تُرجِمَ الكِتاب المُقدَّس لأكثر من 2000 لُغة، وهو الكِتاب الأكثر طِباعَةً وانتِشاراً ودِراسَةً حَول العالَم. لكن ماذا عن التَّرجَمات العربيَّة؟ هذا ما سنتحدَّث عنهُ بشكل موجز في المقال التَّالي.
طَلبَ الرَّب يسوع من الرُّسُل أن يَكرِزوا برِسالة الإنجيل للخَليقةِ كُلِّها، ومنذُ ذلكَ الحين تُعطي الكَنيسة لهذا المَوضوع أهميَّة كُبرى، ناقِلَةً رِسالة الإنجيل إلى كُلِّ شَعبٍ بحَسب لُغَتِه. الكِتاب المُقدَّس هو أكثر الكُتُب تَرجَمَةً وطِباعَةً وانتِشاراً في العالَم، وهو الأكثَر مبيعاً بحَسب مَوسوعَة غينيس للأرقام القِياسيَّة حيثُ يُسَجِّل عَدَد يَفوق الخَمس مليارات نسخة.¹ يتوَفَّر الكِتاب المُقدَّس بأكثر من لُغة، وكُلَّما تُرجِمَ لِلُغة جَديدة كانَ يصنَع نَهضة كَبيرة في حَياة الشَّعب الذي يَتكَلَّم بتِلكَ اللُّغة ويُعطيهِ بَصيرة روحِيَّة. وأيضاً كانَ للتَّرجَمة دَور في كَثير من الأحيان في تَحديد شَكل اللُّغة وصِياغَة العَديد من مَفاهيمِها.
أبرز الترجمات التي كان لها صدىً تاريخياً كبيراً
الترجمة السبعينية (Septuagint)
لا بُدَّ أن نَذكُر التَّرجَمة اليونانِيَّة السَّبعينيَّة للعَهد القَديم والتي استَخدَمها كُتَّاب العَهد الجَديد في مُعظَم اقتِباساتهِم خاصَّةً أنَّهُم كَتَبوا باليونانيَّة. وهذه التَّرجَمة تَمَّت في الإسكندريَّة في القَرن الثَّاني قبل الميلاد.
ترجمة الفولغاتا (Vulgate)
في القَرن السَّادِس تَرجَمَ “جيروم” الكِتاب المُقدَّس بعَهدَيه إلى اللُّغة اللَّاتينِيَّة، وهي اللُّغة التي كانَت سائِدة في الكَنيسة الغَربِيَّة في ذلكَ الوَقت والتي كانَت تُنشَر فيها الكُتُب في أوروبّا. سُمِّيَت هذه التَّرجَمة بالفولغاتا وكانَت التَّرجَمة الوَحيدة في الكَنائِس الغَربِيَّة لحَوالي 11 قَرن من الزَّمَن.
الترجمة السلافية (Slavic)
“سيريل وميتوديوس” هُما من تَرجَما الكِتاب المُقدس للُّغة السّلافِيَّة في القَرن التَّاسِع، لكي يَستَطيعا أن يُبَشِّرا الشُّعوب القاطِنة تِلكَ المِنطَقة بلُغَتِهم، ليُصبِح رَسم الحُروف والكَلِمات المُستَخدَمة في التَّرجَمة هو الأساس للُّغة الرُّوسِيَّة الحاضِرة وبَعض بُلدان أوروبّا الشَّرقِيَّة، وهكَذا الحال مع الكَثير من التَّرجَمات التي أعادَت تَركبيَة اللُّغات بمَفهومِها المُعاصِر كَما فَعَلَت تَرجَمَة “مارتِن لوثِر” للكِتاب المُقدَّس إلى اللُّغة الألمانِيَّة وكما وَرَدَ عنهُ في كِتاب تاريخ الكَنيسة لفيليب شاف: “ابتَكَرَ الكَلِمة لتَحديد الفِكرة… وأسَّسَ للُّغة الألمانِيَّة المُعاصِرة”.²
في كُل مَرَّة كانَ يُتَرجَم فيها الكِتاب المُقدَّس كانَ يُعطي بَصيرة روحِيَّة في المَكان الذي يوجَد فيه، وهذا الذي حَصَلَ مع تَرجَمَة “مارتِن لوثر” إلى الألمانيَّة، وتَرجَمَة “جون ويكليف” لبَعض أجزاء الكِتاب المُقدَّس إلى الإنجليزيَّة، وتَرجَمَة “وليَم تيندال” إلى الإنجليزية أيضاً والتي سَمَحَ بها المَلِك هِنري الثَّامِن بنَشرِها سَنَة 1538 دونَ أن يكون على عِلم بالنَّهضة التي سَتَصنَعها تِلكَ التَّرجَمة في مَملَكَتهِ حينها. والكَثير من الأمثِلة الأُخرى.
وهُناك بطَبيعَة الحال تَرجَمات عربيَّة، وكَون التَّرجَمة عَمَل بَشَري فمِنَ الطَّبيعي أن تَحتَوي على بَعض الأخطاء، لكن أخطاء التَّرجَمة لا تَعني وُجود أخطاء في النَّص المُوحى بهِ، فالمُتَرجِم قَد يُخطئ وناسِخ المَخطوطة أيضاً قَد يُخطئ. ونحنُ نؤمن أنَّ الكِتاب المُقدَّس مَحفوظ من التَّحريف بلُغَتهِ الأصليَّة في تَقليد المَخطوطات (النَّص المُحَقَّق النَّاتِج عن مُقارَنَة المَخطوطات).
يوجَد الكَثير من التَّرجَمات العربيَّة لكن سأكتَفي بذِكر أكثَر التَّرجَمات رَواجاً ومُداوَلَةً في أيَّامِنا هذه، وسأتحدَّث بشَكل موجَز عن نِقاط ضَعف وقوَّة كُل واحِدة منها فيما يختَصّ بأُسلوب التَّرجَمة والنَّهج المُتَّبَع دونَ التَّطَرُّق إلى تَقليد المَخطوطات المُستَخدَم في كُل منها فهذا مَوضوع آخَر لمَقال آخَر، وصَلاتي إلى الرَّب أن يَعُمّ عليكُم هذا الأمر بالفائِدة.
الأمثِلة التَّالِية المُستَخدَمة قَليلة ومُنتَقاة، وبإمكانِنا تَقديم أمثِلة كَثيرة عن كُل تَرجَمة لكنَّنا سنَكتفي بما يوضِح الصُّورة فقَط.
أخطاء التَّرجَمة لا تَعني وُجود أخطاء في النَّص المُوحى بهِ
ترجمة الفاندايك البستاني (AVD)
تُعَدّ هذه التَّرجَمة الأكثَر انتِشاراً في الأوساط العربيَّة والأكثَر استِخداماً من المَسيحِيِّين العَرَب لعُقودٍ من الزَّمن، خاصَّةً من قِبَل الكَنائِس الإنجيليَّة والأقباط الأُرثوذوكس. وقَد تَمَّت هذه التَّرجَمة في أواخِر القَرن التَّاسِع عَشر، ولم تَخضَع لإعادَة تَنقيح جَذري، كما أنَّها تَتَّبِع النَّهج الحَرفي في التَّرجمة (كَلِمة مُقابِل كَلِمة). إنَّ عَدَم خُضوعها للتَّنقيح هو أحَد أبرَز مَشاكِلها، لأنَّ اللُّغة تَتَطَوَّر والتَّعابير التي كانَت تُستَخدَم في القَرن التَّاسِع عَشر في تَعريف الأشياء قَد تَختَلِف في القَرن الواحِد والعِشرين، فكَلِمات جَديدة قَد تَظهَر على السَّاحة وكَلِمات قَديمة قَد تُبطَل أو يَتَغَيَّر مَعناها. وإليكُم بَعض الأمثِلة عن ذلك من تَرجَمَة الفاندايك البُستاني:
- وَرَدَ في إنجيل مَرقُس 15:5 عن الرَّجُل الذي فيهِ أرواح نَجِسة في كُورَة الجَدرِيِّين أنَّهُ كانَ “مَجنوناً”، في حين أنَّ الكَلِمة اليونانيَّة تَعني “المَسكون بالأرواح الشِّرِّيرة أو الشَّياطين”، طَبعاً هذا ليسَ خَطأ في التَّرجَمة لكن استِخدام الكَلِمة في تِلكَ الأيَّام اختَلفَ عن الاستِخدام الحالي لها. فسابِقاً كانَ يُعتَقَد أنَّ المَجنون هو المَمسوس من الشَّيطان لأنَّ كَلِمَة “مَجنون” مُشتَقَّة من “جِنّ” وتَعني المَمسوس أو المَسكون بالشَّيطان، لكِنَّنا اليَوم لا نَستَخدِم كَلِمَة “مَجنون” في هذا السِّياق بَل إنَّها تُقال عن الشَّخص المَريض عَقلِيّاً.
- في سِفر أيُّوب 19:6 وَرَدَت كَلِمَة “سَيَّارة” في وَصف قافِلَة الجِمال، لأنَّ القَوافِل التي تَسير كانَت توصَف بالسَّيَّارة قبلَ شُيوع السَّيَّارات المُعاصِرة، لكن هذه الكَلِمة اليَوم نَستَخدِمها في الإشارة إلى المَركَبات فقَط. ووَرَدَ في سِفر التَّكوين 24:1 عن الأنفُس الحَيَّة التي تَدِبّ على الأرض بأنَّها “دَبَّابات”. وفي رؤيا يوحَنَّا 8:4 تُرجِمَت الكَلِمة التي تَعني كائِنات حَيَّة “بالحَيوانات”. جَميع هذه الكَلِمات ليسَت أخطاء في التَّرجَمة، ولنأخُذ المِثال الأخير: فكَلِمَة “حَيَوان” تعني في أصلِها “كائِن حَيّ”، لكن اليَوم لا نَستَعمِل هذه الكَلِمة في هذا السِّياق، والرَّسول يوحَنَّا لم يَكُن يَقصِد الكائِنات البَرِّيَّة عندما قالَ “حَيوانات”، بل قَصَدَ كائِنات حَيَّة مَوجودة أمام عَرش الله. وهذا ما نَعنيه بتَحديث التَّرجَمة لتَتوافق مع المَفاهيم المُعاصِرة للُّغة.
كما أنَّ تَرجَمَة فاندايك تَحتَوي على كَلِمات صَعبة وقَليلَة التَّداوُل هذهِ الأيَّام، مِمَّا يُشَكِّل عِبئاً على القارِئ المُعاصِر الذي سَيضطَّر للعَودة إلى القاموس بشَكل مُستَمِرّ لكي يَفهَم المَعنى المَقصود. ومن هذه الكَلِمات الصَّعبة الكثيرة سنَذكُر:
لُغَفاء (إشَعياء 23:1) وتَعني الذينَ يُصادِقونَ اللُّصوص.
انشَمَصَت (صَموئيل الثَّاني 6:6) قيلَت في وَصف هَيَجان الثِّيران.
يُعَكِّشونَها (ميخا 3:7) والمَقصود بِها في هذا النَّص يُعَوِّجونَ القَضاء.
ترجمة حرفية للنصوص
تَتبَع تَرجَمَة الفاندايك البُستاني أُسلوب حَرفي في تَرجَمَة النُّصوص إذ يُحاوِل المُتَرجِم عَدَم إضافَة كَلِمات في تَرجَمَتهِ للنُّصوص حتَّى ولَو كانَت الكَلِمة المُتَرجَمة لا تُعطي نَفس المَعنى من اللُّغة الأصليَّة، وحتَّى لو أنَّ الصِّيغة في اللُّغة الأصليَّة هي مَفهومة لمَن يُتقِن تِلكَ اللُّغة إلَّا أنَّ مَعناها سيُصبِح مُبهَماً في التَّرجَمة الحَرفِيَّة. ولهذه الطَّريقة نقاط قوَّة ونقاط ضَعف سنَذكُر أمثِلة لتَتوَضَّح أمامكُم الفِكرة.
- وَرَدَ في (إنجيل لوقا 44:9) قَول المسيح لتَلاميذهِ أنَّهُ سَيُصلَب وطَلَبهِ منهُم أن يَحفظوا كَلِماتهُ التي يَقولها عبرَ استعماله لمُصطَلَح شائِع في أيَّامهِ حتَّى يَعلَموا أهميَّة ما سَيَقولهُ المسيح لهُم، لذلك هو لم يَقُل لهُم فقَط “اسمَعوا أو انتَبِهوا”، بَل كما وَرَدَ في تَرجَمَة الفاندايك، قالَ لهُم: “ضَعُوا أَنْتُمْ هذَا الْكَلاَمَ فِي آذَانِكُمْ…”، فالتَّشديد هُنا بَدا واضِحاً لأنَّ المُتَرجِم استَخدَمَ تَرجَمة حَرفِيَّة للنَّص مِمَّا حافَظَ على المَعنى المُراد إيصاله، لكن اتِّباع هذا الأُسلوب الحَرفي بشَكل دائِم سَيَكون كارِثي أحياناً.
- “قَدْ غَدَرُوا بِالرَّبِّ. لأَنَّهُمْ وَلَدُوا أَوْلاَدًا أَجْنَبِيِّينَ، اَلآنَ يَأْكُلُهُمْ شَهْرٌ مَعَ أَنْصِبَتِهِمْ.” (هوشَع 7:5). التَّرجَمة هُنا حَرفِيَّة كَلِمة لكَلِمة. قَد يَفهَم القارِئ العِبري للنَّص الأصلي ما المَقصود هُنا بكَلِمَة “شَهر”، لكن القارِئ العَرَبي الذي سيقرأ هذه التَّرجَمة لن يَفهَم قَطعاً ما المَقصود منها، ولن يَستَطيع أن يعرِف أنَّ المَعنى هو وُصول الدَّمار عندما يَحِلّ رَأس الشَّهر، ومن المُمكِن أن يكون قَصد الكاتِب أنَّ الدَّمار سيَحِلّ بشَكل دَوري تَماماً كَدَورَة الشُّهور خِلال العام.
- “الْمُسْتَهْزِئُونَ بِي هُمْ أَصْحَابِي. ِللهِ تَقْطُرُ عَيْنِي.” (أيُّوب 20:16). هُنا أيضاً التَّرجَمة هي حَرفِيَّة للنَّص، فالنَّص العِبري يَقول حَرفِيّاً ما يُمكِن تَرجَمَتهُ “للهِ تَقطُرُ عَيني”، صَحيحٌ أنَّها ستَكون مَفهومة للقارِئ الذي يُجيد أُسلوب الصِّياغة في اللُّغة العِبرِيَّة لكنَّها لن تكون مَفهومة للقارِئ العَرَبي العادي، فالمَقصود بِها أنَّ الكاتِب يَبكي أمامَ الله طارِحاً لهُ شَكواه.
الترجمة العربية المبسطة (ت ع م)
في هذه التَّرجَمة يوجَد تَوَجُّه نحوَ تَبسيط مَعنى النَّص قَدر الإمكان للقارِئ البَسيط، وذلك بحَسب ما يَقولهُ القَيِّمون على هذه التَّرجَمة في مُقَدِّمَة الكِتاب، لكن هذا الأمر الذي يَنجَح مَعهُم في مَواضِع عَديدة، من المُمكِن أن يُسقِط المُتَرجِم بِفَخّ إضافَة إسقاطات لاهوتِيَّة على النَّص حينَ يُحاوِل أن يُبَسِّطهُ، فيَقوم بشَرحهِ وفق فَرَضِيَّاتهِ اللَّاهوتِيَّة المُسبَقة. وإليكُم على سَبيل المِثال ما وَرَدَ في الإصحاح الثَّاني من إنجيل يوحَنَّا حيثُ يُضيف المُتَرجِم هذه الجُملة على التَّرجَمة في الآية 4: “…لَمْ يَحِنِ الوَقْتُ لِأبْدَأ عَمَلِي بَعْدُ”، في حين أنَّ هذه الكَلِمات هي ليسَت جُزءاً من النَّص الأصلي بَل هي إضافة من المُتَرجِم بُغيَة تَفسير المَعنى.
قَد تَكون النِّيَّة نَبيلة، لكن المُتَرجِم افتَرَضَ تَفسير مُسبَق لهذه الآية من عِدَّة تَفسيرات مُحتَمَلة، فالكَلِمة اليونانيَّة هُنا تَعني حَرفِيّاً كما تُتَرجِمها الفاندايك “لَمْ تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ”، وهي قَد تُشير ليسَ بالضَّرورة لِساعَة المُعجِزات بَل لِساعَة إعلان مَجدهِ الأسمى على الصَّليب لأنَّ الكَلِمة نَفسها المَذكورة في إنجيل يوحَنَّا لاحِقاً مُرتَبِطة بهذا المَوضوع، ففي كَثير من المَواضِع يتحدَّث الوَحي عن “السَّاعة” في إشارة مِنهُ لِما سيَحصُل للمسيح ساعَة الصَّلب (يوحَنَّا 27:12، 1:13، 1:17) لأنَّ مَجد يسوع الأسمى سَيَظهَر في الصَّليب. وسَواء كانَ يسوع يُريد أن يصنَع المُعجِزة مع تَدَخُّل مَريَم أم لا، فهذا ما حَسَمَهُ المُتَرجِم وافتَرَضَ صِحَّتهُ مُسبَقاً، مِمَّا يَجعَل من تَبسيط المَعنى سَيف ذي حَدَّين قَد يُخطِئ أحياناً لكنَّهُ يُفيد في أحيانٍ أُخرى.
وفي مِثال آخَر، يُفَسِّر المُتَرجِم المَعنى في الآية التَّالية بِطَريقة واضِحة في حين أنَّ التَّفسير الحَرفي لها قَد يَجعَل مَعناها مُبهَماً: “لَكِنِّي لا أقصِدُ أنَّ اللهَ لَمْ يُحافِظْ عَلَى الوُعُودِ الَّتِي قَطَعَها لَهُمْ. لَكِنْ لَيسَ كُلُّ الَّذِينَ مِنْ بَنِي إسرائِيلَ هُمْ شَعبُ اللهِ حَقّاً.” في حين أنَّ التَّرجَمة الحَرفِيَّة هي “لَيْسَ جَميع الَّذِينَ مِنْ إسرائِيل هُم إسرائِيلِيُّون” توضِح التَّرجَمة التَّفسيرِيَّة هُنا المَعنى دونَ افتِراض لاهوتي مُسبَق لأنَّ ما يُريد بولُس أن يُشير إليهِ بكُل وُضوح، هو أنَّ ليسَ كُل أبناء إبراهيم من الجَسَد هُم أبناءُ المَوعِد.
أمَّا بخُصوص الآية من (لوقا 44:9) التي ذكرناها أعلاه، فإنَّ التَّرجَمة التَّفسيرِيَّة لا تُعطينا انطِباع عن مَدى أهميَّة القَول الذي يُريد يسوع أن يقولهُ لتَلاميذهِ، على عَكس ما يتوَضَّح لنا في تَرجَمَة الفاندايك، وهذا من مَساوِئ التَّرجَمة التَّفسيرِيَّة المُبَسَّطة أيضاً.
إحدى الأُمور الجَيِّدة التي تُقَدِّمها هذه التَّرجَمة هي الهَوامِش التي تُفَسِّر بَعض الكَلِمات أو تُعطي الاِحتِمالات البَديلة، وأعتَقِد أنَّ كُل تَرجَمة يجب أن تَستَخدِم الهَوامِش لأنَّها تُساعِد في تَوضيح الكثير من المَعاني، وأيضاً من مَحاسِن هذه التَّرجَمة أنَّها تُحَدِّد الاِقتِباسات المَأخوذة من العَهد القَديم.
كتاب الحياة (KEH)
أوضَحنا مَساوِئ وحَسَنات التَّرجَمة الحَرفِيَّة والتَّرجَمة التَّفسيرِيَّة، وأعتَقِد أنَّ الجَميع سَيَتَّفِقونَ مَعي بأنَّ التَّرجَمة الأنسَب هي التي يَستَخدِم القَيِّمونَ عليها التَرجَمة الحَرفِيَّة حينَما يجِب والتَّفسيرِيَّة حينَما يجب أيضاً مُتَفادينَ بذلك المَشاكِل التي تَحدَّثنا عنها أعلاه.
في حين أنَّ تَرجَمَة الحَياة كانَ من المُفتَرَض بها أن تَكون تَرجَمة تَفسيرِيَّة لكنِّي أراها تُقَدِّم الحَلّ الوَسط وتَقوم بدَور التَّرجَمة الأنسَب. وعلى سَبيل المِثال، الآية التي استَخدَمناها في هذا المَقال من (لوقا 44:9) فتَرجَمَة الحَياة تُبقي على المَعنى الذي يجِب إيصاله: “لِتَدْخُلْ هذِهِ الْكَلِمَاتُ آذَانَكُمْ…” فهي توضِح للقارِئ العَرَبي أنَّ يسوع يُريد لتَلاميذهِ أن يَفهَموا جَيِّداً ما هو بِصَدَد قَولِه، وفي نَفس الوَقت هي تَتَفادى اللَّغَط اللَّاهوتي في أماكِن عَديدة لأنَّها تُتَرجِم حَرفِيّاً حينَ يَلزَم ذلك وتَفسيرِيّاً حين يستَوجِب ذلك أيضاً. طَبعاً لا أقصِد أنَّها تَرجَمة كامِلة، لكنَّها الأفضَل بالنِّسبة للقارِئ العادي بحَسب رَأيي وتَجربَتي مع تَرجَمات الكِتاب المُقدَّس.
وسأضع لكُم الآيات التي أشرتُ لها سابِقاً لكن بحَسب هذه التَّرجَمة:
“سَاعَتِي لَمْ تَأْتِ بَعْدُ.” (يوحنَّا 4:2) يُحافِظ المُتَرجِم هُنا على تَرجَمة حَرفِيَّة كما يجِب، لأنَّها مَفهمومة كما هي ويَتَفادى بذلك اللَّغَط اللَّاهوتي حَولَها.
“لَقَدْ خَانُوا الرَّبَّ لأَنَّهُمْ أَنْجَبُوا أَبْنَاءَ غُرَبَاءَ عَنْهُ، لِذَلِكَ فَإِنَّ مَوَاسِمَ أَوَائِلِ الشَّهْرِ الْجَدِيدِ تَلْتَهِمُهُمْ مَعَ حُقُولِهِمْ.” (هوشَع 7:5). المَعنى واضِح هُنا إذا ما قارَنَّاهُ مع ما جاءَ في تَرجَمَة فاندايك.
“لِذَلِكَ تَفِيضُ دُمُوعِي أَمَامَ اللهِ.” (أيُّوب 20:16). تُفَسِّر هذه التَّرجَمة الآية التي تَبدو تَرجَمَتها الحَرفِيَّة مُبهَمة دونَ تَغيير في المَعنى.
الإنجيل الشريف (SAB)
يَتَّفِق مَعي القَيِّمون على هذه التَّرجَمة بأنَّ الكَلِمات في اللُّغة قَد يَختَلِف استِخدامها بينَ عَصرٍ وآخَر، لذلك يجِب على التَّرجَمة أن تَخضَع دَوماً للتَّحديث، إذ يُنَوِّهونَ إلى ذلك في مُقَدِّمَة التَّرجَمة: “ولأنَّ اللُّغات الحَيَّة تَتَغَيَّر وتَتَطَوَّر مع الزَّمَن نَتيجَةً لِعَوامِل مُختَلِفة، لذلك بَرَزَت الحاجة من آنٍ إلى آخَر إلى تَرجَماتٍ جَديدة تَكون أقرَب إلى مُفرَدات ذلكَ الزَّمان”.³ وهذا ما حاوَلوا العَمل عليه، بَل وأفرَطوا فيهِ لِدَرَجَة أنَّهُم تَبَنّوا مُصطَلَحات غير مَألوفة للَّاهوت المَسيحي بِهَدَف البَحث عن الأرضِيَّة المُشتَرَكة مع الجُمهور المَقصود من هذه التَّرجَمة، وهذا لهُ حَسَناتهُ طَبعاً لكن لهُ أيضاً الكَثير من التَّأثيرات السَّلبِيَّة.
من حَسَنات هذه التَّرجَمة أنَّها تَكاد تَكون أكثر تَرجَمة مَفهمومة للجُمهور الإسلامي لأنَّها تَستَخدِم مُفرَداتهِم ومُصطَلَحاتهمِ، حتَّى أنَّ العَديد من الأسماء المَوجودة في الكِتاب المُقدَّس قَد تَم تَغييرِها لتَتوافَق مع مَفاهيمهِم، الأَمر الذي لن يَكون مَقبولاً من مُعظَم المَسيحِيِّين وخاصَّةً لِما تَحمِلهُ تِلكَ الأسماء من دَلالات لاهوتِيَّة عَميقة في الكِتاب المُقدَّس وعلى رأسهم اِسم “يسوع” الذي يُتَرجَم هُنا بِاسم “عيسى”، و”أخنوخ” يُتَرجَم “إدريس”، و”باراباس” يُتَرجَم “اِبن عَبَّاس”، والعَديد من الأسماء العِبرِيَّة واليونانِيَّة أيضاً التي طالَها التَّغيير.
والمُشكِلة الأُخرى أنَّ الكِتاب المُقدَّس يَستَخدِم مُصطَلَحات لاهوتِيَّة مُحَدَّدة لِما تَحمِلهُ من تَعريف للمَفهوم المُراد، وعلى سَبيل المِثال: كَلِمَة “القَداسة” تُتَرجَم هُنا لِكَلِمَة “صَلاح”. صَحيح أنَّ الصَّلاح هو جزء من القَداسة لكنَّهُ ليسَ بَديلاً عَنها، لأنَّ الرَّب استَخدَمَ مَفهوم التَّكريس والتَّخَصُّص لله (وهذا ما تَعنيهِ القَداسة)، لكن تَرجَمَتها لتُصبِح “صَلاح” لن تُوفي المَعنى حَقَّهُ حتَّى لو بَدا المُصطَلَح أوضَح للقارِئ. لذلك بحَسب رَأيي كانَ من الأفضَل لو أنَّ هذه التَّرجَمة استَخدَمَت الهَوامِش لتَحديد مَعنى الكَلِمات والأسماء التي تُذكَر بشَكل حَصري في الكِتاب المُقدَّس، وهذا كانَ سَيُبقي على النَّهج المُتَّبَع من قِبَل المُتَرجِم مع الحِفاظ على الخُصوصِيَّة المَسيحِيَّة لهذهِ التَّعابير بآنٍ واحِد.
أيضاً سَأُعطي مِثالاً بارِزاً من هذه التَّرجَمة يُظهِر كيفَ أنَّ مُحاوَلة التَّبسيط الزَّائِد سَتُعَرِّض المُتَرجِم لأن يَفرِض على القُرَّاء فَرَضِيَّاتهِ اللَّاهوتِيَّة المُسبَقة، فالكَلِمة اليونانِيَّة التي يَستَخدِمها يوحَنَّا الرَّسول بكَثرة وتُتَرجَم في التَّرجمات الأُخرى بِكَلِمَة “العالَم” وهي التَّرجَمة الأدَقّ، إلَّا أنَّ تَرجَمَة الشّريف تُتَرجِمها في كَثير من المَواضِع على أنَّها “كُل النَّاس” مع العلِم أنَّ مَعناها ليسَ هكذا. يوحَنَّا يَستَخدِم هذه الكَلِمة بأكثر من مَعنى لذلك من خِلال سِياق النَّص يُحَدَّد المَعنى. فيقول يوحَنَّا في مَوضِع آخَر: “لا تُحِبُّوا العالَم…” وهو يَقصِد هُنا بالعالَم (النِّظام الذي أسَّسَهُ الإنسان بَعيداً عن مُخَطَّط الله)، فلَو استُبدِلَت كَلِمَة “العالَم” هُنا بكَلِمَة “كُل النَّاس” لَعارَضَ تَعليم الكِتاب المُقدَّس كَكُل الذي يَحُثّ على المَحَبَّة، وقَد أدرَكَ المُتَرجِمون هذه الحَقيقة فتَرجَموها إلى “لا تُحِبُّوا الدُّنيا…”.
أيضاً يقول يسوع “لَستُ أسأل من أجلِ العالَم…” حيثُ يَتكَلَّم هُنا عن صَلاتهِ للمؤمنين بشَكل خاص، كما أنَّها لم تُتَرجَم في الشَّريف إلى “كُل النَّاس” بَل إلى “فَلا أَدعو لأهلِ العالَم”. أمَّا في إنجيل يوحَنَّا 3 فيَنتَقِل الكاتِب من الحَديث عن الخُصوصِيَّة اليَهوديَّة إلى شُمولِيَّة الكَنيسة لليَهود والأُمَم وهذا التَّفسير الأنسَب لكَلِمَة “العالَم” هُنا، وليسَ “كُل النَّاس” لأنَّ الوَحي لا يَقصِد أنَّ كُل النَّاس سَيَخلُصون.
خاتمة
في الخاتِمة أنصَح القارِئ العَرَبي للكِتاب المُقدَّس أن لا يَعتَمِد بشَكل رَئيسي على تَرجَمة واحِدة بَل يَطَّلِع على أكثر من تَرجَمة خاصَّةً في النُّصوص الصَّعبة. لأنَّ المُتَرجِم قَد يُخطِئ ويوصِل لنا المَعنى بشَكل خاطِئ، لكن مُقارَنَة التَّرجَمات بِبَعضِها سَتوضِح لنا الكَثير من الأُمور والنُّصوص التي كُنَّا نَظُنّها مُبهَمة، مِمَّا سَيَجعَلنا نَفهَمها بشَكل أفضَل حتَّى لو لم نَكُن نَفهَم اللُّغات الأصليَّة للكِتاب المُقدَّس.
- Best-selling book. Guinness World Records.
- Church History Book. Philip Schaff.
- مقدمة ترجمة الشريف
مقالات مُشابِهة
آيات عن المعمودية
متى يجب أن أتعمد؟
ماهي بركات المعموديّة؟
الأساسيات في المسيحية