يؤمن المسيحيُّون بأنَّ الله كائِن واحِد مُثَلَّث الأقانيم. وهذا الإيمان هو أساس تَعاليمهِم ومُعتَقداتهِم. سنوضِح في المقال التالي بعض المَفاهيم المُتَعَلِّقة بالثَّالوث ومَدى أهمّيته في العَقيدة المسيحيَّة.
يُعلِن لنا الوَحي المُقدَّس أنَّ الله هو كائِن واحِد في ثلاثة أقانيم، والأُقنوم هو اللَّفظ العَربي للكلمة السِّريانِيَّة “قْنوما” والتي تعني “شَخص”، وتُستَخدَم في لُغَتنا للإشارة إلى أعضاء الثَّالوث لأنَّها تَدُلّ على كَينونَة الشَّخص مع إمكانِيَّة اتِّحادِهِ بالجَوهَر مع شَخص آخَر، هذهِ الفِكرة لا تُعَبِّر عنها كلمة “شَخص” العَربِيَّة التي تُفهَم بأنَّ الشَّخص كائن مُنفَصِل ومُستَقِلّ بشَكل تام ذاتِيّاً.
للوَهلة الأولى قد يبدو التَّعريف البَسيط للثَّالوث بأنَّهُ تَناقُض، وقد يتَساءل المَرء كيفَ يُمكِن أن يكون الله جَوهَر واحِد مِن ثلاثة أقانيم؟ لكِن نظرة بَسيطة على مَبدأ عَدَم التَّناقُض تُظهِر لنا أنَّ التَّناقُض هو استِحالَة كَون الشَّيء هو ذاتهِ في نَفس الوَقت ونَفس الإطار، أي أنَّهُ إذا قُلنا أنَّ الله جَوهَر واحِد في ثلاثة جَواهِر أو شَخص واحِد في ثلاثة أشخاص فهذا تَناقُض، لكِن حينَما نقول أنَّ الله كائن في جَوهَر واحِد مُتَشارِك في ثلاثة أقانيم فهذا لا يُشَكِّل تَناقُض البَتَّة.
الله الآب والله الإبن والله الرُّوح القُدُس هُم واحِد، لكِن الله الآب ليسَ الله الإبن، والله الإبن ليسَ الله الرُّوح القُدُس، والله الرُّوح القُدُس ليسَ الله الآب. إذاً كيفَ حَصَلنا على هذا المَفهوم؟ الإجابة السَّريعة هي أنَّ الكِتاب المُقَدَّس يُعَلِّم وبشَكل واضِح جِدّاً أنَّ الله واحِد وهو لا يُعطي مَجدَهُ لِآخَر ولا يَتَشارَك صِفاتهُ مع أحَد:
“أَنْتُمْ شُهُودِي، يَقُولُ ٱلرَّبُّ، وَعَبدِي ٱلَّذِي ٱختَرتُهُ، لِكَيْ تَعرِفُوا وَتُؤمِنُوا بِي وَتَفهَمُوا أَنِّي أَنَا هُوَ. قَبلِي لَمْ يُصَوَّر إِلَهٌ وَبَعدِي لَا يَكُونُ. أَنَا أَنَا ٱلرَّبُّ، وَلَيسَ غَيرِي مُخَلِّصٌ.”
إشَعياء 43 :10-11
وفي نَفس الوَقت يُخبِرنا الكِتاب المُقَدَّس أنَّهُ بالإضافة إلى كَون الآب هو الله، فيسوع المسيح هو الله والرُّوح القُدُس أيضاً هو الله، ويُعلِن عن عَلاقة مُتَمَيِّزة بَينَهُم بُغيَة تَمجيد الله المُثَلَّث الأقانيم. ما يُلفِتني بعَقيدَة الثَّالوث أنَّها وعلى الرُّغم مِن كَونِها تُدرَج ضِمن إطار الإعلان التَّدريجي لِلوَحي الإلهي لكِنَّها تَملَأ صَفَحات الكِتاب المُقَدَّس مِن سِفر التَّكوين ١ إلى سِفر الرُّؤيا ٢٢، وهذا ما سَنُوَضِّحهُ تِباعاً.
إنَّ جَميع كُتَّاب العَهد الجَديد كانوا حَريصينَ في كِتاباتِهِم على إبراز مَفاهيم العَقيدة دونَ الوُقوع في فَخِّ الأخطاء ونَجَحوا في ذلك، كَيف؟
لأنَّهُ مع تَعَدُّد الكُتَّاب البَشَرِيِّين يَبقى الكاتِب الرَّئيسي واحِد، وهو الله.
ما أقصِدُهُ بِالوَحي التَّدريجي، أو تَدَرُّج الإعلان هو أنَّ عَقيدَة الثَّالوث لم تَكُن مُكتَمِلَة المَعالِم قبلَ تَجَسُّد الرَّب يسوع المَسيح.
قال أحَدَهُم في تَفسير تَدَرُّج الإعلان أنَّ الصَّفحة البَيضاء التي تَفصِل بينَ سِفر مَلاخي وإنجيل مَتَّى تُعلِن عن الإعلان المُكتَمِل لعَقيدَة الثَّالوث، وهذا يعني أنَّ ذلك تَمَّ في سِرِّ التَّجَسُّد.
الثَّالوث في العَهد القَديم
العَهد القَديم لا يُعَلِّم بِشَكل صَريح عن عَقيدَة الثَّالوث إذا ما قارَنَّاهُ بالعَهد الجَديد، لكِنَّهُ يَحتَوي على إيحاءات عن طَبيعَة الله المُثَلَّث الأقانيم، وسَأذكُرُ لكُم الأمثِلة تِباعاً.
تقول الآية في (التَّكوين 1: 1) فِي ٱلبَدءِ خَلَقَ ٱللهُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرضَ.
إنَّ الكَلِمة العِبرِيَّة المُتَرجَمة الله هيَ (إلوهيم) جَمع إلوه، والفِعل المُتَرجَم خَلَقَ هو (بَرا) في صِيغَة المُفرَد، أي أنَّ الإسم في هذهِ الآية بصِيغَة الجَمع والفِعل بصِيغَة المُفرَد، ممَّا يُشير إلى طَبيعة الله الواحِدة الجامِعة.
إنَّ كَلِمة إلوهيم تُتَرجَم آلِهة عندَما يكون المَقصود بها الآلِهة الوَثَنِيَّة، لكن يبقى معها الفِعل في صِيغَة المُفرَد فقَط حينَما تُشير للإله الحَقيقي.
قد يقول البَعض أنَّ صيغَة الجَمع في وَصف الله هي لإظهار تَمَيُّز الله، لكِن في الواقِع أنَّ هذهِ الإدِّعاءات تَبطُل أمامَ حَقيقَة أنَّ اللُّغَة العِبرِيَّة التَّقليدِيَّة لا تَعرِف مِثل هذهِ الإستِخدامات لِلجَمع.
الجَمع تَكرَّرَ أيضاً بالضَّمائِر التي تَعود للرَّب، نأخُذ على سَبيل المِثال:
وَقَالَ ٱللهُ: «نَعمَلُ ٱلْإِنسَانَ عَلَى صُورَتِنَا كَشَبَهِنَا…
التَّكوين 1: 26
“على صورَتِنا كَشَبَهِنا”، قالَ بَعض رِجال الدِّين اليَهود أنَّ الله يَقصِد هُنا المَلائِكة عِندما تَكلَّمَ بصيغة الجَمع، لكَن هذا لا يَتَوافَق مع سِياق النَّص، لأنَّ الإنسان ليسَ مَخلوقاً على صورَة المَلائِكة بَل:
“فَخَلَقَ ٱللهُ ٱلْإِنسَانَ عَلَى صُورَتِهِ. عَلَى صُورَةِ ٱللهِ خَلَقَهُ. ذَكَرًا وَأُنثَى خَلَقَهُمْ.”
التَّكوين 1: 27
والأمثِلة عَديدة جِدّاً لَن أتطَرَّق إليها جَميعِها بَل سَوفَ أُكمِل لأتحَدَّث عن إيضاحات أُخری للثَّالوث مِنَ العَهد القَديم غَير الجَمع في الأسماء والضَّمائِر والأفعال.
يقول العالِم اليَهودي بنيامين سومر: (لقَد تَوَصَّلتُ إلى نَتيجَة وهيَ أنَّنا نحنُ اليَهود، ليسَ بِاستِطاعَتِنا إبراز اعتِراض أيِّ اعتِراض على عَقيدَة الثَّالوث، فهِيَ تَظهَر في الكِتابات اليَهودِيَّة…)، ويُعلِن أيضاً عن مَراجِع كِتابِيَّة عَديدة مَذكورٌ فيها هكذا إيحاءات، تَظهَر فيها شَخصِيَّات إلَهِيَّة مُختَلِفة لكِنَّها جَميعها تُعرَف بأنَّها (يَهوه).
وهذا الأَمر أدرَكَهُ الكَثير مِن عُلَماء اليَهود، أدرَكوا وُجود شَخصِيَّات مُختَلِفة لِيَهوه.
طَبعاً إنَّ أساطير اليَهود أتَت نَتيجَةً لِاستِنباطِهِم مَعاني لِنُصوص التَّوراة، حَتَّى أنَّ البَعض مِنُهم تَبنَّى مَفاهيم مُختَلِفة لِتَعَدُّد الأشخاص في الوَحدانِيَّة الإلَهِيَّة، وهيَ على الرُّغم مِن كَونِها غَير صَحيحة وكَونِها بِدعَة يَهودِيَّة حَتَّى بالنِّسبَة لليَهود، لكِن تَبدو وكَأنَّها بَدَأت تَلمِس طَرَف الخَيط، مَثَلاً بَعض اليَهود كانوا يَعبُدون الشَّكينة، أي سَحابَة المَجد التي كانَ يَحِلّ الله فيها بحُضورِهِ، واعتَبَرَها البَعض جانِب مُنفَصِل مِن الله لكِنَّها بنَفس الوَقت هي الله.
أمَّا بالنِّسبَة للمَسيحِيِّين وللتَّفسير القَويم بناءً علی الإعلان المُكتَمِل فالشَّكينة هيَ انعِكاس مَجد الله ولَيسَت أُقنوم إلهي بِطَبيعَة الحال.
يُسَجِّل التَّلمود البابِلي رقَم ٣٨ على باء، خِلافاً بينَ العُلَماء اليَهود مع شَخص مَسيحي حَول الآية التي تقول في (الخُروج 24: 1):
” وَقَالَ (الرَّب) لِمُوسَى: «ٱصعَد إِلَى ٱلرَّبِّ أَنتَ وَهَارُونُ وَنَادَابُ وَأَبِيهُو، وَسَبعُونَ مِنْ شُيُوخِ إِسرَائِيلَ، وَٱسجُدُوا مِنْ بَعِيدٍ.”
إن المُتَكَلِّم في النَّص لموسى هو يَهوه نَفسَهُ، قائلاً لموسى أن يَصعَد وَيُكَلِّم يَهوه.
وفي خِضَم هذا الخِلاف المُسَجَّل، يقول المَسيحي أنَّ هذهِ الآية تُفيد التَّعَدُّدِيَّة في الوَحدانِيَّة الإلَهِيَّة، رُبَّما يَقولُ قائلٌ: ألَيسَ مِنَ الطَّبيعي أن يقول الشَّخص المَسيحي هكذا ؟
لكِن المُلفِت في الأمر إجابَة الحاخام الذي لم يَنفِ هذا التَّفسير لُغَوِيّاً، إنَّما كانَت إجابتهُ أنَّ المُتَكَلِّم هو كائِنٌ سَماويٌّ اسمُهُ ميتاترون ويُعرَف أيضاً بِاسمِ الرَّب.
ألَيسَ هذا إذاً يُثبِت ما سَبَقَ وأَشَرنا إليهِ عن قُوَّة الإيحاءات التَّوراتِيَّة للثَّالوث ؟
في مَواضَع عَديدة نرى مَلاك الرَّب (في العِبرِيَّة مُرسَلٌ مِنَ الرَّب) يَظهَر ويُعلِن عن نَفسِهِ أنَّهُ يَهوه:
“فَنَادَاهُ مَلَاكُ ٱلرَّبِّ مِنَ ٱلسَّمَاءِ وَقَالَ: «إِبرَاهِيمُ! إِبرَاهِيمُ!». فَقَالَ: «هَأَنَذَا». فَقَالَ: «لَا تَمُدَّ يَدَكَ إِلَى ٱلْغُلَامِ وَلَا تَفعَلْ بِهِ شَيئًا، لِأَنِّي ٱلْآنَ عَلِمتُ أَنَّكَ خَائِفٌ ٱللهَ، فَلَمْ تُمسِكِ ٱبنَكَ وَحِيدَكَ عَنِّي».
التَّكوين 22: 11-12
قالَ مَلاكُ الرَّب… لم تُمسِك ابنَكَ وَحيدَكَ عَنِّي…، وأمثِلة عَديدة أُخرى لَعَلَّ أبرَزها في نَظَري تِلكَ التي فيها يَعقوب يُصَلِّي لِلرَّب ولِمَلاك الرَّب، مع العِلم أنَّ العِبادة لِغَيرِ الله هِيَ شِرك:
“وَبَارَكَ يُوسُفَ وَقَالَ: «ٱللهُ ٱلَّذِي سَارَ أَمَامَهُ أَبَوَايَ إِبرَاهِيمُ وَإِسحَاقُ، ٱللهُ ٱلَّذِي رَعَانِي مُنذُ وُجُودِي إِلَى هَذَا ٱلْيَوْمِ، ٱلْمَلَاكُ ٱلَّذِي
خَلَّصَنِي مِنْ كُلِّ شَرٍّ، يُبَارِكُ ٱلْغُلَامَينِ. وَلْيُدعَ عَلَيهِمَا ٱسْمِي وَٱسْمُ أَبَوَيَّ إِبرَاهِيمَ وَإِسحَاقَ، وَلْيَكْثُرَا كَثِيرًا فِي ٱلْأَرضِ».”
التَّكوين 48: 15-16
يُشير العَهد القَديم إلى الرُّوح القُدُس أيضاً، لَيسَ كَما العَهد الجَديد طَبعاً، لكِن بِشَكل يَتَوافَق مع ما كَتَبَهُ الرُّسُل والمُبَشِّرين.
إحزان الرُّوح القُدُس هو إحزان الله:
“وَلَكِنَّهُمْ تَمَرَّدُوا وَأَحزَنُوا رُوحَهُ الْقُدُّوسَ، فَتَحَوَّلَ إِلَى عَدُوٍّ لَهُمْ وَحَارَبَهُمْ.”
إشَعياء 63: 10
يُعطي الوَحي في هذهِ الآية صِفَة شَخصِيَّة للرُّوح القُدُس، ويَنسِب إليهِ مَشاعِر الحُزن وفِعل الحَرب.
كما أنَّ الرُّوح القُدُس والكَلِمة هُما كائِنَينِ أزَلِيَّين وكانا فاعِلَينِ في الخَلق.
يقول الإصحاح الأوَّل من سِفر التَّكوين أنَّ الله خَلَقَ العالَمين بالكَلِمة،
“وَإِذْ كَانَتِ الأَرضُ مُشَوَّشَةً وَمُقْفِرَةً وَتَكْتَنِفُ الظُّلْمَةُ وَجْهَ الْمِيَاهِ، وَإِذْ كَانَ رُوحُ اللهِ يُرَفْرِفُ عَلَى سَطحِ الْمِيَاهِ.”
التَّكوين 1: 2
الثَّالوث في العَهد الجَديد
يُعَرِّف الرَّب يسوع عن نَفسِهِ أنَّهُ ابنُ الإنسان، أي أنَّهُ أخَذَ طَبيعة بَشَرِيَّة كامِلَة، ويقولُ أيضاً عن نَفسِهِ أنَّهُ ابنُ الله أي مُعادِلاً لله، هذا ما يُعَرِّفُهُ اللَّاهوتِيُّون بالإتِّحاد الأُقنومي، ليُشيروا إلى اتِّحادِ الطَّبيعة الإلهِيَّة مع الطَّبيعة البَشَرِيَّة دونَ مَزجٍ أو اختِلاط، أي أنَّ الرَّبَّ يسوع كانَ إنساناً كامِلاً وإلهاً كامِلاً.
أعلَنَ الرَّب يسوع عن أُلوهِيَّتِهِ في مَرَّاتٍ عَديدة، سَأذكُرُ اثنَين مِنها فقَط.
أوَّلُها خِلالَ حديثِهِ مع رَئيس الكَهَنة في فترة مُحاكَمَتِهِ:
” …فعَادَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: «أَأَنْتَ الْمَسِيحُ، ابْنُ الْمُبَارَكِ؟» فَقَالَ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تَرَوْنَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِساً عَنْ يَمِينِ الْقُدْرَةِ، ثُمَّ آتِياً عَلَى سُحُبِ السَّمَاءِ!» فَشَقَّ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ، وَقَالَ: «لا حَاجَةَ بِنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ. قَدْ سَمِعْتُمْ كَلامَ كُفْرِهِ: فَمَا رَأْيُكُمْ؟» فَحَكَمَ الْجَمِيعُ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْمَوْتَ.”
إنجيل مَرقُس14: 60-64
إعلان يسوع المسيح هذا عن نَفسِهِ كانَ مِن غَيرِ المُمكِن لأي يَهودي أن يقوم بِهِ، لأنَّهُ سَيُكَلِّفُهُ المَوت بِحَسَب الشَّريعة، وهذا ما حصَلَ مع الرَّب يسوع. لكن أينَ تكمُن قُوَّة هذا الإعلان؟ يقتَبِس يسوع أمامَ رئيسِ الكَهَنة من كِتاب دانيال النَّبي، هذا الكِتاب الذي يَروي لنا رُؤيا مكتوبة في الإصحاح السَّابع من نَفس السِّفر، وفيها يُشاهِد دانيال في الرُّؤيا (ابنُ إنسانٍ)، رفَعَهُ الله وأعطاهُ كُل سُلطان بَل وجَعَلَهُ يَتَشارَك العَرشَ مَعَهُ، إذاً هذا الإعلان الأوَّل الذي أعلَنَهُ يسوع عن نَفسِهِ.
أمَّا الإعلان الثَّاني فكانَ أيضاً أثناءَ حَديثِهِ مع اليَهود، حَيثُ انتهى الحَديث بإعلان الرَّب يسوع هذا:
” أَجَابَهُمْ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّنِي كَائِنٌ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَكُونَ إِبْرَاهِيمُ». فَرَفَعُوا حِجَارَةً لِيَرْجُمُوهُ، وَلكِنَّهُ أَخْفَى نَفْسَهُ وَخَرَجَ مِنَ الْهَيْكَلِ.
إنجيل يوحنَّا 8: 58-59
هذا إعلان واضِح وصَريح بالأُلوهِيَّة، إذ يستَخدِم الرَّب يسوع إسم الله كَما وَرَدَ في التَّرجَمة اليونانِيَّة للعَهد القَديم، ويقول عن نَفسِهِ أنَّهُ كانَ مَوجوداً قبلَ النَّبي إبراهيم، وهذا ما فَهِمَهُ اليَهود تَماماً إذ أرادوا أن يَرجُموه لأنَّهُ بِحَسَب وُجهَة نَظَرِهِم قَد جَدَّفَ على الله.
مِثلَما صَلَّى يعقوب للرَّب ومَلاكِهِ، صَلَّى بولُس الرَّسول أيضاً للآب والإبن مَعاً:
وَٱللهُ نَفْسُهُ أَبُونَا وَرَبُّنَا يَسُوعُ ٱلْمَسِيحُ يَهْدِي طَرِيقَنَا إِلَيْكُمْ.
رسالة تَسالونيكي الأولى 11: 3
استَخدَمَ بولُس الفِعل في صيغَة المُفرَد (يَهدي)، لكنَّهُ ذكَر اثنَين (الله والرب يسوع المسيح). بولُس دائِماً كانَ يُمَيِّز بينَ الآب والإبن من ناحِيَة الشَّخصِيَّات لكنَّهُ يَجمَع بينَهُما من ناحِيَة الكَرامة والمَجد والقُدرة:
بُولُسُ وَسِلْوَانُسُ وَتِيمُوثَاوُسُ، إِلَى كَنِيسَةِ ٱلتَّسَالُونِيكِيِّينَ، فِي ٱللهِ ٱلْآبِ وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ: نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلَامٌ مِنَ ٱللهِ أَبِينَا وَٱلرَّبِّ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ.
رسالة تَسالونيكي الأولى 1: 1
يُتَمِّم يسوع نُبُوَّات العَهد القَديم أي الكِتاب المُقَدَّس اليَهودي الذي تَنَبَّأَ بِمَجيء المسيح. عادَةً ما تتحَدَّث النُّبُوَّات عن الله، لكِنَّ كُتَّاب العَهد الجَديد يُطَبِّقونَها على الرَّب يسوع المسيح، وهذا مِثال من بِدايَة إنجيل مَرقُس: بَدْءُ إِنْجِيلِ يَسُوعَ ٱلْمَسِيحِ ٱبْنِ ٱللهِ، كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي ٱلْأَنْبِيَاءِ:
«هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلَاكِي، ٱلَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ. صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ، ٱصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً».
إنجيل مَرقُس 1: 1-3
والواقِع أنَّ مَرقُس هُنا يَقتَبِس من إشَعياء 40، وهذا النَّص يُقصَد بِهِ يَهوه بِشَكل مُباشَر: صَوْتُ صَارِخٍ فِي ٱلْبَرِّيَّةِ:
«أَعِدُّوا طَرِيقَ ٱلرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي ٱلْقَفْرِ سَبِيلًا لِإِلَهِنَا.
إِشَعياء 40 :3
كما أنَّ يسوع أيضاً يُعلِن عن قُدُرات لا يَقدِر أحَد أن يُمارِسها سِوى الله، مِثل قُدرَتِهِ على غُفران الخَطايا، وقَولِهِ عن نَفسِهِ أنَّهُ رَبُّ السَّبت.
«فَإِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ هُوَ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضًا»
إنجيل متَّى 8 :12
والدَّليل الأخير هو إبراز مُساواة الرُّوح القُدُس بالأُلوهِيَّة مع الآب في دَليلٍ واضِحٍ وُضوح الشَّمس ولا غُبارَ عَليه:
فَقَالَ بُطْرُسُ: «يَا حَنَانِيَّا، لِمَاذَا مَلَأَ ٱلشَّيْطَانُ قَلْبَكَ لِتَكْذِبَ عَلَى ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ وَتَخْتَلِسَ مِنْ ثَمَنِ ٱلْحَقْلِ؟ أَلَيْسَ وَهُوَ بَاقٍ كَانَ يَبْقَى لَكَ؟ وَلَمَّا بِيعَ، أَلَمْ يَكُنْ فِي سُلْطَانِكَ؟ فَمَا بَالُكَ وَضَعْتَ فِي قَلْبِكَ هَذَا ٱلْأَمْرَ؟ أَنْتَ لَمْ تَكْذِبْ عَلَى ٱلنَّاسِ بَلْ عَلَى ٱللهِ».
أعمالُ الرُّسُل 5: 3-4
يَظهَر الرُّوح القُدُس هُنا كما دائِماً بِنَفس مَقام الله فقَد قالَ بطرُس مَرَّة (لِماذا كَذبتُم على الله؟) ومَرَّة أُخرى (لِماذا كَذبتُم على الرُّوح القُدُس)، والضَّمائر اليونانِيَّة المُستَخدَمة هُنا للإشارة إلى الرُّوح القُدُس هيَ نَفسها التي تُستَخدَم للعاقِل، لأنَّ الأسماء لِغَيرِ العاقِل في اللُّغة اليونانِيَّة يُستَخدَم لها ضَمائِر مُختَلِفة عن الضَّمائِر المُستَخدَمة للعاقِل، كما في الإنجليزيَّة مَثلاً تُستَخدَم (it) كضَمير للإشارة لِغَيرِ العاقِل، و (he-she) تُستَخدَم للعاقِل. وأيضاً يوجَد أدِلَّة أُخرى كثيرة وكثيرة جِدّاً بإمكانِنا التَّطَرُّق إليها إذا أرَدنا، لكن سَأكتَفي بهذا القَدر لِضيقِ المَساحة، فعَقيَدة الثَّالوث إذا أرَدنا أن نُعطيها حَقَّها نَحتاج لكِتابَة مُجَلَّدات.
الذي يُريد مَعرِفَة من هو الرَّب يسوع، يَجِب أن يَعرِفهُ وِفقاً للإعلان المَوجود في الوَحي الإلهي، الذي يُظهِر لنا كَيفِيَّة ارتِباط الرَّب يسوع بالآب وبالرُّوح القُدُس. ويَجِب علينا أيضاً كمؤمنين أن نُدرِك ونُحِبّ الثَّالوث لكَي نكونَ مَسيحيِّين حَقّاً وبالكامِل، فعَقيدة الثَّالوث هي أعظَم حَقائِق الله المُوحى بِها.
الكاتب: الأخ جمال
Theologian
مقالات مُشابِهة
هل قال المسيح (انا هو الله)؟
من هو الإله المسيحي؟
من هو الروح القدس
الأساسيات في المسيحية