الكَثير من النَّاس يَعيشونَ حَياتهُم مُعتَقِدين بأنَّهُم بَعيدين عن أنظار الله وأنَّهُ لا حَسيبَ عليهِم ولا رَقيب، مع العِلم أنَّ جَميعهُم يَهابون نَظَرات الآخَرين لهُم لكِنَّهُم في نَفس الوَقت يَستَهينون بنَظرَة الله. سَنرى مِثالاً من حَياة بطرُس الذي تَعَلَّمَ دَرساً قاسِياً حينَ خافَ من نَظَرات النَّاس لهُ واستَهان بنَظرَة المسيح.
نحنُ نُعطي أهَمِّيَّة كَبيرة لنَظرَة الآخَرين لنا، فنَحسِب حِساب تَفكريهم من نَحوِنا وماذا سَيَظنُّون عَنَّا. مِمَّا يَدفَعنا لتَرتيب مَظهَرنا الخارِجي بِشَكل يتوافَق مع مَعايير البيئة والثَّقافة المُحيطة بِنا والتَّصَرُّف بطَريقة تُناسِب المُجتَمَع. فعِندما كُنَّا صِغاراً في طَورِ التَّعَلُّم كانَت نَظرَة عائِلَتنا مُهِمَّة جِدّاً لنا، لذلك حينَ كُنَّا نَرتَكِب فِعلاً سَيِّئاً كُنَّا نَخشى نَظَرات الأهل المَليئة بالعَتَب واللَّوم والتي تُمَهِّد الطَّريق لتَوبيخ لا تُحمَد عُقباه. وحينَ كَبرنا ظَلَّت فِكرَة أنَّ النَّاس مَحَطّ أنظار بَعضها البَعض تُقلِقنا وتُرهِقنا إلى حَدٍّ ما. فتَخَيَّل مَعي أنَّكَ في مَكانٍ عام وحَصَلَ مَعكَ مَوقِف مُحرِج، وبَدَأت النَّاس تَنظُر إلَيك بِشَكل جَماعي، فسَتَشعُر حينَها بأنَّ نَظَراتهُم ثَقيلة عليك ومُزعِجة جِدّاً لَك وأنَّكَ عاجِز عن تَحَمُّلِها لِدَرَجَة قَد تَتَمَنَّى لو أنَّ الأرض تَنشَقّ وتَبتَلِعك حتَّى تَهرُب من أنظار النَّاس وتَبتَعِد عن تَفكيرهِم بِك.
هُناكَ مَواقِف كَثيرة في حَياتنا نَتَمَنَّى لو لم يُشاهِدنا فيها أحَد، وهُناكَ أُمور فَعَلناها في الخَفاء لكِنَّنا لا نَتَجَرَّأ أن نُفصِح عنها في العَلَن. بطرُس بعدَ دَعوَة المسيح لهُ، لم يَغِب عن أنظار المسيح بَل كانَ دائِماً مَعهُ يَتَعَلَّم مِنهُ ويَنهَل من مَعرِفَتهِ، ومن المؤكَّد أنَّ بطرُس كانَ سَعيداً جِدّاً بأنظار يسوع المُوَجَّهة دائِماً نَحوَهُ والتي تَقودهُ وتَرعاهُ وتُراقِبه كيفَ يَنمو بالإيمان ويَتَعَلَّم. لكن بطرُس عندَ القَبض على المسيح، أنكَرَهُ ثَلاث مَرَّات خَوفاً من أن يُقبَض عليه، مع العِلم أنَّ بطرُس كانَ قَد أصَرَّ قبلَ ساعاتٍ قَليلة بأنَّهُ لن يُنكِر المسيح أبَداً وأنَّهُ مُستَعِد لأن يَمضي مَعهُ حتَّى المَوت. لكن نُكران بطرُس للمسيح في ساحَة دار رَئيس الكَهَنة كانَ بِداعي الخَوف دونَ أن يُفَكِّر بنَظَرات المسيح لَهُ حينها، ولا شَكّ بأنَّهُ ظَنَّ في تِلكَ اللَّحظة أنَّهُ غائِب عن أنظار يسوع وأنَّ أحَداً من التَّلاميذ لن يَعلَم بنُكرانِه للرَّب، لكن ما حَدَثَ مَعهُ مُباشَرةً لم يَكُن في الحُسبان، إذ يُدَوِّن لنا لوقا:
“…وَفِي الْحَالِ وَهُوَ مَازَالَ يَتَكَلَّمُ، صَاحَ الدِّيكُ. فَالْتَفَتَ الرَّبُّ وَنَظَرَ إِلَى بُطْرُسَ. فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلِمَةَ الرَّبِّ إِذْ قَالَ لَهُ: «قَبْلَ أَنْ يَصِيحَ الدِّيكُ تَكُونُ قَدْ أَنْكَرْتَنِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ«.” (إنجيل لوقا 60:22-61)
نَظَرات المسيح لبطرُس أتَت في تَوقيتٍ حَرِج لم يَتَمَنَّاهُ بطرُس، ولا شَكّ أنَّنا نَستَطيع تَخَيُّل كيفَ كانَ مَوقِف بطرُس في تِلكَ اللَّحظة، نَستَطيع أن نَتَخَيَّل نَظَرات الصَّدمة على وجَههِ المُنهَمِك بالتَّفكير والتَّبرير ومُحاوَلَة تَصحيح ما حَصَل، لأنَّهُ كانَ مُدرِكاً أنَّ ما مِن شَيء يُبَرِّر أو يُصلِح ما فَعَلَهُ سِوى نِعمَة المسيح التي خَلَّصَتهُ وهو خاطِئ من الأساس، والمَحَبَّة غير المَشروطة التي دَعَتهُ وهو في الأصل غير مُستَحِقّ. لذلك نَجِد لاحِقاً أنَّ بطرُس الذي أنكَرَ المسيح مَرَّة، تَعَلَّمَ مِمَّا حَصَلَ مَعهُ وراحَ يَشهَد عن إيمانهِ أمامَ الأُلوف من النَّاس، يُبَشِّرهُم بخَلاص يسوع ويَقودهُم للتَّوبة الحَقيقِيَّة، حتَّى أنَّهُ اضطُّهِدَ مَرَّاتٍ عَديدة بسَبَب أمانَتهِ ثُمَّ قَدَّمَ نَفسهُ في النِّهاية شَهيداً على مَذبَح الإيمان.
نظرة الآخرين
إن فَكَّرتَ مَلِيّاً بالأمر ستَجِد أنَّ نَظَرات الله للإنسان الخاطِئ هي أَمر مُربِك، أَمر لا يُريدهُ بَل يَخافهُ بشِدَّة لأنَّ الله بالنِّسبة لهُ هو القاضي الذي سَيَدينهُ ويُعاقِبهُ على خَطاياه، حتَّى قَد يَصِل الأمر بالبَعض إلى نُكران وُجود الله لكي يُخَدِّروا ضَمائِرهم ويَفعَلوا ما يَحلوا لَهُم دونَ حَسيبٍ أو رَقيب. في كِتابهِ “الوُجود والعَدَم” يَتحَدَّث الفَيلَسوف المُلحِد جان بّول سارتر عن “النَّظرة” وعن “الآخَرين” موضِحاً بَشاعَة نَظَرات الغُرَباء حينَ يُحَدِّقون بهِ حَيثُ خَصَّصَ جُزءاً من كِتابهِ “الكَينونة والعَدَم” للتَّحَدُّث عن هذا الأمر، وكيفَ أنَّ هوِيَّتنا قَد تُحَدَّد عبرَ نَظَرات الآخَرين لنا. فإنَّ تَحديق النَّاس لفَتَرات طَويلة باللَّوحات المَعروضة في المتحَف أو بالحيوانات المَوجودة في حَديقَة الحَيوان هو أَمر جَيِّد، لكن من غير المَقبول أن يُحَدِّق النَّاس ببَعضِهم البَعض أو أن يَستَمِرُّوا في التَّواصُل البَصَري لأكثَر من ثانيَتين أثناء المُرور في الشَّارِع أو الاِنتِظار في مَكانٍ ما. ونحنُ كبَشَر بطَبيعَتِنا نَرى أنَّ تَحديق الآخَرين بِنا بِشَكل مُبالَغ فيه هو أمر مُزعِج خاصَّةً إن كانَ في غير مَحَلِّه، فنَظَرات النَّاس تَجعَلنا مَحَطّ اهتِمامهم وتحتَ حُكمِهم، وبالنِّسبة لسارتر كَم بالحَري ستَكون نَظَرات الله لنا؟ فهذا الأمر لم يَكُن يَستَسيغه سارتر، وفي المَسرحِيَّة التي كتَبَها بعنوان “لا مَفَرّ” تَعيش ثَلاث شَخصِيَّات حَياتها بعدَ المَوت مَحكومة بالاِستِمرار تحتَ أنظار بَعضها البَعض إلى أن تَصِل إحدى الشَّخصِيَّات في نِهايَة المَسرحِيَّة للخُلاصة الوجودِيَّة لفَلسَفَة سارتر: “الجَحيم هو النَّاس الآخَرين”.
نظرة الله
عَدَم مَعرِفَة الآخَرين بأخطائِنا تجاههِم، قَد تُبقي ضَمائِرنا مُخَدَّرة لفَترة، لكن حينَ يَعلَم الشَّخص المَعني بما فَعَلناهُ تجاههُ ويَرمُقنا بتِلكَ النَّظرة العاتِبة، نَشعُر حينها بوَطأة ما فَعَلناه. فلَو لم يَنظُر المسيح إلى بطرُس في تِلكَ اللَّحظة تَحديداً لكانَ النَّدم سيَكون بِدَرَجة أَخَفّ، لأنَّ مُجَرَّد فِكرَة أنَّ أحَداً من الذينَ يَعرِفهُم بطرُس لن يَراه وهو يُنكِر المسيح كانَت سَتُعطيهِ شُعوراً بالرَّاحة للَحَظات، لكن نَظَرات المسيح في هذا المَوقِف بالذَّات كانَت أكبَر من أن يَتَحَمَّلها بطرُس لأنَّها ذَكَّرَتهُ بِما قالهُ يسوع لهُ قبلَ وَقتٍ قَصير، مِمَّا أثقَلَ كاهِله أكثَر وجَعَلهُ يَشعُر بالذَّنب المُضاعَف:
“فَتَذَكَّرَ بُطْرُسُ كَلِمَةَ الرَّبِّ …” (إنجيل لوقا 61:22)
وهذا ما قادَ بطرُس إلى التَّوبة بالدُّموع والنَّدَم بمَرارة:
“وَانْطَلَقَ إِلَى الْخَارِجِ، وَبَكَى بُكَاءً مُرّاً.” (إنجيل لوقا 62:22)
كانَ من الضَّروري لبطرُس أن يَمُرّ في هذا المَوقِف ويُعاني ما عاناه لكي يَنمو أكثَر في إيمانهِ ولا يَعود يَتزَعزَع أو يَضعف.
قَرَأتُ مرَّةً مَقولة لَفَتَتني، وهي: “تُغلِق الباب على نَفسِك لكي تَعصي الله، فيُرسِل لكَ الأوكسِجين من تَحت الباب لكي تَتنَفَّس”. الواقِع هو أنَّنا جَميعنا تحتَ أنظار الله دائِماً، حتَّى لو لم يَكُن الرَّب يسوع مَوجوداً مَعنا في جَسَدهِ لِنَراهُ يَنظُر إلَينا وتَقَع عَيننا بعَينه، لكن فِكرَة أنَّ الله يَرانا بِشَكل دائِم قَد تَبدو مُخيفة للبَعض، في حين أنَّ هذا الأمر يجب أن يكون مَصدَر تَعزِية لكُل مؤمن، فمَعرِفَتنا بأنَّنا تحتَ أنظارِه ورِعايَته وحِفظه هو أمر يَجعَلنا نَعيش في سَلام مُطمَئِنِّين ونُقَدِّس ذَواتنا كُل حين ونَحيا إيماننا بكُل أمانة ويَقين.
صَحيح أنَّ حَياتنا بِحَدّ ذاتِها مُخجِلة كَوننا خُطاة في الطَّبيعة، لكن من خِلال نِعمَة الله المُخَلِّصة أصبَحنا مُبَرَّرين ومُطَهَّرين ومؤهَّلين للدُّخول إلى مَحضَر الله القُدوس. لذلك اِسأل نَفسَك الآن بَعض الأسئلة:
- إذا نَظَرَ إلَيك الله في هذه اللَّحظة فكيفَ ستَكون رَدَّة فِعلك؟
- هل سَتَخجَل مِمَّا تَفعَل، أم سَتَفرَح وتَبتَهِج وتُسَبِّح الله على نِعَمهِ الكَثيرة وعَطاياه الوَفيرة؟
- ما الحَياة التي سَتَختارها بعدَ الآن وأنتَ تَعلَم أنَّ أنظار الله مُتَّجِهة إلَيك في كُل دَقيقة؟
طالَما أنَّ عَينا الله مُثَبَّتة دائِماً علَينا، فيَنبَغي أنَّنا نحنُ أيضاً نُثَبِّت عُيوننا على تَتميم وَصاياه، لأنَّهُ دَعانا كَما دَعا بطرُس لنَكون سُفَراءَهُ في هذا العالَم، وخَلَّصَنا من عُبودِيَّة الخَطِيَّة وأعطانا الحَياة الأبَدِيَّة.
مقالات مُشابِهة
الحزن ومشيئة الله
ما معنى مجد الله؟
الأساسيات في المسيحية