (رسالة بطرس الأولى 7:3)

بولس

بعض التأثيرات المسيحية

يسلِّط البعض الضَّوء على الآيات التي يتحدَّث فيها بولس عن دَور النِّساء في الكنيسة وأنَّه لا يمكن لهنَّ أن يكنَّ في دَور قيادي يتسلَّط على الرَّجل، ولا يأخذ هؤلاء بعين الاعتبار تعاليم بولس ككلّ متجاهلين أنَّه يتحدَّث عن مسائل محدَّدة في الكنيسة وذلك لكي يطعَنوا بشهادة العهد الجديد عن أهميَّة المرأة. لكن هذا الأمر يشبه النَّظر إلى النُّصوص بعين واحدة ففيه يتمّ تجاهل أفكار بُغية الاستفادة من أفكار أُخرى. يقول مايكل كروغر:

“في العالَم اليوناني الرُّوماني كان عدد النِّساء قليلاً، وهذا يرجع إلى قتل المولودين حديثاً من الإناث وارتفاع معدَّلات الوفيَّات بينهنَّ أثناء الولادة، وقد كانت تلك البيئة بشكل عام عدائيَّة مع النِّساء، لكن على النَّقيض من ذلك، كانت النِّساء أكثر وفرة في المسيحيَّة… وقد اقترح ستارك مجموعة متنوِّعة من الأسباب المحتمَلة للعدد غير المتناسب من النِّساء اللَّاتي اعتنقنَ المسيحيَّة، ولكن السَّبب الرَّئيسي هو أنَّ المسيحيَّة قدَّمت بيئة أكثر ملاءمة وإيجابيَّة للنِّساء مقارنةً بمكانة المرأة في العالَم اليوناني الرُّوماني. ولا بُدَّ أنَّ البيئة المؤاتية هذه كانت تشمل فُرَص المشاركة الحقيقيَّة للنِّساء في الخدمة الدِّينيَّة (بشرف وكرامة)، وإدانة قتل الإناث (وهي الممارسة التي أدَّت إلى تقليص أعداد الإناث إلى حدٍّ كبير في السُّكَّان الوثنيِّين)، وقلَّة الزِّيجات من العرائس الأطفال (وهي الممارسة التي كانت ضارَّة بالفتيات الصَّغيرات)، وغياب الإجهاض (الذي أدَّى إلى زيادة الخصوبة)، والزَّواج الأكثر صحَّة حيث صار الطَّلاق مُداناً واستخدام البغايا/المحظيَّات محظوراً (وهو ما أدَّى أيضاً إلى زيادة الخصوبة بين الأزواج المسيحيِّين).”³

بطرس

النساء من ضمن تلاميذ المسيح

لعِبت النِّساء دَوراً أساسيّاً في الخدمة المسيحيَّة الأولى فقد تواجدت نساء كثيرات مع المسيح:

بَعْدَ ذلِكَ أَخَذَ يَجُولُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ وَقَرْيَةٍ وَاعِظاً وَمُبَشِّراً بِمَلَكُوتِ اللهِ وَكَانَ يُرَافِقُهُ تَلامِيذُهُ الاِثْنَا عَشَرَ، وَبَعْضُ النِّسَاءِ اللَّوَاتِي كُنَّ قَدْ شُفِينَ مِنْ أَرْوَاحٍ شِرِّيرَةٍ وَأَمْرَاضٍ، وَهُنَّ: مَرْيَمُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْمَجْدَلِيَّةِ الَّتِي طَرَدَ مِنْهَا سَبْعَةَ شَيَاطِينَ، وَيُوَنَّا زَوْجَةُ خُوزِي وَكِيلِ هِيرُودُسَ، وَسُوسَنَّةُ، وَغَيْرُهُنَّ كَثِيرَاتٌ مِمَّنْ كُنَّ يُسَاعِدْنَهُ بِأَمْوَالِهِنَّ. (إنجيل لوقا 1:8-3)

وحضرَ العديد من أتباع يسوع من النِّساء أثناء الصَّلب بينما كان معظم الاِثني عشر تلميذ غائبين (لوقا 27:23)، وكُنَّ أيضاً من أوائل الشُّهود على القيامة بينما كان معظم الاِثني عشر مختبئين. ممَّا يعطي المصداقيَّة لشهادة النِّساء بالتَّباين مع مفاهيم تلك الحقبة. يُظهر أيضاً سِفر أعمال الرُّسل أنَّ النِّساء كنَّ من ضمن الجماعة المسيحيَّة (أعمال الرُّسل 14:1)، ويخبرنا سِفر أعمال الرُّسل عن نساء كان لهنَّ دَور بارز في الخدمة المسيحيَّة مثل ليديا التي يبدو أنَّها كانت عضواً ثريّاً مؤسِّساً للكنيسة في فيلبِّي (أعمال الرُّسل 11:16-15)، وبريسكيلَّا التي استضافت الكنيسة في بيتها مع زوجها أكيلَّا (روما 3:16-5، كورنثوس الأولى 19:16). كما نجد في رسائل بولس تحيَّات كثيرة موجَّهة إلى نساء كان لهنَّ دَور في الخدمة المسيحيَّة.

أبرز ما كتب عن المرأة في القرن الثاني

يستمر حضور المرأة بقوَّة في القرن الثاني. يذكُر الوالي بليني الصَّغير في رسالته إلى الإمبراطور تراجان والتي يسأله فيها عن كيفيَّة التَّعامل مع المسيحيِّين، أنَّ هذا الدِّين الجديد منتشر في صفوف النِّساء وأنَّه استجوَب “اثنتين من العبيد كانتا تُدعيان شمَّاسَتين”. أمَّا إغناطيوس فكان كما بولُس يوجِّه في رسائله التَّحيَّة لبعض النِّساء اللَّواتي كان لهُنَّ دَور في حياة الكنيسة. بحسب العالِم مايكل كروغر:

“يبدو أنَّ بنات فيليبُّس لعِبنَ دَوراً هامّاً في الكنيسة عند مطلع القرن الثاني حيث تمَّ ذِكرهنَّ عدَّة مرَّات بطريقة إيجابيَّة من قِبل يوسيبيوس. حتَّى أنَّ مواقع قبورهنَّ في هيرابّوليس كانت معروفة جيِّداً. يخبرنا كِتاب العمل الشَّعبي في القرن الثاني “راعي هرماس” عن امرأة اسمها جرابتي والتي كان لها على ما يبدو خدمة معروفة للأرامل والأيتام. ويبدو أنَّ بعض الأرامل في المسيحيَّة المبكِّرة كان لديهنَّ خدَمات خاصَّة بهنَّ – يخبرنا لوسيان كيف كانت الأرامل والأطفال الأيتام يحضرون وجبات الطَّعام لمن هم في السِّجن… يقدِّم يوستينوس الشَّهيد شهادة إيجابيَّة للغاية عن امرأة رومانيَّة ثريَّة تحوَّلت إلى المسيحيَّة وتعاملَت بصبر مع زوجها الوثني الذي رفض التَّحوُّل للمسيحيَّة، وهكذا حدَث ليس نادراً في القرن الثاني وما بعده… تحوَّلت مارسيا (محظيَّة الإمبراطور كومودوس) إلى المسيحيَّة وحاولت تبشير الإمبراطور لكن دون جدوى، ومع ذلك فقد أقنعَته بأن يكون أكثر تساهلاً مع المسيحيِّين.”

الخاتمة

بإمكاننا سَرد روايات كثيرة أُخرى عن نفس الموضوع، لكن ما كتبناه يعطي لمحة عامَّة عن دَور المرأة في الكنيسة، فبالرَّغم من أنَّ دَورها ليس كدَور الرَّجل إلَّا أنَّه أساسي جداً. وقد لا تعِظ على المنبر لكنَّها تعِظ وتُعلِّم بأُسلوب حياتها ومواقفها وأدوارها الأُخرى المختلفة في الكنيسة. بالرَّغم من أنَّ التَّلاميذ الاِثني عشر كانوا جميعهم رجال، لكن الأدلَّة التاريخيَّة تشير إلى أنَّ النِّساء أدَّينَ دَوراً كبيراً في المراحل الأولى من المسيحيَّة سواء في القرن الأوَّل أو الثاني. فقد ساهمت النِّساء في انتشار المسيحيَّة بطرق عديدة، وقد خدَمنَ كمُبشِّرات ومعلِّمات، ومساعدات للفقراء والمحتاجين، وهناك حتَّى مؤشِّرات على أنَّ عدد النِّساء ربَّما كان أكبر بكثير من عدد الرِّجال في القرون القليلة الأولى من الحركة المسيحيَّة المبكِّرة.


مقالات مُشابِهة

ماذا يعلّم الكتاب المقدس عن المرأة؟
المرأة الفاضلة
ما هي مكانة المرأة في المسيحية؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.