man with outstretched arms in field with sun

يروي لنا سِفر الخُروج كيفَ استُعبِدَ شَعب إسرائيل من قِبَل الفَراعِنة في مِصر لمُدَّة أربَعمِئَة سَنة، ويُخبِرنا كيفَ افتَقَدَ الله شَعبَهُ وأخرَجَهُ بِذِراعٍ قَوِيَّة مِن أرض العُبودِيَّة.
صَنَعَ الله المُعجِزات وَسطَ الشَّعب، وتَمَجَّدَ الرَّب من خِلال إظهارِهِ لِأمانَتِهِ في تَتميم الوَعد الذي سَبَقَ فأعطاهُ لإبراهيم ولِنَسلِهِ، وتَمَجَّدَ أيضاً من خِلال إظهار دَينونَتِهِ العادِلَة على الأشرار.
بَعدَها طَلَبَ الرَّب الوَلاءَ من الشَّعب وطَلَبَ مِنهُم أن يُطيعوهُ مُكَرِّراً هذهِ العِبارة عِندَما سَرَدَ لَهُم الوَصايا

فَأَنَا الرَّبُّ إِلَهُكُمُ الَّذِي أَخْرَجَكُمْ مِنْ دِيَارِ مِصْرَ…
سِفر العَدَد 41:15

كانَ يُذَكِّرهُم دائِماً بِما فَعَلَهُ من أجلِهِم، مُشيراً إلى قُوَّة وأهَمِّيَّة الفِداء الإلهي، وإلى نِعمَة الخُروج من أرض العُبودِيَّة، الأمر الذي ما كانَ باستِطاعَتِهِم الحُصول عَليه دونَ يَد الرَّب.
لكِن وفي فَترَة تَرحال الشَّعب في البَرِّيَّة عَصوا أهَمّ الوَصايا وهي:

أَنَا هُوَ الرَّبُّ إِلَهُكَ الَّذِي حَرَّرَكَ مِنْ سِجْنِ الْعُبُودِيَّةِ فِي دِيَارِ مِصْرَ. لَا يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي.
سِفر التَّثنِيَة 6:5-7

صَنَعَ الشَّعب عِجلاً من ذَهَب ونَسَبوا لَهُ المَجد قائِلينَ أنَّهُ هو الإله الذي افتَداهُم من مِصر وحَرَّرَهُم من العُبودِيَّة، ناكِرينَ بذلك فَضل الإله الحَقيقي ومُعجِزاتهِ العَظيمة التي صَنَعَها في وَسطهِم، وبَرَكاتِهِ التي أغدَقَها علَيهِم والتي تَجَلَّت في إعالَتِهِ لَهُم في البَرِّيَّة المُقفِرَة.
إذاً ما الذي يَجِب أن يَحصُل الآن؟ ألا يَستَحِق هذا الشَّعب العِقاب؟ ألا يكون الله عادِلاً إن أنزَلَ علَيهِم دَينونَتَهُ؟ كُل هذهِ الأسئِلة جَوابُها ليسَ فقَط “نَعَم” بَل “بِالتَّأكيد”.
لكِن النَّبي موسى صَلَّى للرَّب وتَشَفَّعَ لِهذا الشَّعب لِكَي يَرتَدَّ حُمُوّ غَضَب الله عن الشَّعب، واستُجيبَت صَلاة موسى

فَتَرَاءَفَ الرَّبُّ وَلَمْ يُوْقِعْ بِشَعْبِهِ الْعِقَابَ الَّذِي تَوَعَّدَ بِهِ.
سِفر الخُروج 14:32

إذاً فالشَّعب كانَ يَستَحِق عِقاباً ودَينَونةً عادِلَة بسَبَب نَكثِهِ بِعُهودِهِ ونُكرانِهِ لِلجَميل الذي صَنَعَهُ الرَّب، لكن على الرُّغم من ذلك نَرى أنَّ الله رَحِمَ الشَّعب وتَراءَفَ علَيهِم، وهذهِ هي النِّعمَة.
العَدالة المُجَرَّدة من الرَّحمَة تَعني الدَّينونة والعِقاب المُحَتَّم، لكِن النِّعمة هي الجانِب الذي أظهَرَهُ الله وسُرَّ بِهِ، وأعطاهُ مَجَّاناً، مُظهِراً لشَعبِهِ كَم أنَّهُ رَحيم، حَيثُ قَدَّمَ لَهُم الغُفران بَدَل العِقاب، والإحسان بَدَل القَضاء.
هذهِ القِصَّة هي نَموذَج للحَياة البَشَرِيَّة كَكُل، فنَحنُ البَشَر خُطاة ومُذنِبين وفي حين أنَّنا نَستَحِق العِقاب العادِل، أنعَمَ علَينا الله بِأمرَين مُهِمَّين هُما نِعمَة الحَياة أوَّلاً ونِعمَة الفِداء ثانِياً.
نَستَنتِج إذاً أنَّ النِّعمة هي شَيء لا نَستَحِقّهُ كَبَشَر، ولا نَستَطيع الحُصول عليه بِمُفرَدِنا، وهي مُعطاةٌ لنا من الله الذي أنعَمَ بِها علينا بِسَخاءٍ لا حُدودَ لَهُ.

نِعمَة الحَياة

قالَ الرَّب لِآدَم أنَّ المَوت سَيَأتيهِ إذا عَصى أمرَ الله
وَلَكِنْ إِيَّاكَ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ مَعْرِفَةِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لأَنَّكَ حِينَ تَأْكُلُ مِنْهَا حَتْماً تَمُوت».
سِفر التَّكوين 17:2

لكِن بَعدَ عِصيان آدَم لِرَبِّهِ، كانَ عقِاب الله لَهُ أيضاً رَحيماً، صَحيحٌ أنَّ آدَم ماتَ روحِيّاً بانفِصالِهِ عن عَلاقَتِهِ بالله، لكِنَّ الله لَم يُفنِ البَشَرِيَّة المُمَثَّلة في آدَم، بَل أبقى الله على حَياة آدَم وأعلَنَ لَهُ نُبُوءَةً عن الطَّريق الذي سَيَصنَعهُ الله لِخَلاص بَني البَشَر بِفِداء المَسيح (سِفر التَّكوين 15:3)، عِندَما وَعَدَهُ أنَّ (نَسل المَرأة) أي يسوع المَسيح الذي سَيُولَد من عَذراء، سَيَأتي ويُظهِر سُمُوّ عَمَل النِّعمَة من خِلال الفِداء الذي سَيُقَدِّمهُ، ساحِقاً بذلكَ رَأس الحَيَّة (أي إبليس).
عَمَل الله مع آدَم هُنا هو نِعمَة لا يَستَحِقَّها آدَم، ولَم يَكُن باستِطاعَتِهِ أن يَحصُلَ علَيها أبَداً بِدون إرادَة الله. وهذهِ النِّعمَة لا تَزال مُستَمِرَّة في حَياة البَشر إلى يَومِنا هذا. فالله:

… يُشْرِقُ بِشَمْسِهِ عَلَى الأَشْرَارِ وَالصَّالِحِينَ، وَيُمْطِرُ عَلَى الأَبْرَارِ وَغَيْرِ الأَبْرَارِ.
إنجيل متَّى 45:5

أبقَى الله على نِعمَة الحَياة عِندَ البَشَر، في حين أنَّهُم يَستَحِقّونَ الفَناء كَما يَقول الكِتاب المُقَدَّس:

مِنْ إِحْسَانَاتِ الرَّبِّ أَنَّنَا لَمْ نَفْنَ، لأَنَّ مَرَاحِمَهُ لَا تَزُولُ.
سِفر مَراثي إرميا 22:3

وفي مَوضِعٍ آخَر يَقول الكِتاب:

«لَوْ لَمْ يُبْقِ لَنَا رَبُّ الْجُنُودِ نَسْلاً، لَصِرْنَا مِثْلَ سَدُومَ وَشَابَهْنَا عَمُورَةَ!»
رِسالة بولُس الرَّسول إلى أهل روما 29:9

خَطيئَة الإنسان وذَنبِهِ هي أصل جَميع الشُّرور في هذا العالَم، وأحياناً كَثيرة يَكبَح الله شُرور الكَثير من النَّاس، لكِنَّنا عادَةً لا نَشكُر الله على هذا الأمر في حين أنَّنا يَجِب أن نَفعَل ذلك.
صَلاح الله ونِعمَتَهُ مُمتَدَّة لِكُل البَشَر، فهو يَرزُق الجَميع ويُوَفِّر لَهُم ما يَحتاجونَهُ، يَرعى النَّاس ويُحيِي الشُّعوب، كُل الأُمور البَسيطة التي نَستَمتِع بِها في هذهِ الدُّنيا هي بِفَضل نِعمَة الرَّب علينا، فَوُجودنا بِحَد ذاتِهِ نِعمَة وهو أَمرٌ يَجِب أن نَشكُرَ الله عليهِ ونُمَجِّدهُ كُل يَوم.

نِعمَة الفِداء

لَم يَكتَفِ الله بالإبقاء على آدَم ونَسلِهِ، بَل صَنَعَ لَهُم فِداءً وأَوجَدَ لَهُم طَريقاً لِلخَلاص.
فنَحنُ كَبَشَر عاجِزين عن تَخليص أنفُسنا لأنَّنا لا نَقدِر أن نَدفَع ثَمَن ذُنوبنا مَهما فَعَلنا من أعمالٍ صالِحَة، فأعمالنا غَير قادِرَة على تَبريرِنا وعاجِزَة عن إعطاءِنا الحَياة الأبَدِيَّة، لأنَّنا نِعيش في طَبيعَتنا الرُّوحِيَّة المَيِّتَة التي وَرِثناها عن آدَم والتي تَظهَر بِعَدَم القُدرَة على فِعل ما هو مَرضِيٌّ لدَى لله:

«لَيْسَ بَارٌّ، وَلا وَاحِدٌ. لَيْسَ مَنْ يُدْرِكُ. لَيْسَ مَنْ يَبْحَثُ عَنِ اللهِ. جَمِيعُ النَّاسِ قَدْ ضَلُّوا، وَصَارُوا كُلُّهُمْ بِلا نَفْعٍ. لَيْسَ مَنْ يُمَارِسُ الصَّلاحَ، لَا وَلا وَاحِدٌ.
رِسالة بولُس الرَّسول إلى أهل روما 10:3-12

بَل إنَّ نُفوسنا تُذنِب وتُخطِئ بِشَكل مُستَمِرّ، إذ إنَّها في حالَة تَمَرُّد وعِصيان دائِمة، لكِن الله صَنَعَ لنا فِداءً وطَريقاً لِلخَلاص، وأظهَرَ مَحَبَّتَهُ العَظيمة لَنا، لأنَّهُ ونَحنُ بَعد خُطاة ماتَ المَسيح لِأجلِنا.
وهذا الخَلاص هو من عَمَل النِّعمَة التي لا نَستَطيع أن نَخلُص بِدونها:

وَإِذْ كُنَّا نَحْنُ أَيْضاً أَمْوَاتاً بِالذُّنُوبِ، أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ، إِنَّمَا بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ… فَإِنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَهَذَا لَيْسَ مِنْكُمْ. إِنَّهُ هِبَةٌ مِنَ اللهِ، لَا عَلَى أَسَاسِ الأَعْمَالِ، حَتَّى لَا يَفْتَخِرَ أَحَدٌ.
رِسالة بولُس الرَّسول إلى أهل أفَسُس 2: 5, 8, 9

يَستَخدِم بولُس الرَّسول في وَصفِهِ لِعَمَلِيَّة الفِداء لُغَة المال والتَّداوُل المُتَّبَعَة في تِلكَ الحَقَبَة، حَيثُ كانَ الدَّائِن يَكتُب صَكَّاً (سَنَد أمانَة) بالنُّقود التي سَلَّفَها لِلمَدين، وعِندَما يستَرِدّ الدَّائِن أموالَهُ، كانَ يَكتُب على الصَّك باللُّغة اليونانِيَّة أو اللَّاتينِيَّة عَلامَة X والتي تَعني أنَّ الدَّينَ قَد دُفِع.
وفي إحدى أجمَل الإستِعارات في الكِتاب المُقَدَّس يَقول بولُس الرَّسول:

إِذْ قَدْ مَحَا صَكَّ الْفَرَائِضِ الْمَكْتُوبَ عَلَيْنَا وَالْمُنَاقِضَ لِمَصْلَحَتِنَا، بَلْ إِنَّهُ قَدْ أَزَالَهُ مِنَ الْوَسَطِ، مُسَمِّراً إِيَّاهُ عَلَى الصَّلِيبِ.
رِسالة بولُس الرَّسول إلى كولوسّي 14:2

دَين الذُّنوب والخَطايا الذي كانَ يُغرِقُنا، أكبَر بكَثير من قُدرَتِنا على دَفعِهِ، وأعظَم جِدّاً مِمّا يُمكِن أن نتَحَمَّلَهُ، فيَنبَغي أن نُقَدِّم حِساباً عن كُل أمرٍ نَقوم بهِ، ولأنَّ كُل خَطيئَة لَها ثَمَن، فَأُجرَة الخَطيئَة في قانون الله هي المَوت، لكِنَّ نِعمَتَهُ التي لا تُقَدَّر بِثَمَن حَرَّرَتنا من هذهِ الدُّيون عَبرَ فِداء المَسيح.

عَدالَة الله تتَطَلَّب مِنَّا أن نَعيش حَياة الكَمال، والمَسيح هو وَحدَهُ مَن تَمَّمَ عَدالَة الله من أجلِنا لأنَّهُ الوَحيد الذي عاشَ في الجَسَد حَياةً بِلا خَطيئَة، وقَدَّمَ نَفسَهُ أُضحِيَةً فِداءً عن ذُنوبِنا، وأعطانا التَّبرير المَجَّاني أمام العَدالَة الإلهِيَّة بِمُجَرَّد الإيمان بِهِ.
إذاً فالنِّعمَة التي قَدَّمَها المسيح تَمَّمَت العَدالَة وأظهَرَت الرَّحمَة، عَدالة الله تَحَقَّقَت بِعَمَل يسوع الذي استَوفَى شُروطَها.
وفَورَ إدراكِنا ما هي نِعمَة الله، سَنَكتَشِف كَم هي رائِعة، كُلَّما أدرَكنا ما صَنَعَهُ من أجلِنا كُلَّما زادَ استِعدادَنا لكَي نَعيش حَياةً مَرضِيَّة لَهُ، حِينَئِذٍ تُصبِح الأعمال الصَّالِحَة لَيسَت لِنَيل الخَلاص، بَل لإظهار الشُّكر والإمتِنان لله على ما قامَ بِهِ من أجلِ خَلاصِنا.


مقالات مُشابِهة

ماذا تعني النعمة في المسيحية؟
ما هي النعمة؟
آيات عن نعمة الله
قبول النعمة - جون ويسلي


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.