Line of dominos representing consequences that come from sin

فيما يلي تأمُّلات عن الخطيئة وتداعياتها من وجهة نظر مسيحية.

يخبرنا الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي في رواية الجريمة والعقاب¹ عن شابٍّ فقير اسمه روديون راسكولينكوف، وعن أفكاره الكثيرة وطموحاته حول مستقبله. هذا الرَّجل يعرف امرأةً عجوزاً قاسيةً تملك أموالاً كثيرة. قرَّر راسكولينكوف قتل هذه المرأة بحجَّة أنَّه أحقُّ بهذه الأموال، كونه شابّاً وسيستخدمها للمنفعة، عكس هذه المرأة التي تُعامل النَّاس بشكل سيّء وتُكدِّس الأموال وكأنَّها ستأخذها معها إلى القبر.

هذا التَّبرير للنَّفس دفعَ راسكولينكوف إلى ارتكاب جريمة بشعة وقتل هذه المرأة بطريقة وحشيَّة، لكن المفاجأة كانت عندما عَلِم أنَّ أُختها كانت شاهدة على الجريمة، لذلك قتلها أيضاً، وذنبها الوحيد كان وجودها في المكان والوقت غير المناسبين. وقد أدَّى ذلك لاحقاً إلى تدمير حياة راسكولينكوف.

sin in arabic

في هذا الحدث رسائل مهمَّة يريد دوستويفسكي إيصالها، وهي

أولاً: لا مبرِّر لمثل هذه الأخطاء، وإن كانت لديك مشكلة، فإنَّ اتِّخاذ الطُّرق الملتوية لا يمكن أن يكون حلّاً.
ثانياً: سلوك هذا الطَّريق له تداعيات، وتبرير قتل شخص واحد يُبرِّر قتل عدد لا يُحصى من النَّاس.
ثالثاً: اختيار هذا الطَّريق يجعل العودة صعبة، إن لم تكُن مستحيلة، لأنَّ الإنسان قد يرتكب أخطاءً لا تُعوَّض.

عندما برَّر راسكولنيكوف قتل السَّيِّدة الغنيَّة، فتحَ الباب على نفسه لقتل امرأة أُخرى. كان دوستويفكسي في هذه القصَّة يردّ على أفكار الفيلسوف الألماني نيتشه الذي قال إنَّ الرَّجل صاحب السُّلطة يجب أن يتعالى على أخلاقيَّات القطيع ويحصل على مُراده ولو اضطرَّ للعنف، فهو له مبرَّر، وغايته تبرِّر كل الوسائل. وصفَ نيتشه من يتبنَّى هذا التوجُّه بـ”الرَّجل الخارق” بالألمانيَّةÜbermensch ، إذ يُعلِّم نيتشه في كتابه “هكذا تكلَّم زرادشت” عن هذا الإنسان الخارق أو المتفوِّق بأنَّ لديه القدرة على تجاوز الحدود التقليديَّة للأخلاق والقيَم المجتمعيَّة المتعارَف عليها ليخلق قيَمه الخاصَّة، وهو الشَّخص الذي يجب أن يحقِّق إرادته بالكامل دون رادع من القيَم الدِّينيَّة أو الأخلاقيَّة التقليديَّة، إذ يرى نيتشه أنَّ تلك القيَم تُقيِّد الإنسان وتحرمه من بلوغ إمكانيَّاته الكاملة.

في حين أنَّ نيتشه اعتبرَ الرَّجل الخارق رمزاً للتحرُّر والإبداع، حيث يرفض الخضوع لأيّ نظام مفروض ويعيش وفق إرادة القوَّة، إلَّا أنَّ دوستويفسكي أظهرَ بُطلان هذا المنطق والمنحدَر الزَّلق الذي يقف عليه من يسلك هذا درب.

لدوستويفسكي في هذا الحدث تحليل عميق للنَّفس البشريَّة، وليس فقط للأحداث العشوائيَّة التي قد تحصل، كوجود شخص شاهد على الجريمة بالصُّدفة، فكُل فعل يقوم به البشر يُحفِّز لديهم دوافع سلوكيَّة تحثُّهم على تكراره. مثلاً، مُعظم القتَلة المتسلسلين لم تكُن نيَّتهم من البداية أن يكونوا هكذا، بل أصبحوا كما هم عليه بعد ارتكابهم الجريمة الأولى، التي فتحت لهم باباً لا عودة منه.

الخطيئة لا تفي بما تعد به

نجد هذا النَّمط في العديد من السُّلوكيَّات البشريَّة. يقول العالِم دون كارسون: “الخطيئة اجتماعيَّة بطبيعتها، فهي ليست فرديَّة بحتة أبداً. لا يمكنك ارتكاب أيّ خطيئة، مهما كانت خاصَّة، دون أن يكون لها تداعيات، ليس فقط على حياتك الشَّخصيَّة، ولكن أيضاً على المجتمع الذي تعيش فيه. ربَّما يكون الإدمان مسألة خاصَّة، مثل مشاهدة الإباحيَّة في الخفاء، وتظنّ أنَّه لن يتضرَّر أحدٌ سواك. لكن في الواقع، إذا كنت تُركِّز في السِّرّ على الإباحيَّة، فإنَّ الطَّريقة التي تنظر بها إلى الجنس الآخر ستتغيَّر تدريجياً، وسيؤثِّر ذلك على ديناميكيَّات الأُسرة، ممَّا سيؤثِّر بدوره على أطفالك.”²

لا يمكن أن يرتكب أحدهم خطيئة ويعتبر أنَّ الأمر انتهى هناك، فللخطيئة تأثيرات تتخطَّى اللَّحظة التي تُرتكب فيها. كل خطيئة ستقودك إلى أُخرى، إذ ستُحرِّض مُحفِّزاتك السُّلوكيَّة على تكرار الفعل بسبب اللَّذَّة حصلتَ عليها. نستطيع أن نستنتج أيضاً من رواية دوستويفسكي أنَّ الفعل الذي ارتكبه راسكولينكوف لم يعُد عليه بالفائدة المرجوَّة، بل دمَّره تدميراً وأوجدَ له عُقدة ذنب لا يستطيع التحرُّر منها.

وهذا ينطبق على كل خطيئة، فمُدمِنو الإباحيَّة تجعلهم المواد السَّامَّة التي يشاهدونها يعيشون في عالَم خيالي، حيث يتخيَّلون شعوراً غير موجود على أرض الواقع ممَّا يجعلهم يركضون وراء وَهم لا يستطيعون أن يعيشوه عمليّاً، وبالتَّالي يفقدون أيّ قُدرة على محبَّة شخص لشخصه، بل يسعون وراء شعور وَهمي ويقَعون ضحيَّة هذا الوهم، فالخطيئة لا تفي بما تعِدك به، بل تحجب رؤيتك عن الواقع.

في رواية “ذاكرة الأفيال” تقول أغاثا كريستي على لسان إحدى الشَّخصيَّات الذي كان يريد أن يُلمِّح إلى ماضي القتيل، ذلك الماضي الذي تسبَّب في قتله في الحاضر: “للخطايا القديمة، ظِلال طويلة”³ فالمُحقِّقون اليوم لا يُحقِّقون فقط في ماضي القاتل، بل في ماضي الضَّحية أيضاً. هذا لا يُبرِّر القتل طبعاً، لكن أحياناً قد يضع الإنسان نفسه في موقع يُعرِّض حياته للخطر من قِبل الآخرين بسبب تصرُّف لم يحسب تداعياته.

يمكننا تشبيه الخطيئة بنوع من العناية التي تُقدَّم في المستشفيات للحالات المُستعصية، فعندما يفقد الطَّبيب الأمل في شفاء مريض، يبدأ برعاية تداعيات المرض وليس المرض نفسه، فتصبح الأدوية التي يأخذها المريض هدفها تخفيف حدَّة المرض وليس علاجه. مثلاً إذا تألَّم يحصل على جرعة مُخدِّر، وإذا تعذَّر تنفُّسه يحصل على قناع الأوكسجين. الخطيئة تُشبه هذا النَّوع من العناية، فهي مُخدِّر مؤقَّت للألم، في حين أنَّك بحاجة إلى العلاج الحقيقي، الذي هو المسيح.


فالخطيئة لا تفي بما تعِدك به، بل تحجب رؤيتك عن الواقع


أمثلة من الكتاب المقدس

عندما نتحدَّث عن أنواع الخطايا، فليس المقصود تصنيفها أمام الله، فلا توجد خطيئة صغيرة إلى درجة لا تستدعي فداء الله، ولا خطيئة كبيرة إلى درجة لا يمكن غفُرانها بفداء المسيح. ومع ذلك، هناك من وجهة نظر بشريَّة درجات للخطيئة، فهي تبدأ صغيرة وتنتهي كبيرة، وتبدأ بشهوة أو فكرة وتنتهي بالفعل.

يقول يعقوب الرَّسول: “ثُمَّ ٱلشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَٱلْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا.” (رسالة يعقوب 1:‏15) AVD‬

تُلخِّص هذه الآية الفكرة المذكورة أعلاه، إذ إنَّ لكُل خطيئة تداعياتها، وتبدأ صغيرة ثمَّ تكبُر. وهذا يُذكِّرنا بخطيئة الملِك داود الذي قتلَ أوريَّا الحِثِّي ليُخفي زِناه مع امرأة هذا الأخير، وكل ذلك بدأ ليس فقط بنظرة شهوة، بل بأمر أبسط من ذلك، إذ كان داود ببساطة في المكان الذي لا يجب أن يكون فيه، فقد بقِيَ في أورشليم عندما كان يجب أن يكون على رأس جيشه!

ما الحل إذاً؟ الحل هو في الابتعاد عن الخطيئة من الأساس. وإن كانت حياتك مليئة بالعصيان، فإلهنا هو إله الفرصة الثَّانية، ومجال التَّوبة لا يزال مفتوحاً أمامك. استخدم تجاربك السَّابقة في الخطيئة لتُقدِّر نعمة الرَّب عليك ولتتذكَّر أن تتواضع، تماماً كما كان يفعل بولس الرَّسول عندما كان يستحضر ماضيه في اضطِّهاد المسيحيِّين، وخاصَّةً رِضاه برَجم استفانوس، حيث قال:

“فَإِنِّي أَنَا أَصْغَرُ الرُّسُلِ شَأْناً، وَلَسْتُ أَهْلاً لأَنْ أُدْعَى رَسُولاً لأَنِّي اضْطَهَدْتُ كَنِيسَةَ اللهِ” (كورنثوس الأولى 15:‏9)

في اللُّغة العبريَّة التي كُتب بها العهد القديم، هناك أكثر من كلمة تصِف الخطيئة، إحداها تُترجَم إلى العربيَّة بِـ”خطيئة” والأُخرى بِـ “تعَدٍّ” أو “إثم”. الأولى تصِف أيّ انتهاك لشريعة الله، أمَّا الثَّانية فتصِف انتهاكاً صادراً من شخص لا ينبغي أن يصدُر منه هذا الفعل. على سبيل المثال، من يزني يركتب خطيئة، أمَّا من يزني مع أحد أفراد عائلته، فإنَّه يرتكب تعَدِّياً، وهو الفعل نفسه ولكن بصيغته الأقبح.

يصِف يوحنَّا الرَّسول خطيئة المؤمن الذي ينتمي للمسيح، بأنَّها تعَدٍّ، حيث يقول:

“كُلُّ مَنْ يَفْعَلُ ٱلْخَطِيَّةَ يَفْعَلُ ٱلتَّعَدِّيَ أَيْضًا. وَٱلْخَطِيَّةُ هِيَ ٱلتَّعَدِّي” (رسالة يوحنَّا الأولى 4:3)

أي أنَّ الخطيئة، في هذه الحالة، صادرة من الشَّخص الذي لا ينبغي أن تصدُر منه. وهذا لا يعني أنَّ المؤمن لا يمكن أن يزِلّ أو يسقط، ولكن ينبغي ألَّا تكون الخطيئة أُسلوب حياة له، بل يجب أن يضع من أولويَّاته الابتعاد عنها.


مقالات مُشابِهة

كيف تتوب إلى الله؟
كيف يتبرر الإنسان أمام الله؟
هل كل الذنوب متشابهة؟


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.