سفرة طعام مليئة

ظنَّ أنَّه بتكبُّره سيحظى باهتمام المُجتمع الرَّاقي، لكنَّ غُروره أوصَلهُ إلى مأساة سيدفع ثمنها طوال عمره.

كانت نهاد بعمر الثَّانية عشرة حين توفِّي والدها، ولكي تساعد والدتها بمصروف المنزل ترَكت المدرسة وتوجَّهت لتعمل خادِمة في منزل أبو أمجد وهو أحد أغنِياء المنطقة.

عمِلت نهاد بجِدّ ونشاط، فزَوَّجها أبو أمجد من السَّائق الخاص به وأعطاهما غرفة في الحديقة ليعيشوا فيها، كانت نهاد تأخذ راتبها كاملاً وتُقدِّمه لوالدتها طوال حياتها إلى أن توَّفت والدتها.

رُزِقت نهاد بولَد فأسمتهُ “أسَد” راجِيةً أن يأخذ صفات اسمه ويتحلَّى بالثِّقة بالنَّفس والقوَّة والشَّجاعة كالأسَد، وقد بدا طِفلاً مُميَّزاً وتفوَّقَ بدِراسته ثمَّ التحقَ بكليَّة الطِّب وبعدها نالَ مِنحة وسافرَ إلى فرنسا ليتخصَّص، لكن بعد سَفره بمدَّة انقطعَت أخباره بشكل كُلّي. مرَّت السَّنوات والدَّمعة لا تُفارق عَيني نهاد وهي التي لم تَبكِ يوماً رغم قساوة الظُّروف التي مرَّت بها منذُ صِغرها، لكن انقطاع أخبار ولدها الوحيد عنها أضناها جدّاً وأحزنَ قلبها خاصَّةً بعد وفاة زوجها.

وشاءَت الصُّدَف أن يطلب منها أبو أمجد صاحب المنزل الذي أمضت حياتها تخدِمه، أن تتوجَّه معه إلى قصرهِ في المدينة كي تطهو الأطعمة التي يُحِبّ لأنَّ ضُيوفاً من عدَّة دُوَل سوفَ يَزورونه هناك، وكان أبو أمجد قد دعى الدّكتور أسَد للمجيء بعد أن عرفَ بمكانه لكي يُفاجئ نهاد دونَ معرفة أسَد بأنَّ أُمّه ستكون حاضرة في قصر أبو أمجد في المدينة.

الصدمة

وقفت نهاد في المطبخ تحضِّر الطَّعام فحضَّرت ما لذَّ وطاب من المأكولات، وحين انتهت من عملها جلست في المطبخ، دخل أبو أمجد وقال لها: تعالي معي يا نهاد فضُيوفي أحبّوا طبخكِ كثيراً وهم يريدون أن يشكروكِ شخصيّاً، وحينَ دخلت إلى غرفة الطَّعام رأت ابنها أسَد يجلس على الطَّاولة بين المدعوِّين ويضع يده على كتف فتاة جميلة تجلس بقُربِه، فصرخَت نهاد: أسَد بُنَيّ، وركضت إليه كي تُعانقه وتُقبِّله، لكنَّ ردَّة فعله كانت غير متوقَّعة أبداً فقد شعرَ بالإحراج الشَّديد من كَون أُمِّه خادِمة أمام مجتمع الأغنياء والمثقَّفين، فأبعدَ يدها عنه بحرَكة سريعة وقال مُرتبِكاً: أنتِ مخطئة أيَّتها السَّيِّدة، فأنا لستُ ابنكِ. وحين سمِعت نهاد تلك الكلمات وقفت مذهولة للحَظة ثمَّ وقعت أرضاً مغشيّاً عليها.

صرخَ أبو أمجد في وجه أسَد غاضباً: ماذا فعلتَ بأُمِّكَ أيُّها الأحمق؟ أتعرف كم ذرفَت من الدُّموع كي تعرف خبراً واحداً عنك؟

توفِّيَت نهاد بعد أسبوع أمضَته في قِسم العناية الفائقة في المستشفى إثر الصَّدمة التي ألمَّت بها، وأدركَ أسَد أنَّ غُروره وتكبُّره على والدته وخجلهِ من عملها سيبقى يدفع ثمنه حسرةً ونَدامة طوالَ عُمره لكن حيث لا ينفع النَّدم، عدا عن احتقار الآخرين له ونظرتهم تجاهه بازدِراء لأنَّ من لا خيرَ فيه لأهله فلن يكون فيه خيرٌ لأحد.

“إِذْ يَكُونُ النَّاسُ مُحِبِّينَ لأَنْفُسِهِمْ، مُحِبِّينَ لِلْمَالِ، مُتَكَبِّرِينَ، مُبَاهِينَ بِأَنْفُسِهِمْ، شَتَّامِينَ، غَيْرَ مُطِيعِينَ لِوَالِدِيهِمْ، نَاكِرِينَ لِلْجَمِيلِ،… وَلكِنَّهُمْ لَنْ يَزْدَادُوا تَقَدُّماً، لأَنَّ حَمَاقَتَهُمْ سَتَنْكَشِفُ لِلْجَمِيعِ،” (رسالة بولُس الثانية إلى تيموثاوس 2:3، 9)

الكاتبة: الأخت غادة

Author & Novelist


مقالات مُشابِهة

البخيل
عدالة السماء
قصة سارة


تبغى تتواصل مع مسيحي؟ تواصل معنا بكل امان الحين.