Scroll that has light coming out from it

سنجيب في هذا المقال على اعتراضات تطال التعليم عن طبيعة المسيح في رسالة بولس إلى كنيسة روما.

المقدمة وتعريف الكريستولوجيا

الكريستولوجيا مصطلَح يُستخدم لوصف كل ما نعرفه عن شخص وطبيعة المسيح. نجد في رسالة بولس الرَّسول إلى كنيسة روما كريستولوجيا عالية، أي نظرة تبيِّن أُلوهية المسيح بحسب المعتقَد المسيحي القويم، لكن وعلى الرَّغم من ذلك تتعرَّض الكريستولوجيا في هذه الرِّسالة إلى نقد ومحاولة لإعادة النَّظر من بعض علماء الكتاب المقدَّس.

في هذا المقال:

  1. سرد للاعتراضات على آيتين مهمَّتين من الرِّسالة إلى روما.

  2. فحص الأدلَّة.

  3. الرَّد على الاعتراضات.
church in arabic

الاعتراض الأول

يقول بولس:

“بُولُسُ، عَبْدٌ لِيَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ، ٱلْمَدْعُوُّ رَسُولًا، ٱلْمُفْرَزُ لِإِنْجِيلِ ٱللهِ، ٱلَّذِي سَبَقَ فَوَعَدَ بِهِ بِأَنْبِيَائِهِ فِي ٱلْكُتُبِ ٱلْمُقَدَّسَةِ، عَنِ ٱبْنِهِ. ٱلَّذِي صَارَ مِنْ نَسْلِ دَاوُدَ مِنْ جِهَةِ ٱلْجَسَدِ، وَتَعَيَّنَ ٱبْنَ ٱللهِ بِقُوَّةٍ مِنْ جِهَةِ رُوحِ ٱلْقَدَاسَةِ، بِٱلْقِيَامَةِ مِنَ ٱلْأَمْوَاتِ: يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ رَبِّنَا.” (روما 3:1-4)

يعتبر البعض أنَّ هذا تصريح كريستولوجي سابق لبولس، أي أنَّه كان موجوداً على شكل إقرار إيمان أو تسبيحة اعتادت الكنيسة على تردادها وقد اقتبسها بولس هنا، لذلك هي تعطينا لمحة عن كريستولوجيا قديمة في الكنيسة وعن مفهوم كريستولوجي بدائي تطوَّر لاحقاً إلى المفهوم الحالي، وذلك لأنَّ كلمة “تعيَّن” هنا تعني أنَّه صار “اِبن الله” وكأنَّه لم يكن كذلك من قَبل بحسب مُعتقَد المسيحيين الأوائل (كما يدَّعي المعترضون). يُبرِز هذا الاعتراض عالِم العهد الجديد “جيمس دَن” إذ يُعلِّق على هذه الآية في كتابه Christology in the making بالقول:

“العامل الحاسم في محاولتنا العودة إلى المعنى الأصلي لهذه الصِّيغة التي هي ما قبل بولس هو معنى القسم الثاني من هذه الجملة، إن الكلمة اليونانية Ορισθεντοσ تُترجَم عادةً بـ(تعيَّنَ) بمعنى (تبيَّنَ أو أُظهِرَ) لكن الأدلَّة المعاصرة لا تدعم حقاً مثل هذا التفسير…” بالنِّسبة له: “جُعِلَ اِبن الله هو المعنى الأكثر وضوحاً”.¹
وكون المسيح قد عُيِّنَ في مكانٍ ما كاِبن الله، فهذا يعني أنَّ مفهوم المسيحيِّين الأوائل عن المسيح لم يكُن كما يؤمن المسيحيُّون اليوم بحسب جيمس دَن. وهذا ما أثنى عليه من بعده “بارت إرمان” وقال إنَّ كلمة “تعيَّنَ” هنا تشير إلى مفهوم كريستولوجي قديم في الكنيسة يعلِّم أنَّ المسيحيِّين الأوائل آمنوا بتعيين الله للمسيح كاِبن في القيامة وليس أنَّ المسيح اِبن الله من الأزَل، ليتطوَّر هذا المفهوم لاحقاً وتدريجياً إلى المفهوم المسيحي التَّقليدي².

على حدّ تعبير إرمان: هذا التَّصريح سابق لبولس لأنَّ عبارة “روح القداسة” تشير إلى أصل آرامي وليس يوناني، فهو بالتالي إقرار قديم يعود لكنيسة أورشليم التي كانت لُغتها الأولى الآراميَّة، الخُلاصة بالنِّسبة له أنَّ هذا تصريح قديم وبدائي عن المسيح لذلك هو صحيح كَونه الأقدم، والكلمة المترجَمة “تبيَّنَ” تعني صار في القيامة اِبن الله.

بولس

الردود على هذا الاعتراض

  1. كَون الآيتين أعلاه تحتويان على إقرار إيمان أو تسبيحة (وهذا يبقى مجرَّد تخمين)، فليس بالضَّرورة أبداً افتراض هذا القول كإقرار أو شهادة إيمان سابق، فالعديد من الكلمات استخدمها بولس بهذا الأسلوب وليس علينا تفسيرها كلّها بوجوب وجود إقرار إيمان سابق، كما أنَّه أقصر من أن يكون إقرار إيمان بعكس الإقرار الذي استشهدَ به بولس في (كورنثوس الأولى 23:11-26).

  2. حتى لو كان هذا إقرار إيمان فلا يترتَّب عن ذلك بالضَّرورة أنَّ الكلمة اليونانية “تعيَّنَ” تعني أنَّه صار اِبن الله في هذه المرحلة من الزَّمن، بل تعني تبَرهَنَ أيضاً أو تثبَّتَ أو أُعلِنَ، وهذا استخدام وارد لها كما نرى في الرِّسالة إلى العبرانيِّين:


    “يُعَيِّنُ أَيْضًا يَوْمًا قَائِلًا فِي دَاوُدَ: «ٱلْيَوْمَ» بَعْدَ زَمَانٍ هَذَا مِقْدَارُهُ، كَمَا قِيلَ: «ٱلْيَوْمَ، إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ، فَلَا تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ (الرِّسالة إلى العبرانيِّين 7:4)

اعتراض آخر على فكرة مشابهة

اعتراض مُشابِه يظهر أيضاً عبر الاستشهاد بعظة بطرس والتي وردَ فيها:

“فَلْيَعْلَمْ يَقِينًا جَمِيعُ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ أَنَّ ٱللهَ جَعَلَ يَسُوعَ هَذَا، ٱلَّذِي صَلَبْتُمُوهُ أَنْتُمْ، رَبًّا وَمَسِيحًا».” (أعمال الرُّسل 36:2)

نجد هنا نفس العائق التَّفسيري، فكيف يُجعل يسوع اِبن الله؟ ألم يكن أزليّاً كذلك كما نلاحظ في مواضع أُخرى من الكتاب المقدَّس؟ لا يجب أن تُفهم هذه الآية وكأنَّها تتحدَّث عن طبيعة المسيح الجوهريَّة أو الأنطولوجيَّة (المختصَّة بالكينونة)، لأنَّ بطرس هنا يستخدم الأسلوب العبري في التَّعبير والذي يشير لمرحلة مفصليَّة في حياة الشَّخص تتجلَّى فيها صفاته، كما نرى في المزمور الثاني الذي أيضاً يقتبس منه بطرس في عظته التالية:
“إِنِّي أُخْبِرُ مِنْ جِهَةِ قَضَاءِ ٱلرَّبِّ: قَالَ لِي: «أَنْتَ ٱبْنِي، أَنَا ٱلْيَوْمَ وَلَدْتُكَ.” (مزمور 7:2)

المزمور المسياني هذا كان يُتلى عند مَسح الملوك، لذلك عبارة “أَنْتَ ابْنِي، أَنَا اليَوْمَ وَلَدْتُكَ” لا تعني أنَّ الملِك لم يكُن اِبناً لله بالمعنى الرُّوحي للكلمة لأنَّ المؤمن هو اِبن الله، بل اِبن الله هنا تعني أنَّ الملِك يحكُم بِاسم الله وأنَّ عمله هو امتداد لعمل الله، لذلك يُطلِق الله اِسم آلهة على الملوك في موضع آخر: “أَنَا قُلْتُ: «إِنَّكُمْ آلِهَةٌ، وَجَمِيعَكُمْ بَنُو الْعَلِيِّ.” (مزمور 6:82) ليكون بذلك قد أعلَن الله عن مكانة الملِك الجديدة التي ظهرت عند تتويجه بالمُلك.

يقول سيمون ج. غاثركول: “الأجزاء المشهورة من رسالة روما وأعمال الرُّسل بأنَّها تقدِّم دليلاً على وجود كريستولوجيا سابقة وبدائيَّة تقوم على مبادئ كالتَّمجيد والتَّبنِّي، هي لا توحي ذلك في الواقع… من المهم إعطاء وصف لطبيعة تمجيد يسوع الذي يأخذ على محمل الجد الأفعال “جُعِلَ” و”عُيِّنَ” في أعمال الرُّسل 36:2 وروما 4:1. بحيث تُفهم هذه الأفعال على أنَّها أدوار جديدة يأخذها يسوع، وتمديداً أو تعظيماً لسُلطته (بالتَّوازي مع تمديد أو تعظيم مُلك الله) فيما يتعلَّق بكَون متغيِّر وما زال يتغيَّر، ولكن ليس كإشارة إلى التَّغيير في طبيعته أو هويَّته بالنِّسبة إلى الله³“.

لذلك من الأصح فهم الكريستولوجيا هنا فيما يتوافق مع الكريستولوجيا العامَّة في العهد الجديد، خاصَّة وأنَّ أقدم كريستولوجيا لدى بولس هي أعلى كريستولوجيا كما يظهر في التَّرنيمة التي يستشهد بها بولس في فيلبِّي 2 والتي هي سابقة لبولس، وأمثلة أُخرى أيضاً كثيرة كالكريستولوجيا في رسالة كورنثوس الأولى التي هي أقدم من الرِّسالة إلى روما.

الخلاصة

  1. المفهوم اللَّاهوتي عن طبيعة المسيح لم يتطوَّر لدى المسيحيَّين بعد قيامته، بل استمرَّ كما كان عليه من قبل.

  2. المسيحيُّون الأوائل ربطوا هويَّة المسيح بالله.

  3. الكلمات التي تمَّ الاعتراض عليها في الآيات أعلاه، تمَّ تفسيرها بطريقة مغلوطة من قِبل المُعترِضين.

من الأصح فهم الكريستولوجيا هنا فيما يتوافق مع الكريستولوجيا العامَّة في العهد الجديد


الاعتراض الثاني

يقول بولس:

“وَلَهُمُ ٱلْآبَاءُ، وَمِنْهُمُ ٱلْمَسِيحُ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، ٱلْكَائِنُ عَلَى ٱلْكُلِّ إِلَهًا مُبَارَكًا إِلَى ٱلْأَبَدِ. آمِينَ.” (روما 5:9)

هذه الآية مُشابهة جداً لنظيرتها في (روما 3:1-4)، فهي تتحدَّث عن طبيعتَيّ المسيح، هو من نَسل الآباء الإسرائيليِّين ومنهم داود حسب الجسد، وهو في نفس الوقت كائن على الكُل إلهاً مبارَكاً. يُنكر البعض هذه الطَّريقة في التَّرجمة ويقولون إنَّها يجب أن تكون: “…المسيح الذي هو فوق الكُل (الآباء). مبارَك الله إلى الأبد.” التَّرجمة بهذه الطَّريقة مستبعَدة لسببين، الأوَّل أنَّ تسبيح الله بجملة منفردة لا يتماشى مع هذا السِّياق، فمن الغريب جداً أن تكون ترجمة الآية هكذا، وسيَستغربها أيّ قارئ لها حتى ولو كانت توافق معتقداته اللَّاهوتيَّة، كما أنَّ Ο ωνاليونانيَّة من الأفضل أن تترجَم بالإشارة إلى شخص المسيح، فهذه العبارة كقاعدة عامَّة ترتبط بما يأتي قبلها، ومن عادة بولس في تسبيحاته أن يربط الآيات مع بعضها.

new testament in arabic

قاعدة لغوية يونانية مهمة

الاعتراض الأكثر تكراراً بأنَّ هذه الآية لا تتحدَّث عن المسيح باعتباره “الله”، هو أنَّ بولس لم يُشِر في أيّ مكان آخر إلى المسيح بهذه الطَّريقة بل يُشير له عادةً فقط بِاسم “الرَّب”. لكن بولس في الواقع أشارَ للمسيح على أنَّه الله في موضع آخر:

“فِيمَا نَنْتَظِرُ تَحْقِيقَ رَجَائِنَا السَّعِيدِ، ثُمَّ الظُّهُورَ العَلَنِيَّ لِمَجْدِ إِلَهِنَا وَمُخَلِّصِنَا الْعَظِيمِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ” (تيطُس 13:2)

القاعدة اليونانيَّة المطبَّقة هنا تُعرَف بِاسم قاعدة “جرانفيل شارب” وهذه القاعدة مهمَّة جداً لترجمة هذه الآية وأيضاً الآية من رسالة بطرس الثانية 1:1 بشكل صحيح، فهاتان الآيتين تتعاملان بشكل مباشر مع أُلوهيَّة المسيح إذ تُظهرانها بشكل واضح تماماً. تنصّ هذه القاعدة على أنَّه عندما يكون لديك اِسمان وهما ليسا اسمَي علَم، لكنَّهما يصِفان شخصاً ما، والاِسمان متَّصِلان بحرف عطف، في اليونانية “Και” ويسبق الاِسم الأوَّل التَّعريف، أمَّا الثاني لا يكون مُعرَّفاً، فهذا يعني أنَّ الكلمتين تُشيران إلى نفس الشَّخص.

الردود على الاعتراض الثاني

يعدِّد جيمس وايت ثلاث حجج تدعم الرَّأي الذي يقول إنَّ الآية في روما 5:9 تُشير إلى أُلوهيَّة المسيح. وسأُلخِّص هذه الحجج كما يلي:

  1. لو قُسِّمَت الآية إلى قسمين لكان هذا سيؤدِّي إلى صعوبات في التَّرجمة، لأنَّ بعض الكلمات ستصبح زائدة عن الحاجة، وسيُفقَد توازن الجملة باللُّغة اليونانيَّة، ذلك هذا يؤكّد لنا أنَّ هذه الآية بأكملها تُشير إلى المسيح فقط.

  2. لا يَسمح السِّياق بفَصل التَّسبيحة عن ما سبقها، فطريقة بولس المعتادة بالكتابة تربط تمجيد الله دائماً بالحديث عن المسيح ولا تَفصِل الجُمَل عن بعضها، وهذا ما يظهر في كل تسبيحاته الأُخرى.

  3. سأقتبس الحجَّة النِّهائيَّة من الكتاب بشكل مباشر: “في العهد الجديد اليوناني، وفي التَّرجمة اليونانيَّة للعهد القديم (التَّرجمة السَّبعينيَّة)، تأتي كلمة “مبارَك” دائماً قبل كلمة “الله”، ولكن هنا في روما 5:9 تأتي بعد كلمة “الله”، ممَّا يُشير إلى أنَّ “البرَكة” مرتبطة بما ذُكِرَ قبلها (أي بالمسيح). هذه الحجَّة قويَّة جداً لدرجة أنَّ بروس ميتزجر (أحد أبرز علماء العهد الجديد) قال: “إنَّه من غير المعقول إطلاقاً أنَّ بولس الذي لا بُدَّ أنَّ أُذُنه كانت على دراية تامَّة بصيغة التَّسبيح المتكرِّرة باستمرار، أنَّه قد خرجَ في هذه الحالة المنفردة عن الاستخدام الثَّابت”. أضف إلى هذه الاعتبارات الهامَّة ما يلي: شهادة العديد من الآباء الأوائل أيضاً، والخُلاصة التي لا مفرّ منها أنَّ بولس يمدح عظمة شخص المسيح الذي جاء إلى العالَم من خلال الجنس اليهودي. فالله نفسه الذي هو فوق الكُل قد ظهرَ في الجسد، ولهذا يمنحه بولس المجد والكرامة.”

الخلاصة

  1. يُظهِر بولس أُلوهيَّة المسيح بشكل واضح في هذه الآية.

  2. التَّرجمة العربيَّة لهذه الآية دقيقة.

  3. يُظهِر بولس أُلوهيَّة المسيح بشكل واضح في أكثر من موضع في رسائله.


مقالات مُشابِهة

مقدمة للرسالة إلى أهل روما
ما هو الكتاب المقدس؟
كيف نعرف أن الله موجود؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.