أُغلِقَت أمامهُ كل الأبواب وفقدَ الأمَل من كل شيء إلَّا شيئاً واحداً كان على يقين بأنَّه ملاذهُ الأخير، فماذا فعل؟
اختلفَ حليم مع والِده وتركَ البيت وكافحَ في العالَم وحده، ثمَّ تزوَّج وأصبحَ أباً لخمسة أطفال. كانت زوجته حَسنى تصنع الحلوى في المنزل وتبيعها للمتجر القريب من منزلها لكي تُساعد زوجها في تأمين مصاريف المعيشة ومدارس الأطفال، إلَّا أنَّهم كعائلة كانوا يحرِمون أنفسهم من أشياء كثيرة لكي يستطيعوا تلبية الاحتياجات الضَّروريَّة لأطفالهم.
صباح الخير، قال حليم لزوجته.
صباح النُّور، قالتها بغصَّة وهي ترى زوجها يرتدي حذاءه المُمزَّق، وأردَفت قائلة: حين تقبض راتبكَ هذا الشَّهر اشتري لنفسكَ حِذاءً جديداً. فابتسم بتهكُّم وذهبَ إلى عمله.
عادَ حليم إلى بيته مُكمَدّ الوجه يكاد يختنق فأسرعت حسنى لتسألهُ ما بهِ وقلبها يكاد يُغادر جسدها لكثرة خفقانه خوفاً وهَلعاً عليه، فأجهشَ بالبُكاء وراحَ يصيح: يا رَب لماذا تفعل بنا كل ذلك؟
فعاودت حسنى سؤالها: أخبرني ما بِك وماذا حصل؟
أجابها: ذهبتُ للعمل فوجدت المصنع مُقفلاً وقد وضعوا على بابهِ ورَقة مكتوب عليها بأنَّه مُغلَق حتَّى إشعارٍ آخَر، وبأنَّ المصنع يعتذر من جميع الموظَّفين عن عدم استطاعتهِ تأمين رواتبهم لأنَّه أعلنَ إفلاسه.
كادت حسنى تقع أرضاً حين سمعت الخبر، إلَّا أنَّها تماسَكت وأخذَت صَواني الحلوى وذهبت إلى عملها علَّها تؤمِّن بثمنها الضَّروريَّات القُصوى. لكنَّ صاحب المتجر اعتذرَ عن شِراء الحلوى منها وقال: يا ابنتي انا أعرف وضعك، لكن أحد زبائِني المُهِمِّين وجدَ شعرةً في إحدى القِطَع وطلبَ منّي أن لا أُعاوِد شِرائها منك. فعادت حسنى إلى بيتها تجُرّ أذيال الخَيبة بقلب مكسور.
وفي المساء جلسَت هي وزوجها واتَّحدا معاً بالصَّلاة دون أن يجِدا حلّاً، فكُل الأبواب قد أُقفِلَت أمامهما.
الحل الأخير
استفاقَ حليم في الصَّباح وقال لزوجته: لا تُرسِلي الأولاد إلى المدرسة اليوم وارتدي ثِيابكِ وتعالي معي، سوف نذهب جميعنا لنزور والدي.
فتفاجأت حسنى وسألته: وهل سيستقبلنا؟!
أجابها: أنا ابنهُ وسوفَ أعتذر منه، وإن لم يحِنّ قلبه علَيّ فمن المؤكَّد أنَّه سيَحِنّ على أحفادِه.
وصلَ حليم وقرعَ الباب، وحينَ دخل مع عائلتهِ ركعَ أرضاً وقال: سامحني يا أبي فأنا أغضبتُكَ وغادرتُ حضنكَ وابتعدت عنك، وإن كُنتَ لن تقبلني فأتوسَّل إليك أن تقبل أحفادك لأنّي لم أعُد أجِدُ وَسيلةً لإعالتهِم.
فأسرعَ والده ورمى بنفسهِ عليه وراح يُعانقه ويُقبِّله ويقول: هل تعلم يا بُنَيّ كم انتظرت عَودتك وكم اشتقتُ إليك؟ فلماذا لم تأتِ قبل الآن لتتنعَّم بثروَتك ولماذا وصلتَ لهذا الوَضع.
أجاب: لأنِّي كنتُ مُتَّكلاً على ذاتي ومُعتقِداً بأنِّي أستطيع العيش بعيداً عنك، لكن حين أُغلِقت بوجهي جميع الأبواب هرَعتُ إليكَ وأنا كُلِّي ثِقة بأنَّ بابكَ لن يُقفَل في وجهي أبداً، فأنا ومنذ نُعومة أظفاري كنتُ أرى كيف كان الغُرَباء يطرقونَ بابك وكيف كُنتَ تُساعدهم، فأتيتُ إليك لتترأَّف بأحفادِك.
لماذا تئِنّ تحت وطأة ظروفك الصَّعبة وأحمالك الثَّقيلة؟ في حين أنَّ لديكَ أباً صالِحاً في السَّماء ينتظر رُجوعك إليه واتِّكالك عليه، فهو الأب الحنون الذي يترأَّف على أبنائه. اِرجع إليه الآن واطلُب منه الرَّحمة والمغفرة على تقصيرِكَ تجاهه، وكُن على يَقين بأنَّه لن يتخلَّى عنك.
“الرَّبُّ رَحِيمٌ وَرَؤُوفٌ، بَطِيءُ الْغَضَبِ وَوَافِرُ الرَّحْمَةِ. لاَ يَسْخَطُ إِلَى الأَبَدِ وَلاَ يَحْقِدُ إِلَى الدَّهْرِ. لَمْ يُعَامِلْنَا حَسَبَ خَطَايَانَا وَلَمْ يُجَازِنَا حَسَبَ آثَامِنَا… مِثْلَمَا يَعْطِفُ الأَبُ عَلَى بَنِيهِ يَعْطِفُ الرَّبُّ عَلَى أَتْقِيَائِهِ. لأَنَّهُ يَعْرِفُ ضَعْفَنَا وَيَذْكُرُ أَنَّنَا جُبِلْنَا مِنْ تُرَابٍ.” (مزمور 8:103-10، 13، 14)
مقالات مُشابِهة
الأم الثكلى
ما يزرعه الإنسان إياه يحصد
قصة سارة